الديوانية – عباس رضا الموسوي:قد تكون من الاساطير التي تهيمن على عقول الناس البسطاء فيتناقلونها في مجالسهم لتبيت في فراشهم بهيئة الكوابيس , او انها قصص من نسج الخيال الخصب الذي يتحول في ذروته الى وهم،لذا فان بعضهم يؤكد انه رأها بام عينه وسمعها باذنيه ,
وقد تكون حقيقة اراد لها الخالق ان تجاور سكان الواحة الواقعة في عرض صحراء الشنافية 80 كم غرب مركز محافظة الديوانية فقدرة الله جل جلاله لا تقف عند حدود معينة , ومهما كانت حقيقة هذه الحكايات التي توضع فوق مستوى العقل فان مصدرها اهل هذه المنطقة النائية التي كل ما فيها يدل على معلم سياحي غير مستفيد منه كعين الماء التي تنبع منذ قرون بعيدة والقصرالقديم الذي شيد على ضفتها اليمنى وحزام النخل الشامخ الذي يحيط بها والصحراء التي تلتف حولها لتجعلها اشبه بجزيرة وسط محيط وغير ذلك من سحر الجمال الطبيعي الأخاذ .
سحر الطريق الى الواحة
عندما تتجه نحو واحة الشنافية يتوجب عليك المرور بطريق ملتف كبطون الحيات وسط صحراء موحشة تتسم بالصمت المطبق لتلوح لك بين الحين والاخر بيوت الشعر وقوافل الابل وقطعان الاغنام في مراعيها , اثناء السير تشدك العديد من الصور الشاعرية حيث أفياء الغيوم الراكضة على رمال الصحراء كأنها سني اعمارنا المتوارية , وكف الراعي التي تلوح من بعيد طلبا للماء بحركة تذكرك بكف فتاة احلامك في نهاية اخر لقاء عندما ارغمتها العادات البالية على القبول بما ترفضه كل مشاعرها , اما اسراب الطيور المهاجرة التي تأتي من نهاية الصحراء او الافق الممدود الى الابد فأنها تفرض عليك التوقف لترفع راسك المثقل بالهموم للحظة فترى امانيك المتطايرة قد رسمتها اسراب الطيور الغريبة باشكال زينت لوحة السماء , وعندما تسير في ذاك الطريق الذي يخرجك من ضجيج المدينة وصراخها غير المنقطع.
طبيعة المكان وحكاياب غريبة ان اغلب الاراء تتحدث عن عدم وجود تاريخ محدد لهذا النبع المتدفق وتشير الى انه وجد قبل الاسلام بدلالات عديدة من ابرزها نزول اعراب من قبيلة كنانة بجواره ليسكنوا لقرون من الزمن معتمدين على مياه النبع والدلالة الثانية لجوء الامام عبد الله ابو نجم الى المنطقة والاختلاط بسكانها قبل ان يقبض عليه من قبل العباسيين ويقتلونه حيث مازال مزاره شاخصا في المنطقة نفسها، كما ان الرجوع الى احداث تاريخية قديمة تتعلق بالعوائل القاطنة على النبع تدل على انه وجد قبل ازمنة بعيدة , اما السر الذي يكمن وراء تدفقه دون ان يحده او يجاوره نهر فهي ظاهرة طبيعية عرفت بها الصحراء وتدل على القدرة الالهية , اما طبيعته فانها خلابة فالحياة تبدأ من المكان الذي تنبع منه العين وتمتد المنازل على ضفتها اليسرى، اما الضفة اليمنى فقد شيد عليها قصر مهجور اختلف الاهالي حول تاريخ بنائه، فمنهم من يقول:
انه شيد من قبل العباسيين ومنهم من يذكر ان الاتراك بنوه بداية بسط نفوذهم ليكون بمثابة الحامية للجند وسكنا لاحد الامراء وعن هذا يقول احد سكنة المنطقة حسين الكايم :
ان القصر وجده الاباء والاجداد مشيدا ولا نعرف بالتحديد فترة بنائه او اسم صاحبه بل ان اغلبنا يتحاشى الدخول اليه لوحشته وما تدور عنه من احاديث غريبة، فيما يقول علي محمد ويؤيده عدد من السكان:
ان المنطقة حافلة بالامور الغريبة فبعض من الاهالي شاهدوا عن قرب ليلا خروج اسماك تضيء قاع النبع وسرعان ما تعود الى الفجوات المحصورة بين الصخور لتختفي تحت الارض وقد شاهد اخرون ومنهم انا شخصيا وجود كائنات شبه ادمية تخرج وتدخل القصر المهجور عند غروب الشمس لذا فان جميع السكان يتحاشون المرور جوار القصر ليلا , اما احدهم فقال :
ان الوحيد الذي سكن القصر هو افقر رجل في المنطقة قرر ان يكون السلطان نفسه فاتخذ من القصر مسكنا له وصار يتعامل مع الاهالي كرعية فتوقعوه انه يمازحهم حتى وجد نفسه قد تاقلم مع الواقع الجديد وعند صبيحة احد الايام افتقده الناس فوجدوه قد مات وهو اول واخر من قهر الخوف المتزايد في هذا القصر
منازل مشيدة بالصخور والحجر
ان سكان المنطقة الذين يبلغ عددهم نحو 1000 نسمة يعيشون حياة بسيطة جدا فاغلب منازلهم شيدوها من الصخور والحجر المتناثر في الصحراء المحيطة بمنطقتهم وسقفوها بجذوع النخيل والاشجار البرية النابتة على ضفاف الواحة التي تعد المصدر الاساس لحياتهم فمنها يشربون وفيها يغتسلون ويسقون مزروعاتهم البسيطة لذا فان الحياة التي يعيشونها بدائية تشبه الى حد كبير احلامهم وطموحاتهم بكل ما تعنيه الكلمة , وقد زاد على هذا العمال الذين صادفتهم يشيدون منزلا بسيطا اذ قالوا :
نحن نعمل بدون اجر ويطلق علينا (العوانة) حيث ان اغلب البيوت التي تشيد تنجز بهذه الطريقة فلا يخسر صاحب المنزل سوى الطعام والشراب والاهزوجات التي تمجد بنا وترفع من شأننا لتثور بنا الغيرة ونحن نعمل تحت لهيب الشمس المحرقة .
مواقع اثرية غير منقبة
ان الزائر يلاحظ اثناء مروره بالواحة ثمة تلول متناثرة هنا وهناك تدل على ان حياة للانسان القديم كانت هنا وخلال البحث وجدنا ان هذه المرتفعات عبارة عن اثار تاريخية تعود الى حقب مختلفة منها تلال الجوجب ( الكوكب ) وتلة راس العين واثار القاضي شريح وغيرها من مواقع يقول عنها كاظم كريم ( 47 سنة ) احد ابناء المنطقة ان الاهالي حرسوها من عصابات السطو على الاثار لانها تعد ضمن تاريخ منطقتهم فيما قال عبد الكاظم كامل ( 54 سنة ) ان سكان المنطقة اعتادوا على حماية الاثار كانها جزء من مسؤولياتهم الاخلاقية مضيفا ان الحرص جعلهم يأتون بالحجر الذي يشيدون منازلهم به من عمق الصحراء ( المضبعة ) خشية من تخريب المكان الذي بقي محافظاً على معالمه منذ قرون بعيدة .
رحلات صيد الطيور النادرة في سفرة مماثلة قبل ثلاث سنوات كنت قد عقدت صداقة مع احد ابناء المنطقة وهو من المولعين بالصيد الى حد كبير ولكن وفائي الشحيح حال دون التواصل لذا فان ( جاسم ) سرعان ما اوقف دراجته النارية ورمى بندقيته ( الكسرية ) وحزمة طيور كان قد اصطادها للتو واخذني صادقا بالاحضان وراح يرفدني بمعلومات عن طبيعة عمله اذ يقول :
ان اغلب الرجال في هذه المنطقة اعتادوا الصيد في البراري منذ نعومة اظافرهم ففي رحلات الصيد يكسب الرجل الرزق مثلما يحصل على ليالي التعاليل والعزف على الربابة وقول الشعر ويجد راحته مع الهواء العليل مضيفا :
ان رحلات الصيد في الصحراء والمبيت لليال لا تخلو من الخطورة حيث الحيوانات المفترسة خصوصا الذئاب التي نتحاشاها بايقاد النار والافاعي السامة التي نبعدها برمي قشور البصل في محيط مجلسنا اما عن الطيور التي يصطادونها فهي بحسب الموسم كالحنجل والبط البري اما اثمنها فهي الصقور النادرة التي تباع بالعملة الصعبة .
876 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع