كشف موقع "المجلة" عن مضمونها وقدم الرئيس العراقي تنازلات كبيرة لطهران لتحقيق مكاسب لكن الحرب انتهت بانكساره المدوي
أنجي مجي/ الأندبيندت عربية:لا يزال عالم السياسة مليئاً بالأسرار المثيرة التي تظل حبيسة الأدراج أو النفوس لعقود، لكن بين حين وآخر تتكشف بعضها لتطرح قطعة أحجية جديدة في فك لغز أولئك القادة، لا سيما الاستبداديين منهم، وأحدث هذه الأسرار تتعلق بالرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي دأب على خوض الحروب مع جيرانه حتى إنه لم يكد ينته من حرب استمرت ثماني سنوات مع إيران بين عامي 1980 و1988 حتى بدأ الإعداد لغزو الكويت في أغسطس (آب) 1990.
وكشف موقع "المجلة" عن مضمون رسائل سرية بعثها صدام حسين إلى المرشد الإيراني علي خامنئي والرئيس هاشمي رفسنجاني قبل غزو الكويت وبعده وتهدف إلى التمهيد الغزو، إذ بادر الرئيس العراقي الراحل بإرسال رسائل في الـ 21 من أبريل (نيسان) 1990، واستمر تبادل الرسائل إلى ما بعد الغزو في الثاني من أغسطس.
وتضمنت الرسائل التي حمل بعضها رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات ودبلوماسيون من العراق وإيران، عرضاً عراقياً للتهدئة مع طهران وصلت حد تقديم تنازلات كبيرة من صدام ليقبل جميع شروط طهران.
التمهيد لغزو الكويت
بدأت التوترات السياسية بين العراق والكويت تتصاعد في الـ 16 من يوليو (تموز) 1990، إذ سلّم العراق جامعة الدول العربية مذكرة احتجاج شكا فيها الكويت والإمارات على خلفية ما وصفه بزيادة ضخ النفط مما أدى إلى هبوط أسعاره، والتأثير في الاقتصاد العراقي. وفي الـ 17 من يوليو عام 1990 ألقى صدام حسين خطابا في ذكرى ثورة يوليو 1968، "اتهم فيه دولاً خليجية، وتحديداً الكويت، بالضلوع في مؤامرة نفطية ضد العراق"، مهدداً باستخدام "رد مناسب" ضدها.
وسبق ذلك تصعيد لافت خلال القمة العربية الاستثنائية التي استضافتها بغداد في الـ 28 من مايو (أيار) 1990، وترأس القمة حينها صدام، وتجاوزاً لموضوع انعقاد القمة الذي كان يتناول الأمن القومي العربي بناء على دعوة من عرفات، اتهم صدام "الكويت بسرقة النفط العراقي".
ووفق مراقبين فقد جاء الغزو كمحاولة لمواجهة أزمة اقتصادية حادة ألمت بالعراق بسبب تراكم الديون جراء حربه مع إيران، فذهب صدام إلى اتهام جيرانه في الخليج بتعمد خفض أسعار النفط عبر ضخ كميات أكبر من حصتهم من الحقول النفطية المشتركة بينهما، وعندما رفضت الكويت إلغاء ديون الحرب العراقية قرر صدام حسين غزوها.
ويبدو من المقتطفات التي نشرتها "المجلة" حاجة صدام إلى غلق جبهة التوتر مع إيران قبل فتح جبهة جديدة للحرب، ففي رسالته الأولى لخامنئي ورفسنجاني في الـ 21 من أبريل 1990، والتي يقول فيها "سبق لي وأن خاطبتكم في مناسبات سابقة أثناء الحرب بصورة غير مباشرة عبر وسائل إعلام العراق، وكانت آخر مبادرة توجهنا بها إليكم بنية لا ريب فيها إلى تحقيق السلام الكامل والشامل، هي تلك التي أعلناها في الخامس من يناير (كانون الثاني) 1990، غير أننا لم نهتد معاً حتى الآن إلى ما نرجوه من سلام بين بلدينا لنغادر معاً مآسي الحرب واحتمالات اندلاعها من جديد، وإنه لأمر مفهوم أن تحيط الظنون والهواجس والتفسيرات المتشككة".
وأضاف، "أخاطبكم هذه المرة مباشرة لأقترح عليكم في هذا الشهر المبارك الذي يصوم فيه المسلمون عقد لقاء مباشر بيننا يمثلنا فيه عبدالله صاحب هذه الرسالة، السيد عزت إبراهيم الدوري وفريق من معاونينا، ويمثلكم فيه السيدان علي خامنئي وهاشمي رفسنجاني وفريق من معاونيكم لنعمل بعون الله على تحقيق السلام ومنع الفتنة التي وقعت بين إيران والعراق بتجديد الحرب".
كما اقترح صدام عقد لقاء في ثاني أيام عيد الفطر، مما يشير إلى حاجته الماسة إلى ترتيب الأمر مع طهران سريعاً.
وبدا رفسنجاني في رده على الرسالة معاتباً صدام بالقول "لو أرسلت هذه الرسالة قبل ثماني سنوات لما كانت إيران والعراق وربما جميع الأمة الإسلامية تواجه كل هذه الخسائر والضحايا اليوم"، وفي الوقت نفسه أبدى ترحيبه بمبادرة الرئيس العراقي مؤكداً الرغبة في سلام حقيقي وشامل.
حرب مدمرة
وأدت الحرب العراقية - الإيرانية التي اندلعت في الـ 22 من سبتمبر (أيلول) 1980 وامتدت لثماني سنوات إلى مقتل أكثر من نصف مليون شخص وفي تقديرات أخرى نحو مليون شخص، وقدرت خسائرها المالية بحوالى 1.19 تريليون دولار.
وبدأت الشرارة الأولى للحرب في الـ 17 من سبتمبر 1980 عندما تخلى صدام عن "اتفاق الجزائر" عام 1975 إثر صراعات حدودية، وهو الاتفاق الذي وقعه مع شاه إيران ويقضي بالتنازل عن نصف شط العرب لإيران، لكن صدام ادعى قيام الإيرانيين بقصف مناطق حدودية وقام بالرد من خلال قصف العمق الإيراني، لتشتعل الحرب التي لعبت فيها الولايات المتحدة دوراً رئيساً من خلال دعم بغداد بالعتاد والقوات.
وشهدت حرب السنوات الثماني فصلاً مميزاً مما يطلق عليه "حرب الناقلات"، إذ كانت ناقلات النفط هدفاً رئيساً في صراع الطرفين، ووقعت في ذروة الحرب الكبرى بين إيران والعراق خلال السنوات الأخيرة من إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان، فمع خسارة ساحة المعركة قرر المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آنذاك آية الله الخمينى إغلاق الخليج العربي في وجه السفن المحملة بالنفط العراقي والتابعة للدول الداعمة لصدام، وعلى رأسها الكويت والإمارات، وهددت إيران بأنها لن تترك طرق الملاحة آمنة في الخليج إذا ما بقي الطريق إلى مينائها النفطي في جزيرة "خرج" مهدداً.
وشهد ربيع عام 1984 مهاجمة السفن الكويتية والسعودية، ففي الـ 13والـ 14 من مايو 1984 قصفت الناقلتان الكويتيتان (أم القصبة) و(بحرة)، وفي الـ 16 من الشهر ذاته قصفت الناقلة السعودية (مفخرة ينبع) في ميناء "رأس تنورة" السعودي، وبعدها طلب الكويتيون المساعدة من الغرب، وبالفعل أرسلت الولايات المتحدة أسطولاً إلى الخليج رافعاً العلم الأميركي فوق الناقلات التجارية الكويتية.
ويقول الكاتب الأميركي لي ألن زاتاريان في كتابه الصادر في يناير 2009 إن "حرب الناقلات هي أول حرب لأميركا، وأدى هذا التدخل إلى ساحة صراع مفتوحة، إذ زرع الإيرانيون الألغام في مضيق هرمز وأطلقوا قوارب هجومية ضد كل من الناقلات والسفن الحربية الأميركية، وبالفعل اصطدمت سادس أكبر سفينة في العالم، الناقلة الأميركية "إس إس بريدجستون" في 24 من يوليو 1987، بلغم إيراني فغرقت، وخاضت بعدها القوات البحرية الأميركية أكبر معركة منذ الحرب العالمية الثانية ضد زوارق الهجوم الإيرانية.
وفي هذه الأثناء وصلت قوات البحرية الأميركية "سيلز" إلى الخليج لمحاربة الإيرانيين، ويقول الكاتب الأميركي "جلس صدام حسين الذي حرض على الصراع يشاهد إطلاق إيران صواريخ (دودة القز) ضد السفن الأميركية، وهي أعمال لو تم الإعلان عنها في ذلك الوقت فسيتطلب من الكونغرس إعلان حرب ضد إيران".
ويضيف، "في يوليو عام 1988 أطلق بحارة السفينة الحربية (يو إس إس فينسنس) النار على طائرة إيرانية تحلق في الجو مما أسفر عن مقتل 300 مدني، وجاءت هذه الحادثة قبل شهر واحد من نهاية الحرب، وربما كان القشة الأخيرة للسيطرة على آية الله الخميني".
ويصف زاتاريان "الحرب بين إيران والعراق بأنها كانت مدمرة، فلقد كانت واحدة من أكبر وأطول الحروب التقليدية منذ انتهاء الحرب الكورية عام 1953، إذ قتل نصف مليون شخص وربما أصيب مليون آخرون، وتجاوزت الكلفة الاقتصادية للحرب تريليون دولار، وكانت أيضاً الحرب الوحيدة في العصر الحديث التي استخدمت فيها الأسلحة الكيماوية على نطاق واسع".
شروط إيرانية وعرفات همزة الوصل
وبينما رغب صدام أخيراً في السلام مع إيران للتفرغ إلى جبهة أخرى للحرب، طرح الإيرانيون ثلاثة شروط في سبيل تحقيق هذا السلام، فقال رفسنجاني في رسالته إن "مواصلة احتلال قسم من أراضينا الإسلامية سيجعل حركتنا في طريق الوصول إلى صلح شامل بطيئة أو غير مثمرة، وأنتم تعلمون أننا وبعد قرارنا بإيقاف الحرب سحبنا جميع قواتنا في داخل العراق إلى حدودنا من دون إبطاء"، أما الشرط الثاني "فقبل الإقدام على إجراء الاتصال بين رئيسي جمهوريتي البلدين لا بد من جلوس ممثل من جانبنا وممثل من جانبكم في إحدى الدول التي لها علاقات ودية"، والثالث أنه "يجب أن يكون أسلوب الإجراءات تاماً بحيث لا يوجد أي خلل في اعتماد القرار (598) باعتباره الإطار المناسب لحل النزاعات".
وهنا برز دور الرئيس الراحل ياسر عرفات في الوساطة بين الطرفين عبر نقل الرسائل من خلال مندوب بعث به إلى طهران، ففي رسالة بتاريخ الـ 22 من مايو 1990، كتب عرفات لخامنئي "أغتنم فرصة وصول رسولنا إليكم، الأخ أبو خالد، وهو يحمل رسالة خاصة من السيد الرئيس صدام حسين والتي قمت بتسليمها له، وهذه الرسالة المفاجئة والمهمة هي مبادرة حسن نية من العراق إلى إيران، بل من القيادة العراقية إلى إخوانهم في القيادة الإيرانية التي أملتها الظروف الخطرة التي تمر بها الأمة الإسلامية بشكل عام والأمة العربية بشكل خاص، إن العالمين العربي والإسلامي بل وشعوب ودول العالم الثالث وشعب فلسطين بالخصوص لينتظر منكم المبادرة الإيجابية والبناءة أمام هذه المبادرة التي يرسلها إليكم السيد الرئيس صدام حسين، وهي تأتي بناء على هذه العوامل المجتمعة وعلى أرضية المساعي الخيرة التي ننطلق منها لإنهاء هذا الوضع بين البلدين الشقيقين المسلمين لما فيه خير الشعبين الإيراني والعراقي، وخير الأمة الإسلامية وخير فلسطين وشعبها المجاهد، وأناشدكم بكل المحبة والأخوة وبكل المقدسات أن نسارع بهذه الخطوة المباركة، فأفئدة المسلمين ترنو إليكم وتهفوا لنجاحها".
وبدت الأمور متوترة أحياناً في الرسائل المتبادلة بين بغداد وطهران، فرداً على رفسنجاني يقول صدام في رسالة بتاريخ الـ19 من مايو، "قرأت الرسالة وأعدت قراءتها أكثر من مرة، أنا وإخواني في القيادة وعلى رغم أننا قد فهمنا من رسالتكم أنكم توافقون على اقتراحنا لعقد لقاء بيننا وبينكم على مستوى القمة لإعطاء حل حاسم ونهائي للمشكلات المعلقة بين بلدينا، والتي كانت سبباً للنزاع أو نتيجة له، وإننا قد سررنا بذلك إلا أن روح الرسالة لم تكن كما كنا نأمل، ذلك أنها انطوت على عبارات مبطنة في بدايتها وحيثما وجدت فرصة لذلك، وخشنة في خاتمتها".
وبحسب ما نشرته "المجلة" فقد ذهب صدام ليفند نصوص الرسالة: "من ضمن ما ورد في رسالتكم من عبارات ومصطلحات مثل (الحرب المفروضة) و(بطء الفهم) واختتام رسالتكم بجملة (والسلام على من اتبع الهدى) بدلاً من (والسلام عليكم)، مما هو معتاد استخدامه في رسائل كهذه، والواجب يقتضي أن نجرب أسلوباً جديداً في التخاطب غير أسلوب الحرب أو الزمن الذي سبقها". وأضاف، "أما عن قرار مجلس الأمن رقم (598) فهو في نظرنا منذ أن قبلناه بعد صدوره في يوليو عام 1987 خطة سلام شامل ودائم بين البلدين، وفق ما يتفقان عليه مستعينين بما ورد فيه من مبادئ وأحكام، وعندما يتحقق السلام فإنه من تحصيل الحاصل أن يكون جيش كل بلد داخل بلده، وألا يكون له امتداد على أي تلة أو شبر أرض أو في مياه أي من البلدين، مما فرضته ظروف خاصة واعتبارات وقف إطلاق النار وحالة اللاحرب واللاسلم".
وتابع صدام، "ذكرتم في رسالتكم أنكم انسحبتم من الأراضي العراقية، وتعنون بذلك انسحابكم من حلبجة في ظروف خاصة معروفة إلى آخر الجملة، وتعليقنا على ذلك أننا انسحبنا من أراضيكم التي دخلت إليها جيوشنا في ظروف معروفة بداية النزاع المسلح عام 1980، وتم ذلك في الـ 20 من يونيو 1982 بعد أن أعلنا قرار الانسحاب ذاك في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة في الـ 10 من يونيو 1982، والذي قلنا فيه إننا سننسحب في مدة أقصاها 10 أيام وقد طبق فعلاً، بينما انسحبت قواتكم من حلبجة في ظروف قتال خاصة غير الظروف التي انسحبت فيها جيوشنا".
وأضاف، "لذلك فإذا كنتم تعدون انسحابكم من حلبجة الذي حصل في ظروف خاصة دليلاً على إثبات حسن النية الذي ينفي عنكم الطمع أو الرغبة في الاحتفاظ بأراضي الغير، فإن الأصح أن يعد انسحابنا من أراضيكم عام 1982 وانسحابنا من أراضيكم بعد معارك (توكلنا على الله الرابعة) في قاطعي الجنوب والأوسط في يوليو 1988 دليلاً إضافياً، مع الدلائل الأخرى على حسن نيتنا وعدم رغبتنا في احتفاظ العراق بأي شبر من أرض إيران".
لا وقت للرسائل
كان الإيرانيون غير معجبين بطريقة التواصل عبر الرسائل، إذ يبدو أنهم كانوا يرغبون في القفز سريعاً نحو تحقيق شروطهم للسلام، فكتب رفسنجاني لصدام مطالباً بألا يضيع الوقت في تبادل الرسائل وقال، "أدعو الله أن تكون هذه آخر رسالة وأن نشهد خطوات عملية جدية في طريق السلام"، وحسم أمر عدم مشاركة خامنئي في المحادثات بين الطرفين، إذ شملت رسالته الرد على الخلاف في شأن تفسير القرار (598) وتنفيذه قائلاً، "إن السيد سيروس ناصري ممثلنا في المحادثات مع ممثلكم، وإن مهمته هي المحادثات في القضايا الجوهرية لتنفيذ القرار وتهيئة الأرضية لاستئناف العلاقات السلمية بين البلدين، وطلبنا منه أن يتحاشى الاشتراك في بحث القضايا الشكلية والهامشية التي تؤدي إلى قتل الوقت وإطالة الوضع الحالي، ولا بد من أن نؤكد أن لقاء رئيسي الجمهوريتين سيكون مناسباً وصالحاً فقط في حال وثق الطرفان من نتائجها الإيجابية، وبعكس ذلك فإنه من الممكن أن تكون لها آثار سلبية وخسائرها أكثر من الوضع الحالي".
كما رفضت إيران أن تعقد القمة في السعودية، و"انتخاب المكان المناسب للطرفين لن يمثل مشكلة بالنسبة إلينا ويفضل أن تكون وجهة النظر محددة عشية بدء المحادثات".
وبينما اقتربت ساعة الصفر وبلغت التوترات بين العراق والكويت أوجها في يوليو عام 1990، أصبح صدام في عجلة من أمره ومستعداً لتقديم ما ترغب فيه إيران من تنازلات، وتقول "المجلة" إنه في الـ 30 من يوليو وقبل اجتياح الكويت بثلاثة أيام أرسل صدام رسالة إلى رفسنجاني كشفت عن تصميمه على الوصول إلى اتفاق مع إيران بأي ثمن، مفنداً بنود مبادرته ومقترحاً إعادة فتح سفارتيهما في طهران وبغداد لتسهيل التواصل بينهما.
وقد أبدت طهران موقفاً إيجابياً حيال الرسالة، إذ رد رفسنجاني برسالة سريعة تضمنت أجوبة على كل النقاط في رسالة صدام قائلاً إن "النقطة التي أكدتم عليها في رسالتكم حول الإسراع في الحركة باتجاه السلام نقبلها تماماً، ولكن هذا لا يعني أن تكون السرعة والتقدم في طرح الاقتراحات الشكلية ورفع مستوى المحادثات من دون أن يحصل تقدم في محتواها، بل يجب التقيد بالاتفاقات الثنائية المعترف بها دولياً، ولا نطالب بأكثر من حقوقنا المشروعة لأنه لا يمكن التصور بأن يحصل في المحادثات ما لم يتحقق خلال حرب دامت ثماني سنوات".
لهجة أكثر دفئاً
وقد تغيرت لغة الرسائل فور الغزو العراقي للكويت وبدت أكثر دفئاً، لا سيما مع حاجة صدام إلى من يدعمه في ظل الدعم الغربي للكويت، فالولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي حينها مضيا قدماً في استصدار قرارات من مجلس الأمن تدين التحرك العراقي في الكويت، وتحشد تأييداً دولياً لتشكيل تحالف دولي لإجبار بغداد على الانسحاب من دون شروط ولو بالقوة العسكرية، وعلى رغم الانقسام العربي إلا أن قرار جامعة الدول العربية الذي دان الغزو العراقي على الكويت واعتبر ضم بغداد للكويت وما يترتب على ذلك من نتائج باطلاً، وشجب التهديدات العراقية لدول الخليج العربي واستنكر حشد القوات العسكرية العراقية على حدود السعودية، كما أعلن الاستجابة لطلب الرياض بنقل قوات عربية إليها.
وعقب اجتياح الكويت بعث صدام رسالة جديدة إلى طهران تطرقت إلى البيانات الرسمية الإيرانية والتحركات العسكرية تعليقاً على الغزو، ثم استعرض مبادراته سواء برسائله أو بلقاءات سفيري البلدين في جنيف، وقال "إن العراق وإيران إذا ما انزاح موقف أي منهما عن موضعه الصحيح فإنه سيفوت فرصة تاريخية على شعبه في الفوز بالسلام إلى جانب تثبيت حقوقه المشروعة، وإن الخسارة ستكون كبيرة إذا ما اهتز مسار ما أنجزناه".
وبعث صدام رسالة استجدائية إلى رفسنجاني رداً على واحدة وصلت في الثامن من الشهر ذاته، ثم مبادرة قدمها في اليوم الـ 12 بهدف "تحقيق السلام الشامل، وكي لا نبقي لذي حجة ما يمنعه من التفاعل وإبقاء الهواجس والتحسب، ولكي لا تبقى أي من طاقات العراق معطلة خارج ميدان المنازلة العظيمة، وحشدها باتجاه الأهداف التي أجمع المسلمون والعرب الشرفاء على أنها حق، ولإبعاد التداخل عن الخنادق وإبعاد الظنون والهواجس ليجد الخيرون طريقهم إلى علاقات طبيعية بين العراق وإيران، وكثمرة لحوارنا الذي امتد بصورته المباشرة منذ رسالتنا، قررنا الموافقة على مقترحكم الذي جاء في رسالتكم الجوابية المؤرخة في الثامن من أغسطس التي استلمها ممثلنا في جنيف السيد برزان إبراهيم التكريتي من ممثلكم السيد سايروس ناصري، باعتماد اتفاق عام 1975 مترابطاً مع الأسس الواردة في رسالتنا بتاريخ 30/7/1990، وبخاصة في ما يتعلق بتبادل الأسرى، والفقرتين السادسة والسابعة من قرار مجلس الأمن الدولي (598)".
كما أبدى صدام الاستعداد لإرسال وفد إلى طهران أو استقبال وفد في بغداد لـ "إعداد الاتفاقات والتهيؤ لتوقيعها على المستوى الذي يتم الاتفاق عليه، وكبادرة حسن نية فإن انسحابنا سيبدأ اعتباراً من يوم الجمعة 17 أغسطس، وسنسحب قواتنا التي تواجهكم على طول الحدود بما يبقي ما هو رمزي منها، مع حرس الحدود والشرطة وحسب، لتنفيذ الواجبات اليومية لظروف طبيعية، وأن يتم تبادل فوري وشامل لكل أسرى الحرب المحتجزين في كل من العراق وإيران بكل أعدادهم، وأن يتم ذلك عبر الحدود البرية ومن طريق خانقين - قمر شيرين ومنافذ أخرى يتفق عليها، وسنكون نحن المبادرين إلى هذا وسنباشر به اعتباراً من يوم الجمعة المصادف 17 أغسطس".
انتصار إيراني وهزيمة عراقية
ووفق الرسالة المنشورة فإن صدام وصف الرئيس الإيراني بـ"الأخ" قائلاً "أيها الأخ الرئيس علي أكبر هاشمي رفسنجاني، في قرارنا هذا أصبح كل شيء واضحاً، وبذلك تحقق كل ما أردتموه وما كنتم تركزون عليه، ولم يبق إلا ترويج الوثائق لنطل معاً من موقع إشراف بيّن على حياة جديدة يسودها التعاون في ظل مبادئ الإسلام ويحترم كل منا حقوق الآخر، ونبعد المتصيدين في الماء العكر من شواطئنا، وربما تعاونا بما يبقي الخليج بحيرة سلام وأمان خالية من الأساطيل الأجنبية وقوى الأجنبي التي تتربص بنا الدوائر، إضافة إلى ميادين الحياة الأخرى".
وأخيراً جاء الرد الإيراني فبعث رفسنجاني رسالة لصدام يقول فيها، "جناب السيد صدام حسين رئيس الجمهورية العراقية المحترم، لقد تم استلام رسالة سيادتكم المؤرخة في الـ 14 من أغسطس 1990، بأن إعلان قبولكم من جديد معاهدة عام 1975 قد مهد الطريق لتنفيذ القرار وحل الخلافات في إطار القرار (598) وتبديل وقف إطلاق النار إلى سلام دائم وصامد، ويعتبر انسحاب قواتكم من الأراضي الإيرانية المحتلة دليلاً على صدقكم وجديتكم في طريق السلام مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومن حسن الحظ أن هذا يتزامن مع الموعد المقرر لإطلاق الأسرى، ونأمل مواصلة انسحاب قواتكم بحسب الجدول الزمني المعلن، واستمرار عملية إطلاق أسرى الطرفين بصورة أسرع حتى تتكامل، وكما أعلمناكم من طريق ممثلنا في جنيف فإننا مستعدون لقبول ممثلكم في طهران، آملين مع استمرار الجو الإيجابي وحسن النية الموجودة أن نتمكن من الوصول إلى سلام شامل وثابت مع الحفاظ على جميع الحقوق والحدود المشروعة للشعبين والبلدين المسلمين".
قدم صدام تنازلات لطهران من أجل تحقيق مكاسب في الكويت لكن الحرب انتهت بهزيمة مدوية للرئيس العراقي بعد تدخل دولي لتحرير الكويت من خلال ما يعرف بـ "عاصفة الصحراء" التي أسفرت عن مقتل أكثر من 100 ألف في صفوف الجيش العراقي، فضلاً عن 200 ألف مدني في مقابل 505 جنود من قوات التحالف الدولي.
وخسر العراق حوالى 4 آلاف دبابة و240 طائرة، ودمرت دفاعاته الجوية وقواعد إطلاق صواريخه وسفنه الحربية في الخليج، وفق هيئة الإذاعة البريطانية. وإضافة إلى تسبب القصف الجوي بتدمير المرافق والبنية التحتية العراقية، فقد جمد مجلس الأمن الدولي مبالغ كبيرة من الأرصدة العراقية في البنوك العالمية لدفع تعويضات للمتضررين نتيجة الغزو، وهي التعويضات التي قدرت بنحو 52 مليار دولار، وأدى الحصار الذي فرض على العراق بعد هذه الحرب واستمر نحو 12 عاماً إلى أزمة إنسانية كبيرة.
1461 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع