عراقيون يتحسرون: افتقدنا لهكذا رموز للدبلوماسية.
لاقت إطلالة وزير الخارجية العراقي الأسبق ناجي صبري الحديثي في برنامج "الجانب الآخر" تفاعلا لافتا ليس فقط من قبل أبناء بلده بل والوطن العربي، وهذا ليس بغريب فهو رجل استثناء، لم يبخل على العراق في أحلك الأوقات.
العرب/لندن - سيرة حياة وزير خارجية في العراق، في أيّ عهد من عهوده، صعبة على الإحاطة، لما ظل العراق يمثله من مكانة في محيطه الإقليمي والدولي، ولما مرّ به من منعطفات وتقلبات وسمت حياة العراقيين أنفسهم بالتقلب والاضطراب. وأصعب منها سيرة وزير الخارجية الأخير قبل الغزو الأميركي للعراق ناجي صبري الحديثي.
في تلك الأيام الحالكة، كان العراق على موعد مع تراجيديا لم يسبق لبلد أن مر بها، عندما انتصب جزء كبير من قوى العالم ضده، وعندما تحولت الأمم المتحدة نفسها إلى منبر للعدوان، بحثا عن المخفي أو اللاموجود من أسلحة الدمار الشامل، بينما كان الغرض الصريح هو الدمار الشامل للعراق، وليس البحث عن أسلحة تحمل هذا الاسم. وهو ما كان عندما تحول ما يعتبره الحديثي “مخططا إسرائيليا” لدمار العراق، إلى جحيم لم تنطفئ نيرانه حتى بعد مرور عقدين من الزمن على ساعة الغزو تلك. ووزير للخارجية، في ظرف كهذا، ليس منصبا يمكن أن يتمناه أيّ أحد.
برنامج “الجانب الآخر” الذي عرضته قناة الجزيرة لمقدمته علا الفارس حاول أن يرسم بعضا من ملامح ناجي صبري الحديثي. وفعل على أفضل ما قد يمكن لبرنامج تلفزيوني أن يغطيه في 45 دقيقة. جذبت حلقة ناجي صبري الحديثي مئات الآلاف من المتابعين ليس فقط في بلده العراق بل والوطن العربي، وهو يستعرض المراحل التي قطعها والعراق وحنينه إلى بلد فارقه وهو يسكن فيه، ولاقت الحلقة تفاعلا إيجابيا لافتا، قلما تحصل عليها شخصية عربية تقلدت مناصب سياسية.
علق فائق الشيخ علي عبر حسابه على “إكس” على حلقة ناجي صبري الحديثي قائلا:
قائمة التعليقات طويلة، وكلها تجمع على أن ناجي صبري الحديثي رجل استثناء، فقده العراق وافتقده. هذا الرجل هادئ الطبع، البعيد عن الصخب، الذي ظل يرتكب جريمته الوحيدة من دون انقطاع (حب العراق، كما يحب المرء أمه وأباه)، انقلبت به الأقدار من هدوء بلدة حديثة وبساتينها ونواعير فراتها إلى صخب المأساة التي أسفرت عن غزو العراق، لتحوّله إلى منفى، في بلد أكرمه، قطر، ليكرم من خلاله في النهاية رجلا من رجال العراق. تقلبت فصول حياة الحديثي كما تتقلب الجمرة، بين نار ونار. واحدة للمتغيرات التي ظلت تميد بالعراق، وأخرى بالحروب التي عصفت به.
الحديثي الذي شغل منصب وزير دولة للشؤون الخارجية، ثم وزيرا للخارجية في الفترة بين 2001 و2003، كان رجلا يمتلك الجرأة على الاختلاف، في بيئة سياسية لم يكن الاختلاف فيها شجاعة ميسورة. وظل شيء ما يحميه، ويكشف عن طبيعته، هو الجرأة على الصدق مع النفس والآخرين.
عمل محررا في صحيفة “الثورة” عندما كان وزير الخارجية الراحل طارق عزيز رئيسا للتحرير فيها. اختلفا في المنهج ما دفعه إلى الاستقالة، ولكن من دون أن تنشأ بينهما إلا الصداقة والثقة. ومن وظيفة عامة إلى أخرى، ظل الحديثي يقدم خدماته في إطار مؤسسات الدولة، إخلاصا للدولة نفسها، وذلك على الوجهين، عندما كان حزبيا، وعندما تم تجريده من حزبيته، على حد سواء.
صار ملحقا ثقافيا في لندن وليؤسس أول مركز ثقافي للعراق هناك، قبل أن يصبح سفيرا للعراق في النمسا، وممثلا له في العديد من المنظمات الدولية. ساعدته لغته الإنجليزية، التي حمل شهادة الدكتوراه في أدبها، على أن يكون متحدثا مسموعا في الأوساط الغربية وإعلامها على وجه الخصوص.
ورث الحديثي منصب طارق عزيز في الخارجية من أجل مقاربة عملية أقل تأثرا بما يثير الانفعالات في العلاقة مع الأمم المتحدة ومجلس أمنها. ونجح في أن يكسب بعض الوقت، ودعم بعض الدول الكبرى لمنع العدوان على العراق. ولكنه نجح في إرجائه فقط لأن الخطط المعدة سلفا لم تكن لتستطيع المزيد من الانتظار ولأن الأطراف التي وضعت المخطط ظلت تخشى من أن يعود العراق قويا من جديد، فآثرت الإسراع في تدميره.
حدث الغزو، وانتهى الحديثي "هاربا" عبر الحدود إلى سوريا، قبل أن يجد ملجأ في قطر. احتضنه أميرها الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني، وأحاطه وأسرته بالرعاية إكراما له وللعراق.
القدرة على الإمساك بعصب الهدوء في بيئة سياسية صاخبة يتطلب أن يكون المرء من طينة أصلب مما يسمح به تقلب الجمرة بين النار والنار. إلا أن الحديثي، الواثق من وطنيته وإخلاصه، جعل من “المهنية” أداة لما يُبقي العقل باردا ولو ظل الفؤاد يتحرق. ثم لم يكفّ الحديثي عن ارتكاب تلك الجريمة حتى أورثها بدوره لأربعة أبناء وحزمة أحفاد.
1086 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع