تعداد السكان في العراق، وبخلاف ما هو قائم في أغلب بلدان العالم، ليس مجرّد عملية تقنية تتم لأغراض إجرائية ونفعية مباشرة تتصل بالاقتصاد والتنمية وتقديم الخدمات للسكان وتحديد مستوى رفاه المجتمع، بل له ارتباط أيضا بخلفيات سياسية تتصل بنظام المحاصصة الطائفية والعرقية وما يقتضيه من تقاسم للسلطة والموارد، الأمر الذي يفسّر تعذّر إجراء التعداد طيلة أكثر من ربع قرن.
العرب/بغداد - أطلقت وزارة التخطيط العراقية الأحد حملة الحصر والترقيم استعدادا لتنفيذ التعداد العام للسكان، بينما أقرّ المجلس الأعلى للسكّان في اجتماع له برئاسة رئيس الوزراء محمّد شياع السوداني جملة من الإجراءات الخاصّة بعملية التعداد التي تكتسي في العراق طابعا أكثر حساسية وتعقيدا قياسا بسائر بلدان العالم نظرا لكونها لا ترتبط فقط بالمعطيات الاقتصادية والتنموية والخدمية ومستوى رفاه المجتمع، بل لها صلة أيضا بالنظام السياسي القائم على المحاصصة بين الطوائف والأعراق، ما يجعل لنسب المكوّنات أهمية ضمن الأرقام المتعلّقة بالسكان وتوزّعهم الجغرافي بين المناطق.
كما لا تنفصل العملية عن النزاع بين الدولة الاتحادية العراقية وإقليم كردستان العراق على انتماء عدد من المناطق، في مقدمتها محافظة كركوك الغنية بالنفط والتي لا ينقطع أكراد البلد عن المطالبة بضمها إلى جانب مناطق أخرى، إلى إقليمهم المتمتّع بحكم ذاتي.
وتفسّر تلك الحساسية تعذّر إجراء عملية التعداد العام للسكان بعد آخر مرّة أجريت فيها سنة 1997 وكان يفترض أن تجري سنة 2007 لكنّها لم تنجز ثمّ تأجلت بعد ذلك عدّة مرات بما في ذلك سنة 2010 عندما اعترض الأكراد على قرار وزارة التخطيط آنذاك إلغاء خانة القومية من استمارة التعداد السكاني وسط اتهامات من قبل المكوّن العربي للمكون الكردي بإجراء تغيير ديمغرافي في كركوك والسعي لتثبيت نتائجه كأمر واقع ضمن نتائج التعداد.
وعلى الرغم من الأهمية القصوى التي اكتساها التعداد السكاني في مختلف بلدان العالم نظرا لفوائده العملية في ضبط المخططات الاقتصادية والتنموية والخدمية، فإن العراق مازال يعتمد أرقاما تقريبية مستندا إلى حسابات منطلقها عملية التعداد التي جرت آخر مرّة قبل سبع وعشرين سنة ولم تشمل إقليم كردستان الخارج آنذاك عن سيطرة الدولة العراقية. وحدّدت أرقام صادرة في وقت سابق عن الجهاز المركزي للإحصاء عدد سكان العراق بأكثر من سبعة وثلاثين مليون نسمة.
ولتجاوز قضية نسبة المكونات التي طرحت مع النظام السياسي الذي أسسه الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 على أساس المحاصصة بين الأحزاب والطوائف والأعراق، اتفقت القوى السياسية التي شاركت في مجلس الحكم الانتقالي على اعتماد نسب تشير إلى تشكيل العرب ثمانية وسبعين في المئة من السكّان، وتحددّ نسبة الأكراد بتسعة عشر في المئة، وباقي المكونات القومية من تركمان وغيرهم بثلاثة في المئة. وأعلنت وزارة التخطيط العراقية البدء بمرحلة الترقيم والحصر الخاصة بالتعداد السكاني في عموم محافظات البلاد تمهيدا للتعداد العام المقرّر إجراؤه أواخر العام الجاري.
وكانت الوزارة قد أجرت منتصف يونيو الماضي تعدادا تجريبيا شمل حوالي تسعين منطقة في عموم محافظات البلاد واستمر لنحو أسبوعين. وأصدرت الوزارة الأحد بيانا قالت فيه إنّ هيئة الإحصاء التابعة لها أطلقت مرحلة الحزم والترقيم والحصر التي تشمل عملية ترقيم وحصر شامل للمساكن والمباني والمنشآت في كلّ محافظات العراق بمشاركة أكثر من ثلاثين ألف باحث مدرّب ومؤهّل موزّعين في كلّ أنحاء البلاد لتنفيذ هذه المهمّة الحيوية.
وأوضحت أنّ زيارات سوف تقوم بها الفرق المشاركة في العملية في هذه المرحلة إلى كلّ المساكن والمباني والمنشآت لترقيمها وحصرها وتحديد إشغالها ومواصفاتها وخصائصها، من أجل تهيئة إطار عمل العَدّاد لمرحلة التعداد السكاني. ووصفت الوزارة مرحلة الترقيم والحصر التي قالت إنّها تستمرّ مدّة شهرين متتاليين بأنّها “ركيزة أساسية لنجاح التعداد العام للسكان والمساكن”.
وأضافت في ذات البيان أنّه في هذه المرحلة من التعداد السكاني العام في العراق سوف يُصار إلى “حزم المحال والقرى وتقسيمها إلى بلوكات صغيرة، يتمكّن من خلالها كلّ باحث من ترقيم وحصر المساكن والمباني والمنشآت كافة ضمن نطاق مسؤولية عمله”. وتابعت أنّه سوف تُرقَّم “المباني السكنية وغير السكنية والمنشآت بصورة منهجية تسهّل عملية تحديد المواقع وتقديم الخدمات المختلفة”، كما سيتمّ جمع البيانات التي تخصّ “عدد الأسر وأفرادها والعاملين في المنشآت بحسب الجنس والجنسية وقطاعات العمل”.
ودعت الوزارة في بيانها المواطنين إلى “التعاون مع الباحثين وتقديم المعلومات المطلوبة بكلّ شفافية، لأنّها ستعود بالنفع على الجميع وتمثّل نقلة نوعية في مسيرة التعداد، لتوفير البيانات الدقيقة التي ستسهم في بناء مستقبل أفضل للعراق”.
وتوقّعت مصادر عراقية ألا تخلو عملية الحصر والترقيم من مصاعب قد تؤثّر على نتائجها نظرا لحالة التداخل الشديد التي شهدها الوضع العقاري في البلاد جرّاء ما حدث بعد الغزو من انتقال غير منظم لملكية الكثير من المنشآت والمباني والذي وصل حدّ استيلاء جهات نافذة على ممتلكات أفراد غادروا البلاد على عجل لدواعي أمنية أو أجبروا على إخلاء محلاتهم تحت تهديد السلاح لأسباب طائفية ودينية على غرار ما حدث لعدد من المسيحيين وأشخاص محسوبين على نظام الرئيس الراحل صدّام حسين.
كذلك خلّف غزو تنظيم داعش لمناطق عراقية شاسعة والحرب التي دارت ضدّه بين سنتي 2014 و2017 أوضاعا غير ملائمة لحصر عدد السكان بدقة وتحديد المعطيات المتعلّقة بهم، إذ ما يزال الكثير من السكان في عداد المفقودين أو المغيبين قسرا كما أنّ كثيرين ما يزالون يقيمون بعيدا عن مناطقهم الأصلية وفي المناطق التي نزحوا إليها فرارا من الحرب، وذلك على الرغم من التقدّم المسجّل في إعادة النازحين إلى ديارهم.
ومن شأن إنجاح عملية التعداد العام للسكان والمساكن أن يشكّل إنجازا معتبرا لحكومة رئيس الوزراء العراقي محمّد شياع السوداني التي كثيرا ما عبّرت عن طموحها لأن تكون مختلفة عن سابقاتها في مجال التنمية وتطوير الاقتصاد ومحاربة الفساد، الأمر الذي يفسّر اهتمامها بقضية التعداد على أعلى مستوى ووضعها مقدّرات مادية وبشرية هامّة لإنجازها.
وقال خالد وليد مدير مركز الإحصاء في بغداد إنّ 3565 شخصا سيشاركون في عملية الحصر والترقيم تحضيرا للتعداد السكاني. وذكر في تصريحات لوسائل إعلام محلية أنّ كوادر وزارة التخطيط بالتعاون مع وزارة التربية انطلقت في عمليات الحصر والترقيم في عموم مناطق العاصمة.
وأشار عبدالزهرة الهنداوي المتحدث باسم وزارة التخطيط العراقية من جهته إلى تخصيص ميزانية للتعداد العام للسكان تبلغ حوالي 310 ملايين دولار، وهو مبلغ زهيد ولا يغطي التكلفة الضخمة للعملية بحسب الهنداوي. وأعلنت الحكومة، الأحد، عن قرارها فرض حظر للتجوال يومي الحادي والعشرين والثاني والعشرين من شهر نوفمبر القادم في جميع مدن ومناطق البلاد لإجراء الإحصاء السكاني.
وجاء ذلك خلال ترؤس السوداني للاجتماع الثالث للمجلس الأعلى للسكّان الذي جرى خلاله بحث ومتابعة التحضيرات الجارية العمل لإجراء التعداد العام للسكّان والمساكن. وأقرّ الاجتماع جملة مقررات تسهل من عملية الإعداد والتدريب لإجراء الإحصاء، بما في ذلك معالجة المتطلبات مع حكومة إقليم كردستان فيما يخص تدريب الكوادر الإحصائية لعملية الترقيم والحصر.
ومن ضمن المقررات دعم وزارتي التربية والتعليم العالي والبحث العلمي للعملية الإحصائية من خلال تهيئة القاعات الدراسية للتدريب، وكذلك مراكز الشباب من خلال وزارة الشباب والرياضة. وشدد المجلس في مقرراته على ضرورة الإسراع بتحويل التخصيصات المالية لتمويل مشروع التعداد.
كما تقرر أيضا اعتماد تقرير إجماليّ الإجراءات والمؤشرات التي حققتها الوزارات القطاعية المعنية بتنفيذ التوصيات الصادرة عن المؤتمرات الدولية والالتزامات الوطنية في القضايا السكانية، الصادر عن هيئة الإحصاء ونظم المعلومات الجغرافية في وزارة التخطيط، على أن يشمل التقرير ملاحقَ تتضمن أهم المؤشرات الإحصائية الناتجة عن التعداد العام للسكان والمسح الاجتماعي والاقتصادي للأسر في العراق، والمسح المتعدد المؤشرات.
821 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع