بعضها تحول لمخازن وأخرى معروضة للبيع.. نهاية عصر صالات العرض السينمائي الراقية في بغداد

رووداو ديجيتال:تشكل دور العرض السينمائي، في بغداد خاصة، التي شهدت افتتاح اول صالات للسينما في بداية الثلاثينيات، جزءاً مهماً من الثقافة العراقية وذائقة العراقيين، حتى تحولت عادة الذهاب الى دور العرض السينمائي الى ظاهرة اجتماعية ثقافية لدى العوائل العراقية وعموم البغداديين.

قصة السينما ببغداد

بدأت حكاية السينما في العراق بآلة عرض متواضعة وشاشة بيضاء في العهد العثماني عام 1909، داخل مستشفى دار الشفاء وسط بغداد، وبعد عامين، تكرر العرض بنفس الطريقة، لكن هذه المرة في بستان "العوينة" عندما كان جمال باشا المعروف بـ"السفاح"، والياً على بغداد.

وخلال تلك الفترة شاع تقديم الأفلام في الاحتفالات العامة والمناسبات المهمة في البساتين العمومية، حتى عرض عام 1918، فيلم "معارك هذه الحرب"، حيث سجل مآسي الحرب العالمية الأولى.

ومنذ ذلك الوقت تضاعف اهتمام العراقيين بمتابعة الأفلام، ونتيجة لتحقيق الأرباح بدأ التفكير ببناء دور عرض من قبل أصحاب رؤوس المال.



وبالفعل، تم تشييد "سينما أولمبيا" التي كانت أول دار عرض نظامية عام 1919، ثم "رويال سينما" و"سينما سنترال" قرب جسر الأحرار، والتي كان مروج افلامها شخصية بغدادية شعبية يتجول في شارع الرشيد وهو يرفع ملصق الفيلم المعروض ويصنادي بصوته الجهوري " أحسن رواية بالبلد.. سنترال سينما". وما إن حل عام 1920 حتى بدأت سلسلة من دور العرض بالظهور في بغداد والمحافظات.

عُرِضت خلال تلك الفترة الأفلام الصامتة ترافقها أنغام موسيقية لعازف يحاكي المشهد المعروض من حيث البطء والسرعة والعاطفة أو الخوف والقلق، وحين نطقت الأفلام أواخر العشرينيات أصبحت مهنة عازف السينما من الماضي.

وفي الثلاثينيات، بدأت الأفلام المصرية ترد إلى سينمات العراق، أشهرها أفلام محمد عبد الوهاب وأم كلثوم، التي جذبت المزيد من الجمهور المتعطش للتنزه والاستماع إلى أغانيهما.

وكانت هناك عروض خاصة للنساء حتى الأربعينيات، حين تم السماح بالاختلاط في دور العرض مع تحديد أماكن خاصة للعوائل وأخرى للشباب.



ومنذ ذلك الحين توسع تأثير دور العرض والأفلام التي تعرضها في المجتمع، وبدأت العوائل تتخذها وجهة للتنزه والترفي، بل ان العوائل الغنية كانت تحجز او تشتري مقصورات في السينمات الراقية، مثل سينما النصر والخيام وغرناطة وروكسي تبقى محجوزة لها سواء حضروا العرض او لم يحضروا.

"غرناطة" والعصر الذهبي

كنا نذهب الى سينما غرناطة، الواقعة في الباب الشرقي، دون ان نعرف مسبقاً عنوان الفيلم لانها تعرض روائع الافلام الغربية الحديثة. سينما غرناطة، التي اسسها عام 1941، عبد الرزاق الشيخلي، كانت جوهرة سينمات العراق عامة وبغداد خاصة.

سميت اول الامر (سينما دار السلام) تيمّناً بالعاصمة بغداد التي تحمل هذا اللقب. وفي مطلع الستينات تغير اسمها فسميت (سينما ريو)، وفي سنة 1971 استقر مالكها الجديد على تسميتها غرناطة تيمنا بالأندلس وحضارتها.

ومن اجل ان تكون في مقدمة صالات العرض السينمائي قام مالكوها بتأثيثها من أرقى التصاميم الايطالية والاميركية الفاخرة لتكون في غاية التميّز عن بقية الصالات لكونها كانت مقصد العوائل العراقية العريقة ومهوى النخبة البغدادية المثقفة اضافة الى تصميم بنائها وسعة مساحتها وأجنحتها ومقصوراتها الفارهة ذات الطراز الايطالي الملفت للنظر، ويبلغ عدد مقاعدها (1150) مقعداً.

ولا ننسى التنظيم في عمليات الدخول والخروج واختيار المقاعد وفق الارقام في جميع اقسامها وكثرة الادلّاء الذين يشيرون الى مقعدك المخصص بكل يسرٍ وسهولة.


من روائع الافلام التي عرضتها سينما غرناطة هي: الفيلم الشهير (مدافع نافارون) عام 1962 بطولة الممثلة اليونانية الشهيرة إيرين باباس الى جانب غريغوري بيك. ودأبت الصالة على مواكبة إنتاج السينما الفرنسية، وكادت أن تتخصص فيها، اذ عرضت أفلاماً لكبار نجوم هذه السينما كجان جابان، وإيف مونتان، وكاترين دينوف، وجين مورو، وسيمون سينوريه، وآني جيراردو، وميري دارك، وآلان ديلون في عز شبابه وتألقه ونجوميته المفرطة، وجان بول بلموندو، وروبرت حسين، وفيها كان العرض الأول للفيلم الرائع (زوربا) لأنتوني كوين عن قصة الكاتب اليوناني كازنتزاكي الذي عُرض أوائل السبعينات. في غرناطة عرض فيلم (الإخوة كارامازوف) المأخوذ من رواية فيودور دستويفسكي.


ويتذكر رواد سينما غرناطة عرضها لافلام عديدة للنجم الأميركي جارلس برونسون، الذي لاقت أفلامه إقبالاً واسعاً، وكان لفيلم (الممتازون السبعة) لبرونسون ومعه النجمان يول براينر وستيف ماكوين وقع كبير، ويعد اليوم من كلاسيكيات أفلام (الويسترن). امتنع القائمون على الدار من عرض أي فيلم مصري أو عربي أو هندي، ربما لشعورهم بعدم وصول الفيلم العربي والهندي الى مستوى الأفلام الأميركية والأوروبية، وكان الاستثناء الوحيد هو عرض فيلم الفنانة فيروز (بياع الخواتم ــ 1965)، الذي عرض في أحد الأعياد وفشل فشلاً مادياً مريعاً.

كان حضور العائلة العراقية في العرض المسائي في سينما غرناطة أمراً طبيعياً جداً، وكذلك جمهور النخبة خاصة فيما كان يطلق عليه بـ "العرض الاول" في كل يوم إثنين من كل أسبوع.



في زيارتي الاخيرة، قبل يومين بالضبط، لسينما غرناطة شعرت بالحزن للبؤس الذي وصله حالها، حتى ان حرفها الاخير (A) انقلب رأساً على عقب في شكوى مجازية معلنة عن سوء احوال سينما غرناطة بعد ان كانت توصف باعتبارها جوهرة صالات سينمات بغداد.

مازالت هذه الصالة العريقة قائمة في مكانها تعاند الغياب كأنها تنتظر من ينقذها من الغرق في بحر النسيان والاندثار وسط أكوام النفايات حيث يقوم قربها سوق الملابس المستعملة، لماذا الإهمال المتعمد لأهم معالم بغداد ولمَ هذا الإصرار على طمس تلك المعالم. ولماذا لا تبادر دائرة السينما والمسرح، او امانة العاصمة لاقتنائها واقتناء بقية دور العرض السينمائي العريقة واعادة اعمارها لتحويلها الى مشروع تجاري من جهة وتحافظ على ارث فني حضاري ارتبط بذاكرة بغداد الثقافية، لكن امانة بغداد بدلاً من ان تحافظ على هذا الارث ساهمت بخرابه إذ مازالت تفرض ضرائب كبيرة على دور العرض السينمائي أسوة بالملاهي الليلية دون أن تقدم أي عون لأصحاب تلك الدور في إصلاح ما تبقى منها فضلاً عن شمولها بساعات القطع المبرمج للطاقة الكهربائية وعدم توفير الوقود اللازم لمولدات الديزل لديمومة عمل السينما.


سينما للبيع

يعتبر عقدا الخمسينيات والستينيات ذروة الرفاهية السينمائية في العراق، حيث بدأ التنافس في إنشاء دور عرض الدرجة الأولى، التي جمعت أغلب الوقت، بين السينما والمسرح في بناية واحدة، يضاف الى ذلك ان نجاح صالة سينما غرناطة حفز اصحاب رؤوس الاموال لانشاء صالات متطورة تنافس هذه الصالة، فتم بناء سينما الخيام عام 1956 التي اعتبرت نقلة نوعية لدور العرض في بغداد، وصنفت من سينمات الدرجة الأولى على مستوى الشرق الأوسط.

تميزت بلوحات جدارية على جانبي قاعة العرض من الداخل عن عمر الخيام وبريشة فنان غربي، اسباني على ما اعتقد، ومكيفة مركزيا وقادرة على استيعاب 1500 متفرج، بمقاعد مخملية قابلة للتعديل مع مقصورات خاصة للعوائل وطريقة إضاءة مختلفة عبر عشرات المصابيح الصغيرة المنتشرة على سقفها لمحاكاة النجوم.

والاهم ان سينما الخيام تميزت هي الاخرى بعرض الافلام الراقية التي كانت رمزاً من رموز الثقافة العراقية عامة والبغدادية خاصة وترسخت في ذاكرتنا كايقونة حضارية معاصرة، شاهدنا على شاشتها افلام غربية لن تنسى. وشهدت هذه السينما عرض أول فلم هندي في العراق وهو "أم الهند"، حيث حضر حفل افتتاحه أول رئيس وزراء في العهد الجمهوري، عبد الكريم قاسم.

الاستفادة من تجربة صالتي سينما غرناطة والخيام، أُنشئت العديد من دور عرض الدرجة الأولى، منها سينما "أطلس" التي كانت تتسع لـ600 شخص، بين مقاعدها 200 مخصصة للعوائل، وسينما "سمير أميس" بـ1800 مقعد، وسينما "بابل" وسينما "النصر" التي غنى في قاعتها عبد الحليم حافظ أواسط ستينيات القرن الماضي، وكان حضوره حدثاً اجتماعياً هائلاً في العراق، تسبب باستنفار أمني لاكتظاظ شارع السعدون بالشباب والشابات المعجبين، حتى وصل الأمر لغلق الشارع مرات عدة وجميع هذه الصلات تقع في شارع السعدون.

بالرغم من ان سنوات نهاية الستينيات والسبعينيات تميزت بالانفتاح الاجتماعي، فقد حرصت صالات السينما الجديدة على تخصيص مقصورات ومواقع للعوائل التي كانت تحضر لمشاهدة الافلام حتى في عرض ما يسمى الدور الثاني الذي يمتد حتى ما بعد منتصف الليل دون ان تتعرض للمضايقات.

من دور السينما القديمة التي كانت مشهورة، سينما السندباد في شارع السعدون، وصالتي روكسي وريكس الصيفية في شارع الرشيد التي كانت اوقات عروضها تبدأ في المساء، وهي صالات مكشوفة وغير مسقفة، كما اشتهرت سينما بغداد في جانب الكرخ بمنطقة علاوي الحلة.



عصر الافول

فجأة بدأ وهج تألق دور العرض السينمائي الراقية بالأفول وتؤول الى الخراب بسبب الحرب العراقية الايرانية (1980 – 1988) وما رافقه من ظروف اجتماعية سيئة ثم الحصار الذي فرض على العراق منذ بداية التسعينيات، مما شغل الناس عن حضور العروض السينمائية، وتدريجياً اغلقت اهم دور السينما مثل غرناطة وسمير اميس وبابل والنصر والسندباد واطلس واخيراً الخيام المعروضة حالياً للبيع، وهذا ما حز في نفوس وذاكرة العراقيين، خاصة لجمهور السينما وللفنانين والكتاب الذين يرصدون اندثار ذاكرتهم الثقافية وضياع ارث حضاري جمالي مهم.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1252 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع