بغداد/ يوسف المحمداوي:حبانا الله بأيام حزن تعادل أضعاف أيام الفرح وقلنا إنها مشيئة الله ،واختلقنا الأعذار والمبررات لنخرس صوت شكوانا مما يحدث ،وأبدعنا في صناعة جمل الصبر والتأسي لأنفسنا على الأقل،
بعد أن تخلينا عن بعضنا مرغمين، واطلقنا العنان لسلوكية الأنا غير آبهين بما يُصيب أعز الناس وأقربهم إلينا،وما أن تتأبطنا أجنحة المآسي لتحلق بنا على قمم الألم تجدنا نطلق جمل الخداع والتحايل على الذات ومجانبة ما يفعل بنا الواقع،فتارة تجدنا نلوذ بالحمد لله واخرى بـ "جملة أن المؤمن مبتلى "، على الرغم من أن بعضنا ليس له في قافلة الإيمان ناقة ولا جمل وأجزم بأني أولهم،ولكني اقولها هروبا من تحدي ما يجري واعترافا مني بخساراتي اليومية كمواطن في وطن النكبات،وما أكثر جمل الهروب التي ورثناها كما الحزن من حضارتنا التي ترجمها البعض على هواه ،حتى صارت وبالا علينا بدلا من ان تعيننا على بلوانا.
عيد بأي حالٍ عُــدت ياعيدُ
نعم رضينا بأيام الحزن لكن ان تفرض سطوتها على أيام الفرح التي لا تشكل رقماً مهماً إزاءها كما تفعل الاغلبية السياسية في الوطن مع الأقلية ،تجعلنا نستنجد بالموت لننعم بالخلاص الأبدي.
العيد في جميع الأديان السماوية والأرضية هو موسم فرح وأغانٍ وصلوات وتقاليد وشعائر تضيئه شموع وقناديل الفرح،العيد كما عهدناه وعرفناه ملبس جديد واختتام خصومات وتبادل قبلات وتزاور بين الأحبة،وصواني كليجه تعج بها الأفران، وجكليت وحامض حلو،وأطفال يسبقون صباح العيد بأحلام العيديات والمراجيح ،يغفون وملابسهم الجديدة تحت وساداتهم ، بل ان بعضهم يرتديها وينام بها حالماً بعيد يعطـِّر الدنيا بالفرح ويملؤها بضياء سرورهم وبراءتهم وضحكاتهم التي تحتضنها الشوارع والارصفة والبيوت،العيد بالأمس بشارة وصوله لا تأتينا فقط من فتاوى علماء الدين او من رؤية الهلال ،بل يُبشر بمجيئه صوت أم كلثوم وهي تصيح بعنفوان السعد"الليله عيد...عالدنيا سعيد"،ولا آظنها في يومنا هذا ستعيد ما أقدمت عليه،بل ستصرخ بكل وجع الدنيا مع المتنبي"عيد بأي حال عدت ياعيد"ولا اعتقد بوجود لائم لها على ما تقول وهي ترى فواجعنا التي لا تـُعد.
العيـد لأهـل المـال
عند باب لبيت او بالأحرى يقال عنه بيت بُني من الطين في منطقة تسمى حواسم الزعفرانية، جلست أم ماهر في اول ايام عيد الاضحى مع صينيتها التي احتوت بعض الحلويات ومغريات الاطفال الاخرى، واختلطت معها انواع من علب السكائر قالت بعد ان القيت تحية العيد عليها"عيد مبارك خاله ولو العيد مو إلنه لهله،احنه عيدنه من نحصِّل اللكمه"طبعا تقصد ام ماهر في قولها ذلك أن العيد ليس للفقراء وأنما لأهل المال وعيدنا هو في حصولنا على لقمة الطعام ،وأنا فسرت تلك الجملة ليقيني بأن بعض السياسيين القادمين من الخارج لا يفقهون تلك الكلمات ويحتاجون الى قاموس لفهم لغتنا وآخر لمعرفة الأوضاع التي نعيش.
ام ماهر أوضحت بلغتها البسيطة بأن اغلب الساكنين او بالأحرى المتجاوزين هم من الفقراء واغلب الاعمال التي يمتهنونها هي البيع المباشر كباعة متجولين في الشوارع بعد ان ترك الجميع المدارس اولا لعدم وجودها اضافة لعدم قدرتهم على توفير الطعام من دون عمل بحسب تعبيرها اللغوي البسيط.
مبيعات الصيف والشتاء
تقول: ان ابنها ماهر الذي ترك المدرسة بعد وفاة والده إثر مرض عضال يعمل في الصيف ببيع قناني الماء على طريق محمد القاسم الرابط بين بغداد الجديدة ومنطقة البياع لكونه مزدحماً بالمركبات،وتضيف ام ماهر: اما في الشتاء فيتنوع عمله بين بيع الشاي او المناديل او السكائر،موضحة بأن رزقه في الصيف افضل من الشتاء،وبشأن استعداد العائلة المتكونة من ثمانية أفراد لعيد الأضحى ضحكت ام ماهر بصوت عالٍ والمرارة واضحة على ملامح وجهها (شلكيتنه خاله..قابل احنه من الحكومة حتى نستعد للعيد).
هنا أنا أقول متسائلا والعهدة على القائل وكذلك المسؤول وهو أنا: هل يعقل هذا الكلام في بلد مثل العراق بلد يمتلك كل ثروات الدنيا وبعض أبنائه لا ينعمون بالعيد،بل يكرهون العيد،هل موازناتنا الانفجارية لا تستطع انقاذ ام ماهر وغيرها من أرامل الارهاب والامراض؟من يصدق بأن حكومة تدعي الدِّين وخشية الله ومواطنوها يرزخون تحت خط الجوع والذل والجهل والمرض؟ كم من صبر كصبر النبي أيوب نحتاج لنسكت على ما يفعلونه بنا؟ كم من قرص أسبرين يحتاج القلب حتى لا يقف أمام تلك الصور؟!
سواد في سواد في سواد
قبل ان اُنهي ارتشاف قدح الشاي الذي جلبته لي ام ماهر من داخل البيت الطيني تجمعن حولي العديد من نساء حي الشقاء ولسان حال فضوليتهن يقول: هل من مساعدات حكومية جاءت لنا من الحكومة؟ متصورات بأني موظف جاء من الحكومة ليدرج اسماء تلك العوائل لمكرمة ما، وما دفعهن لذلك الظن هو انني كنت اُدوِّن في مفكرتي حديث ام ماهر،لكن خاب ظنهن بعد أن قالت أم ماهر بأنه صحفي.
النساء اللواتي تجمعن حولي بشكل نصف دائري يجمعهن كقاسم مشترك الفقر وثياب السواد وملامح الألم المفقود، لم أجد أي اثر للعيد على وجوهن،عباءاتهن سود ،ثيابهن سود ،فوطهن سود ،حتى نعالهن سود ،وتحت عباءة كل واحدة حكايات لذكريات ماضٍ أليم،وحاضر يفوق الجحيم،ومستقبل تقلقهن مجهوليته فيتشبثن بقولنا القديم والجديد "الله كريم "،وعلى قول الشاعر الراحل عبد الحسين الحلفي بوصف مأساة المواطن (يمرنه العيد أمس بس ما مش إهدوم....وهسه إهدوم عدنه وما يجي العيد) وأفسر لبعض السياسيين الذين لا يفهمون لهجتنا ما قاله الشاعر الحلفي: انه في عهد الدكتاتور يأتي العيد ونفرح به مع عدم قدرتنا على شراء الملابس ،واما اليوم لدينا الملابس ولكن غاب العيد في ظل غياب الأمن وحصاد الموت اليومي وإنشغال الساسة بمكاسبهم ومناصبهم.
كل شيء تغيـََّر
كانت المتحدثة الإعلامية باسم عوز أولئك النسوة إمرأة يتراى لي بأن عمرها يتراوح مابين الـ 60_70 عاما ولا استطيع الجزم بذلك الحسبان لا للفاقة احكامها في سلب سني العمر،عرفت ان اسمها ام جاسم من خلال مناداة النساء لها،بينت ام جاسم رداً على سؤالنا بشأن الفرق بين عيد الامس وعيد اليوم ( يمه موبس العيد تغيـَّر... حتى بشرنه تغيـَّر..أكلنه تغيـَّر...كل شيء تغيـَّر..الحنية راحت...الأخو ما يحب أخوه..الإبن ما له غرض بهله)، واستمرت ام جاسم بلهجتها الجنوبية الخالصة بحديث طويل،ولكني سأختصره وبلغة يفهمها الجميع وبالأخص من عنيتهم في بداية الحديث ،ترى ام جاسم ان العيد الحالي لا ينتمي للعيد القديم بقيد أنملة ،موضحة بأن اهم شيء هو عدم توفر المال الكافي للعوائل الفقيرة لينعموا بعيد حقيقي ،كشراء الملابس للاطفال،وعدم استطاعتنا دفع حتى مبلغ الأجرة للذهاب الى زيارة قبور الاهل والاحبة وخاصة انه عيد الاضحى وزيارتهم مطلوبة، فضلا عن عدم قدرتنا التبضع من الاسواق لشراء المواد الغذائية لأكرام الضيوف ،توزيع العيديات على الاطفال ليمارسوا العابهم الخاصة في مدينة الالعاب او شراء ما يشتهون من حلويات بحسب قول أم جاسم.
صبيحة والمنطقة الخضراء
توجهت صوبنا ونحن نهم بمغادرة حي الشقاء فتاة حافية القدمين ترتدي فستاناً أحمر يسمى قماشه بـ (الكودري) الذي طرز على رقبته شريط ابيض يسمى بالدانتيل تحول الى اصفر فاتح وبالتأكيد كان تحوله من قدمه ولكونه اصبح درعا للفتاة من اشعة الشمس،لكنه لم يفلح بصد اشعتها عن وجه الفتاة الذي بدا قاتم السمرة والشحوب، بادرتها مع وصولها ام جاسم بالقول (ها صبيحة شتردين ) ردت صبيحة بصوت متلعثم ونبرة خجلى (جده ..تريدج امي) غادرت ام ماهر وام جاسم وحفيدتها صبيحة وبقية النسوة في حي الشقاء وعيون الوجه والقلب تتلفت يمينا ويسارا لتقدر حجم الخراب واجزم بأنها لا تقدر في بيوت طين واخرى من الصفيح وثالثة من البلوك تتنقل بينها كلاب سائبة،واطفال بعمر الزهور تدور باحثة عن منقذ حقيقي في وطن حقيقي عن عيد يشبه عيدنا القديم،يبحثون ويبحثون لكن لا جدوى في بلاد ابتلعتها حيتان الفساد وأمراء الذبح،وانا اخرج من آتون الوجع انتظر مصيري كأي مواطن عراقي على يـد مَن أوصلناهم لكراسي الحكم ليمارسوا معنا كل هذا الظلم ،ملتفتاً الى أسياد الخضراء وضحيتهم صبيحة صارخاً (يمتى الفرج ياربي)!
لا عيـد في غياب الأمن
قالت ام جاسم انه حتى لو توفرت جميع الامنيات التي نريدها،فما هي لذتها وطعمها وانت تسمع بعشرات الابرياء من شعبك يسقطون يوميا،فلا وجود لعيد حقيقي في ظل غياب الامن،وكذلك الخدمات.. وحمَّلت ام جاسم بعض الساسة مسؤولية الاوضاع التي يعيشها الشعب،متسائلة بحسرة امتزجت مع طيات حديثها،ما ذنب اطفالنا يتحسرون على ملابس للعيد؟ ما جريمتهم حتى يحرموا ان يشاركوا أقرانهم من ميسوري الحال ان يأكلوا الحلويات او يذهبوا لمدينة الالعاب او متنزه الزوراء؟ ما الاثم الذي ارتكبوه حتى يحرموا من المدارس؟ ما وما وما اسئلة كثيرة كانت تخرج كاللهب من جوف بركان ألم على لسان ام جاسم،ومع حديثها كانت النسوة المحيطات بها يشاركنها الرأي احيانا بالحديث واخرى بالحسرات والدموع للوضع المأساوي الذي تعيشه تلك العوائل!
الكليجة والحنـاء
سألت ام جاسم عن طقوس العيد القديم فردَّت بقولها: كنا قبل اسبوع من مجيء العيد نعد العدة لاستقباله ،فزوجي ابو جاسم وهو قعيد فراش المرض الآن يذهب لشراء الخروف ويجلب معه البرسيم قبل شهر من ذبحه حتى يسمن الخروف فضلا عن رخصه قبل شهر من العيد فكلما اقترب العيد زاد السعر،وانا اذهب الى السوق قبل اسبوع من العيد واتسوق مواد اكلة العيد المعروفة عند العراقيين،ونقوم باعدادها وفي مساء يوم عرفة او في فجر اليوم الاول من العيد نرسل الصواني الممتلئة بالكليجة الى الفرن القريب والوقوف كطوابير امام الافران حتى نحصل عليها جاهزة قبل نهاية صلاة العيد،مؤكدة ان شراء الملابس هي من مسؤولية أبي جاسم بالنسبة للأولاد،اما للبنات فهي مسؤوليتي،وبينت ام جاسم ان قبل العيد بيومين او بثلاثة نقوم بصبغ الشعر بالحناء وكذلك بصبغ راحة اليدين والقدمين بها لي وللفتيات،وحتى الاطفال من الذكور نقوم بوضع الحناء بأيديهم ورؤوسهم،اما اليوم فقد غابت تلك الطقوس والعادات عن العيد كما ذكرت ام جاسم.
512 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع