بغداد/ إيناس طارق:كنت ذات مرة في أحد الأسواق الشعبية أتجوَّل بين محالها وبسطياتها وأتبضع ما تحتاجه العائلة من مواد غذائية ومتطلبات أخرى، أخرج من متجر وأدخل آخر ولم أشعر بنفسي إلا وأنا لم أعد قادرة على حمل البضاعة بنفسي،
فالتفت يميناً ويساراً أبحث عن حمَّال يُعينني على حمل بضاعتي، وإذ بي أجد رجلا قد أحنى الدهر ظهره، وارتسمت ملامح الشحوب والتجاعيد على وجهه ، بجسم نحيل أرهقه الإعياء ، يدفع عربة مليئة بالبضائع حيث أوقعتني الحيرة بهذا المنظر، فمن الذي يقدر على سحب هذه العربة يحمل فيها بضائع الناس فدفعت إليه بضاعتي بعد أن طلب مني ذلك على أن يأخذ نصف الأجرة ،هذا المنظر هو ما دفعنا الى إجراء تحقيق عن مهنة المعاناة التي امتهنها سلاطين العوز في بلـد الثـروات، للنزول الى ميادين العمل الشاقة والبحث عن لقمة العيش بين الأزقة والمحال الضيقة، والتي يكثـر فيها المتبضعون، وبالأخص أسواق الشورجة والرصافي وجميلة الصناعية وحافظ القاضي، وجميع الأسواق الشعبية تقريباً يكثـر فيها الحمالون من الشباب وكبار السن، وأغلبهم يمثلون الطبقات الفقيرة والمتعففة وكل ما يملكونه هو عربة خشبية يقومون باستئجارها من مالكين لها في تلك الأسواق
مهنة شاقة وقاسية
ظروف الحياة والمعيشة الصعبة دفعتهم للاستمرار بالعمل في هذه المهنة، ولكونهم لايملكون أي ضمان لتركها، حيث أن تقلـُّب الزمن أجبرهم على ممارسة هذه المهنة الشاقة، فانك تجد كهولا تنوعت أعمارهم بثيابهم الرثة يدفعون عربات حمل ثقيلة وآخرون يجرونها.
أبو قاسم الذي تجاوز العقد الخامس من العمر،لا يزال يحمل البضائع بعربته التي انحنى عليها ظهره من الكبر، يقف قرب المحال التجارية في سوق الرصافي ينتظر نقلها الى نقليات الجنوب الواقعة في منطقة حافظ القاضي قال: كيف أترك مهنتي برغم كبر سني والإرهاق والمرض الذي أصاب جميع عظام جسدي، مَن يُعيل عائلتي المكونة من زوجة وثلاثة أولاد لاسيما مع عدم وجود أي راتب أو ضمان اجتماعي للحمالين، حسرات وآهات أطلقها بعد حديثه يمكن أن نختصرها بالتعبير إن التعب تغلـَّب عليه وأرهقه وهو بحاجة الى من يُعينه في متطلبات الحياة وتركنا وهو يتمتم بكلمات شجب واستنكار للدولة التي تمتلك كل هذه الموازنات الكبيرة ولم تجد حلاً له ولأمثاله من الفقراء !
الواقع وصعوبة العيش
الطبقات الفقيرة العاملة لا زالت تعيش المعاناة المستمرة ذاتها وتحاول تجاوز جميع المشاكل بين الواقع وصعوبة المعيشة على أمل الانتهاء في يوم من الأيام من تلك المهنة. يقول أبو ساجد البالغ من العمر العقد الثالث : أجلس على حافة عربتي كل يوم مع مجموعة كبيرة من الحمالين بمختلف الأعمار بانتظار حمل بضائع بين المحال التجارية، او تحميل بضاعة زبون يرشده إلينا صاحب محل لبيع البضائع ،ولولا أن الشوارع ضيقة وأغلب المخازن بما فيها من مختلف السلع المستوردة والقادمة من المحافظات تقع في الأفرع الداخلية لمنطقة الشورجة وشارع الكفاح والسوق العربي لما حصلنا على فرصة عمل، واستدرك أبو سجاد قائلاً: أكملت دراستي في معهد الفنون الجميلة قسم السيراميك قبل ست سنوات ولم تبقَ وزارة لم أقدِّم فيها على التعيين من أجل الحصول على وظيفة حكومية تضمن لعائلتي مرتباً ومبلغاً ثابتاً من المال، تزوجت وأنا أعمل حمالاً، وأصبحت والداً لطفلين ولا زلت أعاني من عدم الحصول على فرصة عمـل.
شجار في بداية العمـل
يشارك أبو سجاد الحديث احمد الذي كان يرتدي ملابس رثـَّة والشحوب واضح على ملامحه حيث علق قائلاً: ذهبت أحلامي بإكمال دراستي الإعدادية بعد أن أُصيب والدي بالشلل، ولا أملك المال لإكمال دراستي وعندما قدمت الى السوق حدثت مشاجرات عـدة مع عدد من الحمالين فهذا العالم فيه الكثير من المشاكل، والعامل الجديد يواجه محاربة في الحصول على فرصة العمل في نقل البضائع خاصة وأن العديد من الزبائن المتبضعين يستخدمون حمالين يعرفونهم ويثقون بأمانتهم، إضافة الى نظرة المجتمع إلينا وعدم الاحترام لمهنتنا، ناهيك عن التجاوزات التي نسمعها من أصحاب السيارات عندما نقوم بعبور الشارع ،وكأنه كائن من كوكب آخر فهم لا يعلمون ثقل البضاعة التي ندفعها، وأوضح احمد أن المبلغ الذي يتقاضونه من نقل البضاعة لا يتجاوز الثلاثة او الاربعة آلاف دينار كسقف أعلى متفق عليه من قبل الجميع.
صبيان المهنة
لا يختلف منظر الحمالين الصغار عن الكبار في العمر ويمتهنون المهنة نفسها، لا بل يتسابقون مع بعضهم البعض، وهم يسحبون عرباتهم الخشبية، ويتنافسون في ما بينهم للحصول على زبون، وهذا التنافس يدفعهم لعدم التفكير في ما قد يحملونه من بضائع ثقيلة ومختلفة ،ولا يفكرون بالإعياء الذي يمكن أن يصيبهم فهم يكدحون من الصباح الباكر وحتى مغيب الشمس.
بلال لا يتعدى عمره الاثني عشر عاما نسمع زفيره الحـاد والمرتفع جداً وهو ينقل بعربته القديمة اشكال البضائع مثل الطعام والملابس والأجهزة الكهربائية حسب قوله، لان المتبضعين يعتقدون حسب تعبيره أنه صغير ولا يستطيع ان يحمل البضائع وينقلها بعربته الى مبتغاهم، مضيفاً بأنه لم يدخل المدرسة لذلك هو لا يعرف القراءة والكتابة وجـُل ما يعرفه هو كيف يعد النقود ، والعربة التي يجلس عليها وهو يتحدث معنا تعود الى أخيه الكبير الذي يعمل بعد الظهر، لأنه ينقل الأجهزة الكهربائية من منطقة عقد النصارى الى مخازن الشورجة ويحصلون من عملهم اليومي هذا على 16 ألف دينار بعد ان يطرحوا مبلغ الغداء منها وسكائرهم فهو برغم سِنـِّه يُدخن لأنه يعيش في عالم الكبار والتعب حسب قوله.
عائلتي ترفض ذهابي إلى المدرسة
حكاية فاضل البالغ من العمر 10 أعوام حكاية مأساوية حيث تحدث بمرارة وقال: أُصاب بالحزن الذي يكاد يقتلع قلبي عندما أرى أصدقائي يذهبون الى المدرسة صباحاً، وأنا أتوجه الى السوق بعربتي وهم يحملون حقائبهم وأنا احمل التعب والمعاناة ،الزمن والعوز المادي وضغوط عائلتي هو مَن جعلني أُزاول هذه المهنة، أحب المدرسة لكن أهلي يرفضون ذلك وحقيقة تعلمت على السوق وعلى لغة التعامل مع التجار والزبائن في منطقة حافظ القاضي ،وأحصل على ملابس رياضية من بعض التجار عندما أقوم بنقل بضائعهم الى المحال الرياضية من السوق العربي وبالعكس، وأوضح فاضل بأنهم ثلاثة أخوة يزاولون مهنة الحمالة، أما الوالد فيبيع السمك في شارع النهر، وهو يخبرنا اننا المهم تعلمنا القراءة والكتابة وهذا يكفي، لأن الشهادة (ما توكل خبز)، ولأن التعيين حسب الوساطة ويحتاج إلى رشا،موضحاً أن العديد من خريجي الكليات يعملون معنا كحمالين!
آثار نفسية واجتماعية
الباحثة الاجتماعية فوزية العطية قالت في اتصال هاتفي مع (المدى) إن معاناة هؤلاء الحمالين لا يمكن أن توصف، ومن المحزن وهم بهذه الأعمار أن يتحملوا قسوة هذه المهنة وآثارها النفسية والصحية والاجتماعية التي تنعكس بالتأكيد على سلوكياتهم، لاسيما وأن الكثيرين ممن امتهنوا هذا العمل أغلبهم وللأسف من أصحاب شهادات وخريجين علـَّقوا آمالهم وطموحاتهم على شماعة اليأس والإحباط بعد أن اشتدت بهم الفاقة، واحتلت حياتهم صور الحرمان والعوز ليضطروا إجبارياً للعمل في هذه المهنة علها تخفف عنهم الضائقة المادية التي يعيشونها بعد أن فشلت جميع محاولاتهم في الحصول على وظيفة وفرصة عمل وما وجدوه هو حمل أوزان ثقيلة لمسافات طوال، وهذا ما يصيبهم بأمراض عــدة وهم في سن الشباب بحسب قولها.
الحمَّالون ومكاتب النقليات
في السابق كان دخول العربات الى الأسواق من الممنوعات وخاصة تلك التي يسحبها الانسان او الحيوان، لكن بعد ان أُغلقت أغلب الطرق الداخلية المؤدية الى الاسواق والمحال التجارية بالحواجز الكونكريتية بسبب التفجيرات والعمليات الإرهابية، سمح بدخولها، بل زاد عددها وأصبحت مهنة يتنافس عليها الكثير من العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات او من الذين لم يكملوا الدراسة، اطفال وشباب بعمر الورد يبحثون عن فرصة عمل، حمالون يقفون امام مستودعات ومخازن البضائع ينتظرون دورهم هذه الأعداد تعطي انطباعاً ان لكل حمال علاقة مع عربته، واستطعنا الحديث مع احمد الذي تجاوز عمره الثامنة عشرة وهو يعمل في أحد المخازن قال : نقل البضائع يحتاج الى حمالين موثوق بهم وبأمانتهم، وليس كل مَن يأتي الى السوق ومعه عربة يسلمه التاجر او المتبضع البضائع.
وأوضح احمد أننا نعطي وصولات الى الحمال بالبضاعة ورقم المكتب حتى يسمح له في نقلها ،وعندما يسلمها يجرد عددها ونوعها ويجب أن يكون متطابقاً مع ما هو مدروج من معلومات في الوصل أي ان الأمر يحتاج الى تنسيق بين اصحاب المكاتب والتجار والحمالين .
منظرهم يُثيرالقلق والخوف من أن يصبح أكثر شبابنا العاطلين عن العمل حمالين، وحسب قول أحدهم نحمل البضائع لنعيش ولا نحمل القنابل لنموت! إذن مَن ينصفنا، هل نخرج الى الشوارع للتظاهر والاعتصام، ومَن يسمح لنا بكشف حقيقة مَن يقود بلـد الثروات التي لا تُعــد ولا تُحصى بحسب قول أحدهم!
867 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع