فنانو الشارع العام تشكيليو فضاء محمد بن علي الرباطي
لحسن وريغ/تصوير: محمد العدلاني
خلف مسرح محمد الخامس بالعاصمة الرباط، وفي منتصف شارع أحمد المنصور الذهبي، ثمة مجموعة من الأكشاك، يقيم بها عدد من الفنانين التشكيليين. هذه الأكشاك كانت من قبل مخصصة لبيع الورود، قبل أن تتحول إلى فضاء للفن التشكيلي يحمل اسم "محمد بن علي الرباطي"(1861- 1939)، أحد الوجوه البارزة في الرسم المغربي زمن الحماية الفرنسية. صحيفة "الأحداث المغربية" زارت الفضاء والتقت ببعض فنانيه، قبل أن تنتقل إلى مقر "جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة" باعتبارها الجهة المسؤولة عن تدبير وتسيير الفضاء. وفي الاستطلاع التالي نكتشف، من خلال التشكيليين والجمعية، كيف أن هذا الفضاء يحاول أن يساهم في جعل الفن التشكيلي عنصرا من عناصر التنمية الثقافية والسياحية والتربوية داخل المدينة هذه المدينة التي تبحث لنفسها عن مجد يقيها شر البيروقراطية. لنتابع
عبد الله دقاق: الفضاء مدرسة لنا وللأجيال القادمة
عبد الله دقاق، واحد من التشكيليين الذي يقضي فترة داخل "فضاء محمد بن علي الرباطي". فنان عصامي، انخرط في هذا الفن منذ أزيد من عشرين سنة. شارك في العديد من المعارض التشكيلية وليالي الأروقة التي أقيمت بالرباط أو خارجها. عندما سألته عن تجربته التشكيلية و عن وجوده بهذا الفضاء، كان جوابه واضحا ومباشرا:« أنا هنا بفضل "جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة"، مثل كل هؤلاء الفنانين الذين تشاهدونهم. وحسب الالتزام الموقع مع الجمعية، فأنا أستغل هذا الرواق إلى جانب فنان آخر بسومة كرائية رمزية. عندما تنقضي الأشهر الستة المتفق عليها، نرحل تاركين المكان لفنانين آخرين. أما عن تجربتي الفنية، فهي تقوم أساسا على إعادة توظيف بعض المتلاشيات في صياغة لوحات فنية و مجسمات مختلفة». ويضيف الدقاق:« كل لوحة فنية هي بحاجة إلى شيئين أساسيين هما: الموضوع والجمالية، والفنان الكبير وصاحب الموهبة والتجربة التشكيليتين هو من يملك القدرة على توظيف هذين المكونين في ابتكار عمل فني يجعل الناس تهتم به وتتحدث عنه وربما تشتريه ». ويؤكد الدقاق أن هذا الكشك، الذي يبدو صغيرا في حجمه، يعتبر بحق فضاء مفتوحا أمام الجميع دون استثناء، وهو مدرسة لنا وللأجيال القادمة، حيث إنه في بعض اللحظات يتحول إلى ملتقى لعشاق الفن التشكيلي وخاصة السياح الأجانب الذين تقودهم أقدامهم إلى حيث نحن الآن». غير أنه في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة والمنافسة غير الشريفة وانخفاض قيمة اللوحة في بورصة الفن التشكيلي،« أصبح الرواج راكدا و الإقبال ضعيفا اللهم في بعض المناسبات الخاصة جدا حيث نستطيع أن نبيع لوحاتنا لزبناء أوفياء لنا ولفننا. لذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال الادعاء أن هذا الفن يضمن لصاحبه لقمة العيش. هنا أجد نفسي مضطرا إلى ممارسة مهنة أخرى كي أحقق الاستمرارية في الحياة وفي الفن». ويضيف الدقاق:«« الحمد لله أني لا أعتمد على هذا الفن من أجل الحياة ولكن من أجل الفن، ولذلك أنا بحاجة إلى تكوين وتوجيه وخاصة في هذا المجال الذي أشتغل فيه. فأنت ترى أن المواد التي أوظفها تتطلب مني معرفة دقيقة ووسائل عديدة حتى أجعلها طيعة بين يدي وعلى اللوحة. فأنا، مثلا، لست متخصصا في التلحيم ولا أفقه فيه شيئا، علما أن اشتغالي على الأسلاك وما شابهها من مواد صلبة، يفترض مني الحصول على ورشة للتلحيم والصباغة… أنا أطالب هنا بضرورة انخراط مؤسسات التكوين المهني في هذا المشروع الفني الذي سيكون خير سند وعونا لكل الفنانين العصاميين». إن العصامية، يقول الدقاق، لا تحمل أي معنى قدحي، كما أنها ليست مفهوما يتم استغلاله لإعلاء شأن التشكيلي و كسب ود الزبناء. «العصامية عنصر أساسي يساعد الفنان على مواصلة البحث والقراءة والإنتاج حتى تصبح أعماله ذات قيمة فنية عالية ،إسوة بما ينتجه التشكيليون الكبار سواء داخل الوطن أو خارجه. لذلك أعتبر الفن علاجا والعصامية مدرسة في الفن التشكيلي».
وفاء رياض: الفضاء ساعدني على محاربة الخجل وفاء رياض ، فنانة تشكيلية عصامية، اختارت أن تكون إلى جانب زملائها التشكيليين داخل هذا الفضاء الممتد على مسافة أزيد من مائة متر تقريبا. منذ البداية، تؤكد وفاء رياض أن فضاء "محمد بن علي الرباطي" له قيمة نفسية وفنية في حياة أي فنان تشكيلي. كيف ذلك؟ تجيب وفاء رياض قائلة:«ساعدني هذا المكان على محاربة الخجل في ممارسة موهبتي. هنا أجد نفسي في مواجهة مباشرة مع الناس والتواصل معهم. الخجل يقتل الموهبة الفنية، ويصيب الفنان بالعجز الفني، لذلك يجب أن يتحلى كل فنان وفنانة بالشجاعة والقدرة على المواجهة: مواجهة الناس ومواجهة بياض اللوحة. من قبل، كنت أمارس هذه الموهبة في عالم مغلق وفي معزل عن العالم. فقط أفراد أسرتي الصغيرة من كان لهم الحق والأسبقة في متابعة ومشاهدة مراحل تشكيل لوحاتي، أما الآن فأنا فخورة بالرسم تحت أشعة الشمس وأمام أعين الناس التي تمر من هذا الشارع طيلة ساعات اليوم وأيام السنة . لم يعد هناك مجال للخجل أو الحشمة». أما عن بداياتها الأولى في فن الرسم، فتحكي رياض قائلة:« بدأت الرسم منذ السبعينيات من القرن الماضي وشكلت الهواية والموهبة أساس هذه البداية قبل أن انخرط في عالم الكبار وأخوض تجارب فنية عديدة، وكل لوحة هي بداية البدايات». وعندما سألت رياض عن تفسير لما تقوم به من عمل تشكيلي، أجابت بأن أعمالها التشكيلية تندرج ضمن المدرسة التجريدية والتعبيرية، وأن موضوع المرأة يحتل مكانة أساسية في جل لوحاتها.« أحاول أن أبني مشهدا فنيا يلعب فيه التجريد الدور الكبير وتشكل فيه المرأة العنصر الأكثر حضورا» تقول وفاء رياض، قبل أن تواصل دفاعهاعن اتجاهها الفني:«اتجاهي الفني هو التجريدي والتعبيري. وهو ما يسمح بزيارات عديدة وبإقبال متزايد على لوحاتي من طرف المغاربة والأجانب الذين يعشقون هذه المدرسة الفنية ». ولم تخف رياض استياءها من غياب التشكيليين المغاربة المحترفين الذين لا يزورون هذا الفضاء إلا لماما.« حقيقة، القلة القليلة من التشكيليين المغاربة تزور هذا الفضاء. وَمَا كْرَهناش نَتْلاقَاوا مْعاهُم مَرة مَرة ونستافدوا من ملاحظاتهم وتوجيهاتهم، كيفما حْنا تَنْحضروا لمعارِضهم حتى هما خَاصْهوم يَجِيوا عدنا ونفتحوا معاهم النقاش ». وتؤكد رياض على ضرورة الاهتمام بهذه الفئة من التشكيليين العصاميين وخاصة من طرف وزارة الثقافة باعتبارها الوزارة الوصية على هذا القطاع.
أما عن الفضاء ككل، فتعتبره رياض مبادرة طيبة من طرف جمعية رباط الفتح، لأنه جعل الفنان التشكيلي في مواجهة مع العالم الخارجي.« فقط، نحن بحاجة إلى فضاء مواز لهذا الفضاء حتى تكون الإقامة مريحة أكثر بالنسبة لنا ولزوارنا ولكل ما قادته أقدامه نحونا».
عبد الكبير دلال: وجودي بالفضاء مثل وجود كل العاشقين لفن الريشة
غير بعيد عن كشك وفاء رياض، جلس عبد الكبير دلال يتأمل هذا الكم الهائل من اللوحات التي تختزل سنوات عديدة من مساره التشكيلي . ما أن اقتربت منه، حتى وقف والابتسامة تملأ محياه. كشفت له عن صفتي وصفة زميلي محمد عدلاني وعن موضوع الاستطلاع، فرحب بنا وأبدى استعداده للإجابة عن كل سؤال أو استفسار. هنا كان سؤال البداية عن مفهوم "العصامية"، الذي أصبح بعض الفنانين يتخذونه ذريعة لترويج صناعتهم الفنية، فكان جوابه :« الفنان العصامي هو الذي كون نفسه دون الولوج لأي فضاء للمعرفة الفنية سواء كانت تشكيلية أو مسرحية أو تمثيلية. العصامية حب للصنعة و رغبة في الوصول إلى القمة. شخصيا ليس لي مسار طويل في الفن التشكيلي، وإنما أنا صاحب عشر سنوات من الممارسة التشكيلية التي هي موهبة موازية لمهنتي التي أعيش بها وأتدبر بها إكراهات الحياة. أنا مثل كثير من الفنانين الذين يقولون: الفن ما تَيْعَيَّشْ ». أما عن وجوده بهذا الفضاء وعن مدرسته الفنية المفضلة، يقول عبد الكبير دلال:« وجودي هنا مثل وجود كل هؤلاء الزملاء العاشقين لفن الريشة وأخواتها. أنا متعدد الاتجاهات الفنية ولا أسجن نفسي في اتجاه أو مدرسة تشكيلية. اختياري يتأسس على التجربة والممارسة والمعرفة مما يجعل زبنائي لا ينحصرون في فئة دون أخرى». وبتواضع الفنانين الذين لا يسكنهم غرور النجومية، صرح دلال:« أنا مازلت أبحث عن مكان داخل التشكيل المغربي. أرسم من أجل الرسم، ومن تعجبه لوحاتي فمرحبا به مسبقا. وسيكون لي شرف أن يقتني الناس أعمالي ويجعلنوها معلقة في مكان من أمكنتهم الخاصة، لأن ذلك سيكون تشجيعا لي على مواصلة العمل والإنتاج والتكوين. وإذا ما سألتني عن أثمنة لوحاتي، فلن أجيبك إلا بأن ذلك يبقى مرتبطا بطبيعة كل لوحة وتشكيلها وتركيبها وحتى قيمة الزبون نفسه». ويضيف دلال :« في بعض الأحيان أجد نفسي تحت سلطة طلبات الزبناء. قد يأتيني زبون ويطلب مني أن أرسم له لوحة معينة أو تحويل بطاقة بريدية إلى لوحة تشكيلية أو إعادة إصلاح لوحة فنية فاسدة… أي أنني أمارس كل الأعمال التي تدخل في صلب العمل التشكيلي». أليس هذا نوعا من "البريكولاج الفني"؟ يجيب دلال نافيا ذلك بقوله:« سَمِّيه كما شئت، أنا رسام بالدرجة الأولى، وعندما أجد نفسي في خدمة زبون، لماذا أتحاشى هذه الخدمة؟، ثم إن إعادة تشكيل لوحة فنية من جديد هي في الأول والأخير ممارسة فنية وليس تخَربِيقًا. وإذا كانت هذه اللوحات تحمل توقيعي فلا يعني أني أمارس القرصنة أو السرقة أو ما شئت من الأوصاف التي نسمعها من حين لآخر.». وتابع دلال دفاعه عن اختياراته الفنية :« لاحظ معي هذه الكتب القديمة، فأنا أعتمد عليها لأنها تتضمن بين صفحاتها صورا عن تاريخ المغرب ومعماره وحضارته . لذلك أناواحد من التشكيليين المغاربة الذين يهتمون كثيرا بإعادة إحياء التراث المعماري المغربي القديم.»
عمر الشناعي: جود الفضاء بالقرب من مسرح محمد الخامس له دلالة كبيرة
لا يختلف عمر الشناعي، عن كثير من الفنانين التشكيليين الذين يحتضنهم فضاء "محمد بن علي الرباطي". ابن مدينة الخميسات وأحد الوجوه المعروفة داخل الساحة التشكيلية الوطنية. نهج سيرته يكشف عن مشاركته في العديد من التظاهرات التي أقيمت بالمغرب و خارجه، حتى أن لوحاته بدأته تأخذ مكانا لها ضمن مجموعة من الأروقة المحلية والوطنية. عمر الشناعي يفتخر بكونه عصامي التجربة الفنية حيث كان للعائلة دور مهم فيما وصل إليه:« أنا مثل هؤلاء التشكيليين الذين يوجدون بالفضاء . عصامي التجربة حيث كبرت في البادية وترعرعت. منذ الطفولة وأنا مولع بفن الرسم. كما لا أخفيكم سرا أني ولدت وسط عائلة فنية، حيث كان عمي رساما والوالدة مولعة بصناعة الزربية. إذن أنا رسام بالموهبة والتأثر بالبيئة. هنا بهذا الفضاء، أواصل العمل منفتحا على العالم عكس المرسم الذي أكون فيه سجين أربعة جدران. لذلك أعتبر فضاء "محمد بن علي الرباطي" التشكيلي بادرة طيبة في حق التشكيل والتشكيليين المغاربة. إنه وسيلة أساسية وضرورية لخلق تواصل مع التشكيليين ومع كل من يقوده فضوله إلى زيارتنا، سواء كان من سكان مدينة الرباط أو من خارجها . ثم إن جود الفضاء بالقرب من مسرح محمد الخامس له دلالة كبيرة و قيمة مهمة في التعريف بالفن التشكيلي والترويج له.» عندما سألت عمر الشناعي عن هذه اللوحات وعن تعابيرها الفنية وألوانها، أجاب قائلا:« الموضوع الذي أشتغل عليه كثيرا له علاقة وطيدة بكل ما هو مغربي و تراثي و تقليدي إضافة إلى المعمار الوطني الذي يتميز بجمالية وهندسة مثيرتين للانتباه. أما بخصوص الألوان، فقد اخترت الاشتغال على الخلفية السوداء لأنها تساعدني على إخراج وإظهار لوحاتي وأشكالي التعبيرية، مع الإشارة إلى أن الضوء يكون له انعكاس قوي مع هذه الخلفية . هذا عمل جديد وأنا مدين لأحد أساتذتي في هذا الاختيار». لكن، هل تلقى هذه اللوحات وغيرها إقبالا من طرف الزبناء؟ يجيب الشناعي:« أنا أضم صوتي إلى كل التشكيليين الذين يقولون إن الفن لا يضمن لصاحبه لقمة العيش. لذلك يجب التفكير جيدا في خلق مثل هذه الفضاءات على امتداد العاصمة حتى يتمكن التشكيلي من فرض إنتاجه والتعريف به. الناس لم تعد تزر الأروقة إلا نادرا ونحن نواجه منافسة قوية من طرف اللوحات المزيفة التي تباع هنا وهناك وخاصة تلك اللوحات المطبوعة والمستنسخة والمنخفضة الثمن، على غرار سلعة الشِّينْوا. إنها خدعة فنية وتجارة بالدرجة الأولى ولا يمكن الرهان عليها لأسباب عديدة.» أمام هذه الوضعية المتأزمة، يوجه الشناعي، نيابة عن كل الفنانين التشكيليين المرابطين بالفضاء، رسالة واضحة اللغة والدلالة إلى الجهات المعنية بالفن التشكيلي مفادها: «الناس أحرار في اقتناء واختيار ما يريدون، لكن على الجهات المعنية بالثقافة عامة والتشكيل خاصة أن تتحمل مسؤوليتها في حماية الفن المغربي الأصيل من هذه القرصنة والصناعة المشوهة».أما أمنتيه فهي أن يبقى بالفضاء التشكيلي فترة طويلة ولمالا دائمة، حتى يتمكن من العطاء الكثير والاستمرار في ذلك. «هذا الفضاء جنة بالنسبة لي فهو يخلق نوعا من التواصل مع الناس وكل الناس. إنه رواق مفتوح وضروري لي ولغيري من التشكيليين المغاربة أبناء جهة الرباط وسلا وما جاورهما». ويختم الشناعي حديثه بجملة تفيض بكثير من الألم والأمل:«إذا كنا نشعر بأن بلادنا لا تحترم الفنان الأصيل، فإن من يعيش في هذه البلاد يجب أن يكون فنانا عصاميا.» عبد الله الدقاق، وفاء رياض، عبد الكبير دلال وعمر الشناعي وغيرهم من التشكيليين الآخرين، يجمعون على أن هذا الفضاء يبقى ضروريا للتعريف باسم الفنان والترويج لفنه، لكن يجب أن تتظافر جهود الجميع من أجل وضعية اعتبارية متميزة لهذه الفئة من الفنانين ، حتى يكون للإقامة معنى ودورا فعالا في التنمية الثقافية داخل العاصمة الرباط، ولذلك يطالب هؤلاء التشكيليون العصاميون بتحفيزات وضمانات إضافية قادرة على الرقي بالتشكيل المغربي إلى المستوى الذي يجعل منه نافذة للإطلالة على حضارة المغرب وثقافته الغارقة في القدم. جمعية رباط الفتح: هذه هي ملابسات إقامة فضاء محمد بن علي الرباطي ولمعرفة الملابسات التي أحاطت بإقامة هذه الأروقة خلف مسرح محمد الخامس وعند منتصف شارع أحمد المنصور الذهبي، كان لا بد من زيارة مقر جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة بالعاصمة الرباط، باعتبارها المشرفة على تدبير وتسيير الفضاء. هناك كان في استقبالنا، إثنان من أعضاء الجمعية هما:
مصطفى الجوهري نائب رئيس الجمعية وبنونة اللذان يسهران على مراقبة الفضاء حتى يبقى محافظا على دوره في التنمية الثقافية داخل العاصمة، ومنع كل ما من شأنه أن يجعله فضاء لممارسة أنشطة لاعلاقة لها بالفن إطلاقا. منذ بداية هذا اللقاء الحواري، اختار مصطفى الجوهري أن يبدي لنا ببعض المعطيات التي يعتبرها ضرورية لمعرفة كيف جاءت نشأة فضاء "محمد بن علي الرباطي":« لابد أن يعرف القارئ أنه إذا كانت الرباط قاعدة للمملكة والعاصمة الإدارية للبلاد، فلا يجب أن ننسى أنها كذلك عاصمة للثقافة بالدرجة الأولى، ولكن مع الأسف الناس تختزل صورة المدينة في كونها عاصمة إدارية فقط ». ويضيف الجوهري أنه منذ«تأسيس جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة وهي تهتم بالثقافة بصفة عامة والفنون التشكيلية بصفة خاصة. وقد نظمت العديد من المعارض على مستوى عال داخل قاعات مختلفة بالرباط(…) حتى أنها ابتدعت تظاهرات فنية سنوية تحاول من خلالها أن تجمع عددا كبيرا من الفنانين التشكيليين الذين يفوق عددهم مائة فنان تشكيلي، وعشنا هذه التجربة في الفضاءات الخارجية لمدينة الرباط…». لم تكن الصدفة وحدها سببا في ظهور هذا الفضاء التشكيلي المفتوح على الشارع، وإنما الفكرة انبثقت من منظومة عامة. وهنا سيكشف لنا مصطفى الجوهري على المعطيات الأساسية المرتبطة بذلك قائلا:« كانت هذه الأكشاك فيما مضى خاصة ببائعي الورود بعد نقلهم من ساحة "بلاس بيتري" الكائنة بشارع الحسن الأول من أجل تجديدها وبناء مأرب خاص بالمقاهي ومرافق أخرى متعددة (…)، غير أن بائعي الورود ظلوا يطالبون بالعودة إلى الساحة نظرا للعلاقة الحميمية والتاريخية والتجارية التي كانت تربطهم بساحة "بيتري"، وفي الأخير استجابت سلطات البلدية والولاية لمطلب هذه الفئة من تجار العاصمة الممارسين لبيع الورود والأزهار ومختلف النباتات الحية، فعادوا إلى مكانهم الأول. هنا سيكون لسؤال: مامصير هذه الأكشاك؟ مكانة كبرى وانشغالا بالغا لدى المسؤولين داخل بلدية الرباطة وولايتها؛ فلا يعقل أن يتم توظيف الأكشاك الفارغة في أنشطة تعود بالضرر على المكان خاصة وأنه يتموقع في نقطة استراتيجية ومهمة جدا، كما أن الكثيرين يرغبون في الانقضاض عليه نظرا لما قد يذره عليهم من أرباح مالية خيالية(!!!). إذن، فكرة إعادة تنشيط المكان بنشاط يليق بسمعته وموقعه انطلقت مع عمدة المدينة السيد فتح الله ولعلو الذي وقع اتفاقية شراكة مع جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة في شخص رئيسها السيد عبد الكريم بناني و ولاية المدينة من أجل استغلال واستثمار هذه الأكشاك من أجل التنمية الثقافية داخل الرباط وإعطاء وجه مضيء للعاصمة، ولكن من خلال الفنون التشكيلية». ويضيف مصطفى الجوهري شارحا لنا كيف جرت الأمور بعد ذلك:«عندما طرح عمدة المدينة الفكرة على رئيس جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة، ثم استحضار المعطيات التي ذكرتها في مدخل حواري معكم. كان يجب البحث عن بديل سياحي لمدينة الرباط، لأن المدخل للسياحة هو الثقافة عامة والفنون التشكيلية على وجه الخصوص. هنا قررت بلدية الرباط إعطاء تلك الأكشاك إلى جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة حتى تخصصها لميدان الفنون التشكيلية. ولا أخفيك بأن جهات متعددة، ومن ضمنها بعض المستشارين داخل مقاطعات العاصمة، حاربونا وأرادوا منعنا من تحقيق هذا المبتغى. ربما كان هدفهم هو توظيف هذه الأكشاك لأغراض تجارية وليس خدمة للصالح العام للمدينة». وحتى يأخذ الفضاء طابعا يليق به وبسمعته، كان على جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة أن تختار له اسما. بعد بحث طويل في الأرشيف الفني للعاصمة، وقع الاختيار على اسم "محمد بنعلي الرباطي"( 1861- 1939)،الذي يعد مفخرة الفن التشكيلي بالمغرب زمن الحماية، حتى أن كثيرا من تاريخ هذا الفن بدأ مع محمد بنعلي الرباطي الذي «كان يفضل الألوان المائية على الورق وليس على القماش». وفعلا، أطلق اسم "محمد بن علي الرباطي" على الفضاء الذي يضم 28 كشكا أو ورشة للفن التشكيلي؛ يستأجره أزيد من خمسين تشكيليا وتشكيلية ينتمون إلى جهة مدينة الرباط - سلا ونواحيها؛ مدة الإقامة به محددة في ستة أشهر؛ الجميع خاضع لقوة التعاقد مع الجمعية ولضوابط قانونية واضحة ولا لبس فيها، حيث إن كل من يريد أن يلتحق بهذا الفضاء، عليه الالتزام ببنود العقد/الإلتزام؛ الهدف من هذه الإجراءات ليس التضييق على الفنانين، وإنما العمل على جعله «فضاء لممارسة الفن التشكيلي و الرقي به إلى مستوى عالمي» يقول مصطفى الجوهري، مضيفا أن الجمعية تشتغل بكل إمكانياتها وطاقاتها حتى يصبح الفضاء ذات إشعاع دولي ويدخل في المنظومة الثقافية و السياحية للمدينة. في البداية بدأنا بتجربة زمنية لا تتجاوز ثلاثين يوما، ولكن اكتشفنا أن هذه المدة غير كافية، فحولناها إلى ثلاثة أشهر، ثم بعد ذلك انتقلنا بها إلى ستة أشهر، وهي مدة تسمح للفنان بأن يقيم داخل الرواق وأن يخلق له ألفة بالفضاء وعلاقات مع زملائه التشكيليين و زبنائه وأن يعرف بفنه، علما أننا نرى في هذا المكان ملتقى لتشكيليي المغرب عامة وجهة الرباط على وجه الخصوص. فالرباط مدينة الجميع والفن ليس له جنسية محلية أو إقليمية ، أما الإقامة فمجانية شريطة أن يكون الفنان يحمل بطاقة العضوية داخل جمعية رباط الفتح. وللحفاظ على حركية الفضاء، أسسنا ناديا خاصا بالفنون التشكيلية تابع لجمعية رباط الفتح، ويضم في عضويته مختلف الفئات الجنسية والعمرية التي تهتم بالتشكيل وما جاوره من الفنون الجميلة». ويشدد نائب رئيس جميعة رباط الفتح على أن الغرض والهدف من كل هذه المبادرات هو « تبادل الخبرات بين التشكيليين والتشكيليات وتنظيم أنشطة متعددة فيما بينهم، سواء كانت فنية أو ثقافية». وتوقف مصطفى الجوهري طويلا عند الرهان التربوي الذي يلعبه هذا فضاء "محمد بن علي الرباطي"، حيث اشترطت الجمعية على التشكيليين احتضان بعض الأطفال الراغبين في ممارسة هذا الفن منذ صغرهم، والدليل على ذلك هو الورشات التي تنظم من حين لآخر داخل الفضاء. وغالبا ما يكون يوم الأحد يوما مفتوحا في وجه هؤلاء الأطفال الذين قد تسعفهم ظروفهم ومواهبهم ليصبحوا نجوم فن الريشة والألوان. ثم هناك رهان آخر لا يقل أهمية عن الرهان الثقافي والسياحي والتربوي، إنه رهان «إخراج الفنان التشكيلي من تقوقعه وانغلاقه، أي الانتقال بالثقافة التشكيلية من أدب الصالونات إلى المجتمع حيث يكون الحوار والتواصل والانفتاح على الناس والاستفادة من ملاحظاتهم وتوجيهاتهم». قبل أن نقفل هذا اللقاء، ونشكر محدثينا عن استضافتهما لنا ورحابة صدرهما وإغناءنا بكل هذه المعطيات، كان لا بد أن نسألهما عن دور جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة في التكوين والتوجيه المستمرين واللذين يمكنهما أن يكونا بمثابة الدعم تجاه الفنان التشكيلي حتى لا يبقى رهين العصامية التي لم تعد تنفع مع تطور المعرفة الفنية وأساليبها، فكان رد نائب رئيس الجمعية قائلا : «هذا مطلب موضوعي، وليس فقط التكوين وإنما التكوين المستمر. أغلبية الفنانين هم عصاميون، ربما دخلوا الفن التشكيلي من باب الهواية والموهبة ووجدوا أنفسهم يتقنون هذا الجانب، لكنهم يفتقدون إلى الجانب الثقافي. يجب أن تعلمون أن مدينة الرباط تعاني من خصاص في المدارس المتخصصة في الفنون التشكيلية، خلافا لما هو عليه الأمر في الدار البيضاء أو تطوان حيث توجد مدارس للفنون الجميلة». و يسترسل مصطفى الجوهري:« نحن في الجمعية ندرس كيفية إخراج هذه الفكرة إلى حيز التطبيق وليكن ذلك من باب تنظيم ورشات خاصة تدخل ضمن التكوين المستمر أو التوجيه الأساسي على غرار استدعاء فنانين كبار يقدمون لهؤلاء التشكيليين العصاميين والمبتدئين المعطيات التي ستنضاف إلى رصيدهم الثقافي». ولأجل ذلك كله، تحاول جمعية رباط الفتح للتنمية المستدامة أن تكون خير سند لهؤلاء التشكيليين العصاميين والمبتدئين «برعايتهم واحتضانهم حتى ينتقلوا من الفن البسيط والتلقائي إلى الفن المبني على ثقافة فنية رصينة وممزوجة بقوة الموهبة والعزيمة».
857 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع