مارتين هايدغر: وحدها الغابة "السوداء تلهمني"
إيلاف/ترجمة: حسّونة المصباحي:في شهرأيلول-سبتمبر 1933، تلقى مارتين هايدغر الذي كان قد عيّن آنذاك عميدا لجامعة فرايبورغ ، وللمرة الثانية، إقتراحا بتعيينه أستاذ كرسيّ للفلسفة في جامعة برلين. وهذا النص يتضمن تفسير رفضه للمنصب المذكور. فيه نجد وصفا دقيقا وشاعريّا للبيت الريفي الذي إعتاد الإشتغال والتفكيرفيه، وأيضا لوادي" تودناو" القريب من "فالدبارغ"، أعلى قمّة في "الغابة السوداء". وفي النص صدى للبعض من حياة هايدغر، ولدعوته الدائمة للتجذّر في الأرض، وفي عالم الفلاحين...
على المنحدر الوعر لواد عال وكبير، هناك جنوب "الغابة السوداء"، عل إرتفاع 1150 مترا، بيت ريفي صغير(6 على 7أمتار)، يغطي سقفه الواطئ ثلاث غرف: المطبخ، وغرفة مستعملة كمكتب للعمل.مشتّتة في العمق الضيّق للوادي، على المنحدر المواجه، الوعر أيضا، تنتشر بكثرة الضيعات ذات السقوف الكبيرة المائلة. على طول المنحدر،تصعد حقول الرعي حتى غابة التنّوب الشّامخ والدّاكن. فوق كلّ هذا المنظر، تمتدّ سماء صيفيّة صافية، في فضائها المشعّ يرتفع صقْران راسمين دوائر واسعة. هذا عالم عملي كما تراه عينا المصطاف والضيف العابر العاشق الحقيقي للكلمة. أنا أحسّ بتحولاته من ساعة إلى أخرى، ومن النهارإلى الليل، خلال تعاقب الفصول. إنّ ثقل الجبال وصلابة صخورها القديمة، والنموّ المحترس لأشجار التنوب، والبهاء المضيء للحقول المُزْهرة، وهمس السيول في ليل الخريف الطويل، وأيضا البساطة الصّارمة للمساحات المغطّاة بثلوج كثيفة، تتسرّب كلّها إلى الحياة اليوميّة هناك في الأعالي، وفيها تتجمّع وتتراكم وتتموّج. ليس في اللحظات التي نريدها أن تكون لحظات إنغماس في المتعة، ولحظات تحقيق الذاتيّة المصطنعة ، وإنما فقط حين يكون وجودي في حالة تأدية عمله. العمل وحده يفتح الفضاء لواقع الجبل هذا. وسيره يظلّ مُنْتظما في تحوّلات المشهد الطبيعي.
العمل الفلسفيّ لا يتمّ بعيدا كما لو أنه فريد من نوعه. إنّ مكانه يوجد وسط عمل الفلاحين. عندما يجرّ المزارع الشابّ المزلاج الثقيل المُحَمّل بحطب أشجار الزّان على طول المنحدر الوعر والخطر بإتجاه ضيعته، وعندما يدفع الراعي بخطى حالمة وبطيئة باتجاه القمّة، وعندما يجمع الفلاح في غرفته القدّات الكثيرة الصالحة للسقف، فإنّ هذا العمل يكون من نفس الصنف. والإنتساب الفوريّ لعالم الفلاحين يجد هنا جذوره. ساكن المدينة يعتقد أنه"يختلط بالشعب" كلّما تنازل عن كبرايئه،وتحاور مع أحد المزارعين. وعندما في المساء، وقت الإستراحة، أجلس مع الفلاحين على مقعد أمام المدفأة،أو حول طاولة، هناك في "ركن الرحمان"(Herrgottswinkel )، لإننيفي أغلب الأحيان لا أتحدث معهم إطلاقا. هم أيضا لا يتحدثون معي. في صمت، ندخّن الغليون. وربما من حين إلى حين، تسقط منّا كلمة لنقول مثلا إن قطْعَ الخشب في الغابات إقترب من نهايته، وإن السّمور في الليلة السايقة داهم قنّ الجدجاج، وأتلف الكثير منه، وإنه من المحتمل أن تلد البقرة غدا، أو إنّ أحد الجيران أصيب بمرض ما. إنّ إنتساب عملي الحميم ل"الغابة السوداء" وللناس الذين يعيشون فيها له جذور عميقة، ولا شيء يعوّضه في المُزْدَرَع الشوابي، والألماني السويسري.
ساكن المدينة ينتعش في أكثر تقدير عندما يُدْعى للإقامة في الريف. أمّا بالنسبة لي، فإن عملي هو الموجه من طرف هذا العالم من الجبال والمزارعين. والآن يتوقّف عملي هذا من حين إلى آخر على مدى أوقات طويلة تخصّص للتحاور والتنقل للقيام بمحاضرات والمشاركة في مناقشات، أو للتدريس هناك عند سفح الجبل(يقصد فرايبورغ). لكن حالما أصعدإلى أعلى ، ومنذ الساعات الأولى لوصولي إلى البيت، يداهمني عالم الأسئلة القديمة. يتمّ هذا بنفس الشكل الذي تركتها عليه. وبكلّ بساطة أجد نفسي مَحْمُولا بالنغم الخاص للعمل، ولست أبدا سيّدا لقانونه الخفيّ. المدينيّون(سكّان المدن) يندهشون أحيانا لعزلتي الطويلة الرتيبة في الجبال، بين المزارعين. إلاّ أنّ ما أعيشه ليس العزلة، وإنما الوحدة. في المدن الكبيرة، بإمكان الإنسان أن يكون منعزلا أكثر ممّا في أيّ مكان آخر، وبسهولة متناهية. غير أنه لا يستطيع أن يكون وحيدا البتة. ذلك أن الوحدة لها نفوذ متميّز تماما في ألاّ "تعزلنا". بل بالعكس، هي تلقي بحياتنا بجوار كلّ الأشياء. هناك،أي في المدن، بإمكاننا أن نحصل على الشهرة السريعة من خلال الصحف والمجلات. وهذا هو الطريق المؤكد للسقوط السريع في هاوية النسيان.
خلافا لهذا، نحن نجد ذاكرة الفلاحين تتمتع بوفاء بسيط ودونما ضعف. أخيرا ماتت فلاحة عجوز هناك في الأعالي. أحيانا كانت تتحدث معي. خلال حديثها معي، تبرز من جديد الحكايات القديمة للقرية. وقد حافظت في لغتها القويّة والموحية على كلمات قديمة، وعلى أقوال مأثورة كثيرة فُقدت في اللغة الجديدة، بحيث لم يعد بإمكان شباب اليوم إدراك معانيها. في السنة الماضية، وكنت قد قضيت أسابيع بأكملها وحيدا في البيت، صعدت تلك العجوز البالغة من العمر 83 عاما المنحدر الوعر لمقابلتي. قالت إنها تريد أن تتحقّق أنني لا زلت موجودا، ومن أن اللصوص لم يأتوا ليسرقوا بيتي في غفلة مني. وقد أمضت ليلة موتها في نقاش مع أفراد عائلتها. قبل نصف ساعة فقط من رحيلها إلى العالم الآخر، كلفتهم بإبلاغ تحياتها إلى "الأستاذ". إنّ ذاكرة كهذه هي في رأيي أكثر قيمة من "روبورتاج" حتى ولو كان جيّدا، وفي صحيفة مشهورة عالميّا حول فلسفتي المزعومة.
إن العالم المديني(نسبة إلى المدينة) مهدّد بخطر كبير، خطر أن يصبح فريسة للبدع القاتلة. وثمّة تعجّل مزعج، وصاخب، ونشط جدا يبدو أحيانا غير مبال إطلاقا بعالم الفلاحين، وبطريقة حياتهم. وبذلك يتمّ بالتحديد نفي ما هو الآن وحيد وضروري، أي أن نظلّ على مسافة من نمط عالم الفلاحين، ونهمله أكثر من أيّ وقت مضى لقانونه الخاص، ونخشى ملامسَتَه لكي لا نعرضه للعنف وذلك بعرضه على الثرثرة الكاذبة لأصحاب الأدب حول ما يكوّن الكيان الخاص للشعب، ولانتمائه إلى مُزْدَرَع ما. إنّ الفلاح لا يرغب إطلاقا في تعجل المدينيين هذا، وليس بحاجة إليه. إلاّ أنّ ما يريده، ومايرغب فيه، هو رقّة محتشمة تجاه كيانه الخاص، وتجاه ما هو على علاقة به. لكن هناك كثيرين بين القادمين من المدن، والذين يأتون في زيارات عابرة-إبتداء بهواة التزحلق على الثلج- يتصرفون اليوم في القرية، أو في الضيعة كما لو أنهم "يتسلّون" في أماكن اللهو الموجودة في مدنهم الكبيرة. إنّ مثل هذا السلوك يقتل في ليلة واحدة ما تعجز عن تنفيذه عشرات السنين من التدريس العلمي حول مكونات شعب ما، وحول التقاليد الشعبيّة.
لندعْ جانبا كلّ ألفة متسامحة، وكلّ مصلحة غير حقيقية مع الشعب. لنتعلمْ إحترام الحياة الصعبة والبسيطة هناك في الأعالي، وأن نعاملها بجدّية ورصانة.
أخيرا عرضت عليّ جامعة برلين كرسيّ الفلسفة. لهذا السبب أغادر المدينة، وآوي إلى بيتي الريفي، وأسمع ما تقوله الجبال والغابات والضيعات. في الآن نفسه، أزور صديقي القديم ، وهو فلاح في الخامسة والسبعين من عمره. وقد قرأ العرض في الصحف. ماذا تاره يقول؟ يحدّق ببطء بنظراته الجريئة المنبثقة من عينيه الصافتين في عينيّ، ويظلّ محافظا على فنه مطبقا، ثم يضع برصانة يده الوفيّة على كتفي، ويحرك رأسه بشكل خفيّ. وهذا يعني:لا، لاقاطعة!
1102 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع