حوار مع الناقد عصام شرتح
أجرته الكاتبة نجاح كنعان العبدو
ج- إن للناقد الشعري حساسية كحساسية الشاعر؟ هل تعتقد أن الحساسية مهمة للناقد أكثر من الشاعر؟ وما هو ردك على من يدعون أعلى درجات المعرفة والحساسية في قصائدهم دون أن نجد هذا الملمح الجمالي في قصائدهم؟
ج- إن الحساسية الجمالية التي يمتلكها الناقد ينبغي أن توازي أو حتى تفوق حساسية المبدع،بل وترقى فوقها درجات؛ لأن الخبرة الجمالية التي يمتلكها الشاعر،لاسيما الشاعر المبدع المبتكر،حساسية رائقة قد تفوق المتوقع، واللامتوقع، والناقد الشعري المؤثر ينبغي أن تتوافر فيه الميزات التالية حتى يدخل عالم النص بمهارة وفنية واقتدار، وهي:
1)- الوعي الجمالي أو الحس الجمالي:
إن الوعي الجمالي نقطة مهمة في الناقد المؤثر، أي أن يعي الظاهرة المدروسة،ويلم من جوانبها كلها، وليس ذلك فحسب، بل عليه أن يقيِّم الظاهرة المدروسة بمنظار جمالي، وحس معرفي رؤيوي شامل، لأن الوعي بالظاهرة ومردودها،ومؤثراتها،والعوامل التي كونتها تدفع الناقد إلى إعمال فكره، وتصوره العام،وحساسيته التامة تجاه معالجتها معالجة موضوعية دقيقة؛ ولا يمكن للناقد المؤثر- من منظورنا- أن يُغيِّب الوعي بالتقييم، وإلا كانت دراسته أشبه بالهذيان اللغوي،وفوضى الأحكام المطلقة التي تقف عند ظواهر الأشياء ،وقشورها الخارجية من دون أن تتغور عمقها،وحيثياتها الجزئية الصغيرة أو الدقيقة.
2) الخبرة الجمالية:
لا شك في أن الخبرة الجمالية تعد أس القيم الواجب توافرها في الناقد المؤثر، حتى يمتلك القوة الدافقة للمحاكمة ،واستنباط الأحكام الموضوعية بدقة متناهية،وإحكام رؤيوي معرفي شامل. فالخبرة ليست وليدة ساعات، وأيام،وشهور،وإنما وليدة الكثير من التجارب، والمحاولات،وربما الانكسارات والإخفاقات الكثيرة حتى تصل المحاولات المتتابعة إلى النجاح؛ ومن هنا؛ فالخبرة الجمالية ليست لحظية آنية،تظهر، فجأة ،ومن ثم تختفي، وإنما هي خزينة معرفية لا تغيض ولا تنضب إطلاقاً،وبمعنى أكثر دقة، نقول: إنها قوة تدفع الناقد إلى الرقي،والتطور من منتج نقدي إلى آخر، فهي قيمة متطورة متنامية تزداد بازدياد إطلاع الناقد، وخبرته المكتسبة التي ترقى بالتدريج، في حين يمكن لهذه القيمة أن تخفت عند الشاعر كما حدث لمحمد الماغوط في دواوينه الأخيرة فقد كان من الشعراء البارزين عربيا في دواوينه الثلاثة الأولى، فيما تراجع بعدها، أما الناقد فالأمر لديه يختلف عن الشاعر إلا ما ندر، فالناقد طالما مستمر في إبداعه،ومتابعته الدؤوب للكثير من التجارب السابقة وهضمها والوعي بقيمها ومؤثراتها الجمالية لابد وأن يتطور حسه النقدي، وحساسيته الجمالية في التقييم الجمالي للظواهر الشعرية، ودراستها بعمق وشمولية.
ومما لاشك فيه أن الخبرة الجمالية تتنامى،تدريجياً، وتتطور،وترقى مستويات بالغة الأهمية، بالانفتاح الدائم على التجريب،والممارسة،والمتابعة، في ملاحقة كل ما هو جديد ضمن حقل الإبداع النقدي،وليس ضمن حقل التجريب النقدي الغث الذي قد يدخله الكثير الكثير من التجارب الموهومة التي لا تملك من النقد ذرة من الحساسية، والخلق، والوعي والجمال، أي على الناقد ملاحقة كل ما هو جديد ضمن حقل الإبداع النقدي، وأقول في حقل الإبداع النقدي لأن ما نشهده على الساحة النقدية العربية من دراسات نقدية جلها يصب في حيز ما هو مكرور، ومتداول، ومستهلك إلا ما ندر، لاسيما في مجال التجريب بما في ذلك الممارسة والتطبيق.
وقد لا أبالغ كثيراً في قولي: قد لا نجد ناقداً مهماً مؤثراً في عجلة النقد المعاصر في جل أعماله، سوى بعض الأسماء النقدية المهمة التي يمكن ألا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولا يخفى على القارئ أن سر نجاح أية ممارسة نقدية تنبع من الكفاءة النقدية،والخبرة، والمران في الدراسة، وتوليف الأفكار،واستنباط الأحكام النقدية المؤثرة، التي تكون وليدة الكشف، والبحث، والتحليل العميق،والتملي الدقيق في الظاهرة المدروسة.
وباختصار نقول: إن سر نجاح الناقد المبدع الحساسية الجمالية والوعي الجمالي ،والخبرة،والموهبة الفذة،والدربة والمران، والمتابعة الدقيقة لكل منتج إبداعي مؤثر، وفاعل بالعملية الإبداعية.
3- دقة الملاحظة، وسرعة الملاحظة، والبديهة:
لاشك في أن دقة الملاحظة وقوة البديهة من المسلمات البسيطة الواجب توفرها في الناقد؛ فالناقد الذي لا يحس بالظاهرة وأهميتها، ودورها المؤثر الفاعل ليس بقادر على أن يقنع ،وليس بقادر على أن يؤثر؛وليس بقادر على أن يمتع؛ فالناقد شانه شأن الشاعر المبدع يملك حساسية نادرة، أو قرون استشعار عن بعد، لما هو مصيب في الرؤية، والحدث،والمشهد الشعري، ومن المؤسف حقاً أن الكثير من النقاد اليوم يفتقدون إلى ما أسميناه ب( اللقطة السحرية)أو( العين الساحرة) التي ترى مالا يرى،وفي هذا يتميز ناقد عما سواه،تبعاً لفاعلية هذه الرؤيا عند هذا الناقد،وانعدامها عند سواه، فكثير من الأسماء النقدية اليوم التي تطرح على الساحة النقدية لا تملك من الرؤيا قيد أنملة، فتجد الكثير من الدعايات الفارغ حول كتب لا ترى فيها نقداً،وإنما انطباعات حدسية تمجيدية زائفة، النقد منها ومن أصحابها براء، فالناقد المبدع حقيقة هو رائي مبدع بامتياز، تراه دائماً يشدك،ويبهرك من منجز نقدي إلى آخر، ولا بأس أن نذكر بعض الأسماء البارزة أمثال: حبيب مؤنسي،ومحمد العبد،ومحمد عبد المطلب وصلاح فضل، وغيرهم كثير، وما يجب الالتفات والتنويه إليه : إن الإكثار من الأعمال النقدية ليس دليل تطور، ونمو، ووعي، وازدهار فكري نقدي مؤثر على الدوام، بل قد يكون هذا الإكثار وبالاً على الناقد، أعني ينبغي على الناقد دائما أن لا يترك أدواته النقدية تصدأ، أو تشيخ، أو حتى تهرم، ينبغي عليه أن يشحذها على الدوام؛ بما هو رائي أمامه من ظواهر ومؤثرات، ليس من الضروري أن يثبت كل ما يراه، ويلاحظه، ويهلل لما ينتجه ،عليه أن يغربل ما هو غث ومكرور،ويثبت ما هو جديد، ومهم، ومبتكر حتى تصل منتجاته النقدية إلى مستوى بالغ من النضج في ممارساته النقدية.
وباختصار أقول: إن قوة الناقد تتأتى من قوة وعيه،وخبرته، وممارسته النقدية المتنامية، فالتطور ، كما هو معروف، ارتقاء من الحسن إلى الأحسن ،ومن المهم إلى الأهم، وليس العكس، وهذا الأمر على الناقد أن يعيه، فإذا كان ما أنتجه في واقعه الحالي يقل بدرجات عما أنتجه بالأمس فعليه ن يدرك أنه سائر في انحدار، وهرم،وشيخوخة بالتأكيد، ومن ثم عليه أن يكثف قراءاته، ويزيد من ممارساته التجريبية؛ بالانفتاح على الممارسة، والتطبيق، حتى لا يهرم، وينحط مستواه النقدي الذي وصل إليه،فالقارئ لا يشفع للناقد أو المبدع الماضي المجيد أو العريق الذي حصله من سابق، بقدر ما يهمه الواقع الراهن،وما أثمر عنه من منتجات، ينتظرها أن تتنامى وتتطور بعد متابعة جادة لمنجزاته السابقة المميزة.
لكن ما يثير الأسف اليوم أن كثيراً من الأعمال الشعرية والنقدية اليوم لا تضيف جديداً على الإطلاق،بمعنى أن جل الإنتاجات تصب في خانة ماهو مستهلك ومكرور وغث حتى في الرؤى، والأشكال، والمنظورت التي تشير إلى بعض ما هو جديد، ولا أبالغ في القول : إن ثمة عجزاً ملحوظاً في النقد السوري المعاصر ناجم عن ضعف الفاعلية التطبيقية، وعجز في الوعي النقدي،وعجز في الطرح، وشيخوخة مبكرة باللغة، فا لمسألة جد خطيرة في النقد،وجد خطيرة بالإبداع،
ولن أتحدث عن تجربتي لأدعي أني تجاوزت كل ما أشرت إليه لكن كنت على وعي تام بأهمية تطور الناقد في كل منتج نقدي يقدمه مهما كثر أو قل، لأن القارئ اليوم أشد نباهة وفطنة من قارئ الأمس، وإن سقط الناقد سقط كالهرم وترامى كل ما أنجزه دفعة واحدة،ولهذا ، أشير إلى أن الطامة الكبرى اليوم أن النقد مهما تطور، لن يصل إلى الجزء اليسير مما هو مطلوب منه على الإطلاق، حتى عمالقة النقد اليوم الذين سبقونا بالأمس أشواطا ما عاد لهم جمهورهم الذي كان بالأمس؛ لأتهم نسخة عن كتاب ما يكررونه دوماً تحت مسمى مثير،سرعان ما تجده نسخاً مباشراً عما اشتغله بالأمس، وهذه الطامة الكبرى والحرقة المريرة التي يعاني منها نقدنا وأدبنا المعاصر.
4) الحنكة الجمالية في ربط الأفكار واستخلاص الحكم النقدي
الناقد المبدع كالشاعر المبدع عليه أن ينتقل من موضوعة نقدية إلى أخرى، برشاقة، وخفة ،وانسيابية آسرة،عليه أن ينتقل بين الكلمات والجمل بمهارة، وخفة، وسلاسة لغوية،ليستطيع أن يجذب القارئ، بإصداره الحكم النقدي المناسب الذي لا يناقض ما سبقه من أحكام، ولا يتعارض مع حكم نقدي سابق كان قد طرحه في موقع ما عن الظاهرة نفسها، والطامة الكبرى أن الكثير من الأحكام النقدية اليوم مقحمة على الظاهرة المدروسة من الخارج، إقحاماً يصل حد الاستغراب والدهشة من الناقد كيف يصدر حكماً على نصوص ليس بينها أي شبهة أو تشابه في شيء، ويعطيها الحكم النقدي ذاته،ومن هنا، فالناقد الحصيف هو من يمارس كشوفاتة النقدية بقوة، ووعي، وعمق في تتبع الظاهرة، والخلوص من خلالها إلى قيم نقدية متسقة، وفاعلة في إنجاح العمل النقدي، والرقي به فنياً وجمالياً.
5) قوة التأثير،وبلاغة الحكم النقدي:
لاشك في أن قوة الناقد المؤثر تكمن في فاعلية إقناعه، وتأثيره في القارئ، من خلال قوة الدافع الرؤيوي الجمالي في الحكم المستخرج، هذا من جهة،ومن جهة ثانية من خلال أحكامه الموضوعية الدقيقة المستخلصة،وإلا فإن نقده لن يتعدى ذاته وحاجز القراء المستهلكين كذلك، أولئك الذين يبحثون عن القشور، لا البؤر العميقة التي تتطلب وعياً وإدراكاً جمالياً عالي المستوى، ولهذا لا تثمر مجموعة القيم والأحكام النقدية إن لم يكن ثمة وعي تام في استخراج الحكم النقدي النابع عن مفرزات الظاهرة المدروسة لا من مفرزات غيرها من الظواهر، بما يخدم الرؤية الشعرية،ويخدم مردودها الجمالي المؤثر.
6) جمالية اللغة،وبلاغة التعبير:
إن للغة دورها المهم والمؤثر في لغة الناقد ليستطيع أن يصل إلى القارئ بأقل السبل الممكنة من القول، ولهذا ،فالبلاغة والاقتصاد والاختزال قيمة عليا في نجاح الناقد في عمله النقدي ورسالته النقدية، والناقد شأنه شأن الشاعر مطالب بأعلى درجات الفنية والوعي والحس والجمال في لغته، للإفصاح عن مخزون النص المدروس، أو الظاهرة المدروسة، فالإيضاح المفرط ليس في مصلحة الناقد شأنه في ذلك شأن الشاعر، فاللغة المواربة ( اللعوب) شرط من شروط نجاح الناقد في إكساب نقده قيمته العليا، وتدل على مستواه الفكري، والنقدي، وحسه الجمالي باللغة،ومستوى التعبير عنها.
ونشير إلى ناحية مهمة وهي: كم من النقاد قد خذلتهم اللغة،فما استطاعوا أن يؤثروا، أو يقنعوا في دراساتهم النقدية، ليكسبوا الشريحة العظمى من القراء، سواء باعتماد الأحاجي اللغوية وتلغيز اللغة المبالغ فيه، وفي هذا الصدد أطرح عملاً نقدياً للدكتور عبد الكريم حسن تحت مسمى شائق( البنيوية في الشعر دراسة في شعر السياب) لا يمت إلى الدراسات الشعرية بصلة، والنقد منه براء،وإنما يمت إلى الرياضيات والعمليات الحسابية، وكلما حاولت العودة إليه أجد نفسي في دوامة الرموز والأرقام الحسابية، أغلقه وأندم على ما ضيعت من وقت دون أن أحصل شيئاً، وهذا الأسلوب – بالتأكيد – يضعف الناقد، ويصرف القارئ عنه، وبالمقابل هناك الكثير من الدراسات النقدية السطحية المباشرة التي تنأى عن الفهم والوعي والإدراك البالغ لدور اللغة،فينقلون أحكامهم نقلاً لا يمت إلى اللغة النقدية بصلة،وكأن الناقد يشرح درساً أمام طلبته شرحاً تفصيلياً مهماً، لا يليق بلغة الناقد الإيحائية البليغة الموجزة. فلا يحقق الإمتاع الذي من وظيفة اللغة النقدية أن تؤديه ولا الإقناع، وهذه الطامة الكبرى في توظيف اللغة النقدية،والإفادة منها جمالياً في الإضافة إلى النص..
7- بلاغة الموقف النقدي وقيمة الرأي الصائب:
الناقد المؤثر –دون أدنى شك- هو الناقد المكتشف ، هذا الناقد الذي يكتشف الظاهرة،ويعالجها بموضوعية، ودقة،ويتخذ الموقف النقدي المناسب،ويستخلص الحكم المقنع المؤثر، في كل نقطة، أو مفصل مهم من مفاصل الدراسة، ليحقق ما قلناه:( بلاغة التأثير، والإقناع)، وباختصار، يمكن القول: إن للناقد دوراً مهماً لا يقل قيمة ولا أهمية عن دور الشاعر، فأهميته تبدأ من لحظة تفاعله وإحساسه بالنص،فكم من النصوص الإبداعية تفقد قيمتها لحكم نقدي غير محسوب، لدرجة تفقد الدراسة موضوعيتها،وقيمتها النقدية المنشودة.
إذاً، في المحصلة: النقد المؤثر هو اجتماع قيم ،ونتائج، وخبرات،ومعارف مكتسبة من خلال إعمال الفكر في الظواهر المدروسة، والخلوص منها إلى نتائج مبتكرة، تدلل – بشكل أو بآخر- على قيمة الناقد، وقيمة المنجز النقدي الذي بين يديه.
2- إن توجهاتك النقدية الآن منصبة على الجمال، أو ما أسميته في كتابيك( الفكر الجمالي)؟
ج- إن الفكر الجمالي هو أساس الإبداع، فلا إبداع بلا فكر، أو رؤيا جمالية خلاقة ترتقي بالقصيدة؛ والشاعر في لحظة تشكيل القصيدة قد تقوده عاطفته، والنبرة الشعورية الداخلية،تلقائياً في بداية المخاض،وتشكيل القصيدة،ولكن بعد أن تنتهي هذه الدفقات المتوالية،أو الموجات المتتالية من الاندفاعات اللغوية المموسقة ليعود الشاعر بجمال فكره، ليحذف كلمة، أو يضيف،تبعاً لفاعلية الرؤيا الجمالية، والحساسية الجمالية في التعبير عنها، ولهذا، لا يغيب الفكر الجمالي- إطلاقاً- في لغة التشكيل،وكم من القصائد لا تثيرنا إلا بفكرها وحسها الجمالي المبدع.
وطبيعي أن الفكر الجمالي في المحصلة ما هو إلا مخزون رؤيا جمالية مبدعة، والقارئ الجمالي هو صنوي في الإبداع، وإني أزعم أنني في هذين الكتابين( الفكر الجمالي في شعر حميد سعيد)و( الفكر الجمالي عند شعراء الحداثة المعاصرين) قدمت ما هو ضروري في البحث عن الفكر النير عند شعراء الحداثة، من خلال القيم الجمالية والدلالات الموحية لفاعلية المخيلة الشعرية الخلاقة عند بعضهم،والخلوص بأحكام نقدية جديدة.
وبمنظورنا: إن الفكر الجمالي هو حصيلة رؤى جمالية وأحاسيس جمالية متتابعة تسمو بالقارئ، وتسمو بتجربته الشعرية كما يقال، إن الجمال نقطة تجاذب الكائنات،ونقطة تجاذب الأرواح، ونقطة تجاذب الأحاسيس البشرية،ولا غنى للمبدع الشعري عن هذه الومضة الجمالية التي تتشكل في هذه القصيدة، أو تلك،وكما يقال في كل قصيدة هناك ذرة ذهب علينا اكتشافها،وهذه الذرة هي التي ترفع الوتيرة الشعرية أو الحساسية الشعرية في النص.
ويخطئ من يظن أن الفكر الجمالي بمعزل عن الكشف، أو بمنأى عن الكشف،إذ لا يمكن تحثثه ضمن المنتج الشعري،نقول لهؤلاء : إن الفن- في المحصلة- ماهو إلا منتوج الفكر المبدع الخلاق،ولا غنى لأي عمل أدبي مؤثر عن فكر ثاقب، ونظرة معمقة في الكون والوجود والحياة.
باختصار، الفكر الجمالي هو كينونة دائبة من الحركة،والتميز، والخلق الجديد، ومن الضروري أن يحظى هذا الجانب المهم من اهتمامي في هذا الحقل الفكري الجمالي لمنتجاتنا الإبداعية.
كيف تثمر الدراسات الجمالية من منظورك؟3-
ج- تعد الدراسات الجمالية من أصعب الدراسات وأعقدها، وبالمقابل، تعد من أمتعها، لاسيما حين يكتشف الناقد الجمالي الكثير من القيم الجمالية التي تفجرها المنتجات الإبداعية، وأهم شروط نجاح الدراسات التي تدخل حقل هذا الموضوع ما يلي:
1-كشف الظاهرة جمالياً:
لاشك في أن كشف الظاهرة الجمالية في المنتجات الأدبية عموماً، والشعرية خصوصاً يتطلب إدراك الوظيفة الجمالية للظاهرة،وارتباطها بالرؤيا، أو الدلالة، فكم من الظواهر الجمالية التي تؤثر في مسارات المنتج الإبداعي فنياً لايتم اكتشافها للوهلة الأولى في النص، لعدم الوعي الجمالي بدور هذه القيمة إلا بعد ارتباطها بالرؤيا، أو المنحى الجمالي العام للنص الشعري، ولعل ملاحظة الظاهرة في الكشف الجمالي لاتكفي لإعطاء أية قيمة أو حكم جمالي على الظاهرة إذا لم يلحظ مدى ارتباط هذه القيمة بالقيم الأخرى،ودور جميع القيم في إغناء النص الشعري جمالياً.
وباختصار شديد: إن ملاحظة الظاهرة الجمالية هي أولى خطوات الكشف الجمالي الناجحة، وأولى خطوات الإمتاع الجمالي،مما يدل على أن الوعي الجمالي بالظاهرة يمثل قيمة مهمة في ملاحظة الظاهرة،ومحاولة ربط مؤشرها بالظاهرة الفنية أو الجمالية المستخلصة.
2- كشف وظيفتها وقيمتها الجمالية في السياق.؟
إن كشف الوظيفة الجمالية للظاهرة الشعرية في المنتجات الأدبية عموماً والشعرية خصوصاً، يتطلب إدراك الدور الذي تشكله هذه القيمة على مستوى الجزء،وصولاً إلى كلية العمل الفني؛ ولا نبالغ إذا قلنا: إن لكل قيمة جمالية في النص دورها المؤثر الذي ينعكس على الرؤيا الكلية للقصيدة؛ فالحكم الجمالي لايثمر إن لم يرتبط بقيمة جمالية صريحة واضحة للعيان في المنتج الشعري، وباختصار: إن كشف الوظيفة الجمالية في السياق هو الشرط الثاني الضروري في اكتشاف الدور الجمالي الذي تثيره القيم الجمالية في النص الشعري.
وقد لانجافي الحقيقة، إذ نقول: إن الحكم الجمالي الرائق ليس حكماً إسقاطياً،وإنما هو حكم استنتاجي، تكشفه البراعة، وعمق الملاحظة، ودقة الكشف، أي دهشة الكشف،لأن في اكتشاف الحكم الجمالي الجديد لذة أو نشوة من وجد كنزاً، وهذا الحكم الجمالي سرعان ما ينعكس على الدراسة الجمالية ككل، لدرجة ترفع قيمته الفنية العليا.
وبتقديرنا: إن أغلب القيم الجمالية للنصوص الأدبية عموماً، والشعرية خصوصاً تتخفى على القارئ الجمالي، لعدم قدرته على كشف الوظيفة الجمالية لهذه القيمة في السياق، وانعكاسها على الرؤيا الكلية للقصيدة؛ ولهذا يقال: إن النص المبدع دائماً يفرز قيماً جمالية جديدة غير مدركة أو ملاحظة من القراءة الأولى،ولهذا، فالناقد الجمالي- مطالبٌ- العودة إلى النص أكثر من مرة،ومتابعة الظواهر بعمق، وإحساس ،وشمولية حتى يكتشف القيمة الجمالية، ويكتشف في الآن ذاته انعكاسها على مسار القصيدة ورؤيتها وانعكاسها على مسار القصيدة ورؤيتها وتأثيرها على مناخها الرؤيوي العام.
3- ربط القيم الجمالية بمجموعة القيم الجمالية الأخرى:
إنه ما من شك فيه أن القيم الجمالية تتوالد من تضافر القيم الجمالية وارتباطها في النص، فالقيم الجمالية المكتشفة لاتظهر إلا باجتماعها وارتباطها وتفاعلها على مستوى الرؤيا،وجوهرها النصي العام. لأن القارئ الجمالي الواعي هو الذي يكشف أكثر القيم تأثيراً وانعكاساً على مسار القصيدة. فالكثير من التجارب الغنية جمالياً ما استحوذت على هذا الغنى إلإ نتيجة تضافر القيم الجمالية فيما بينها،وارتباطها بالرؤيا الكلية للقصيدة. وهذا يعني- بالتأكيد- أن الأثر الجمالي للقيم الجمالية يكمن في تضافرها وتفاعلها ضمن المنتج الفني،ولا قيمة ولا أهمية للقيم المفردة داخل النص الشعري؛ بمعنى أن القيم الجمالية ستكون أشبه بالومضة التي تلمع فجأة ،ثم تختفي، ثم بعد درجات من الانقطاع تلمع ومضة أخرى،وهكذا دواليك،دون أن يصطهج العمل الأدبي،ويشرق بكليته على جميع ومضاته.
والمهم- في المحصلة- أن يكون المنتج الجمالي ذا تأثير مباشر على جميع القيم المكتشفة،وانعكاسها على مسار الرؤيا في القصيدة،وإلا فقد هذا المنتج قيمته المثلى،بوصفه عملاً جمالياً مؤثراً فنياً بقيمه ومؤثراته الجمالية.
4- انعكاس القيم الجمالية على الرؤيا الكلية للقصيدة
إن هذا المؤشر هو حصيلة المؤشرات الجمالية في الحكم على قيمة المنتج الإبداعي؛ فالقيم الجمالية مهما تعددت لاتكتسب قيمتها إلا بتضافرها داخل النص،وانعكاسها على رؤيته الجوهرية العامة،وفي المحصلة: إن تفاعل القيم الجمالية هو إفراز حقيقي للنص المبدع جمالياً، أو لنقل النص الخلاق جمالياً؛ فالذي يثير القارئ- في المحصلة- الرؤى الكلية الجمالية المكتسبة من تتبع الظاهرة الجمالية،والحكم عليها جمالياً، أوفنياً، وباختصار: إن انعكاس القيم جمالياً على الرؤيا الكلية للقصيدة هو مصدر غنى الدراسة الجمالية والأحكام الجمالية المستخلصة.
ووفق هذا التصور، فإن لكل قيمة جمالية دورها المؤثر على النص الشعري الممتع،شريطة ارتباطها بالقيم الجمالية الأخرى،وتضافرها معها،ومدى انعكاسها على جوهر الرؤيا في منتوجها الجمالي العام. ومن هنا،تكتسب الكثير من النصوص الشعرية قيمها الجمالية بعد سلسلة من القراءات الجمالية المتحايثة، أو المتشاكلة، التي تضيف للعمل الأدبي قيمته وفاعليته الجمالية في كثير من النصوص الإبداعية المؤثرة عربياً.
- 4- أنت قلت في نص أدبي لك:(لما وردك المخملي يراقص أهداب دمعي
أتململ من تماثيل أشواقي أن تنكسر
أشعل سيجارة حزني لعلي انتصر،
وكأني لقطة من نهدك ،وصومعتي دمعك المنهمر).
أي بلاغة وأي عذوبة تجري من هذه الكلمات ،وكأنها نهر يفيض بعذوبة الشعر وأصفى؟
ج- أنا لست شاعراً، ولا أدعي الشعرية، لكن أملك روح شاعر، والحساسية الشعرية لاتنقل ولا تترجم، وأغلب الشعراء العظام صامتون، فاللغة والإيقاع قد لاتسعف البعض على التعبير، فالشاعرية ليست مقترنة دوما بالقدرة التعبيرية، فهناك شاعرية تسكن في الروح، وهي قد تكون أهم وأرقى روحياً من شاعرية القول والتعبير؛ فشتان ما بين شعرية القول،وشعرية الروح، وقد تكون هذه وجهة نظر ليس إلا.قد يوافقني البعض ،وقد يخالفني الكثير، لكن أقول بحق : إن الكثير من القراء يملكون حساسية الشاعر المبدع وزيادة،لكن اللغة والإيقاع لا تساعدهم على نقل ما في سريرتهم من أحاسيس شاعرية،ورؤى عميقة، وسرعان ما يلتقطون مصادر اللذة الجمالية في كل نص يطالعونه للوهلة الأولى،فتراهم شعراء في الذوق،وشعراء في الحساسية والرؤيا الجمالية.
5- كيف تتلقى النص الشعري جمالياً؟
ج- النص الشعري الجمالي هبة جمالية يتحثث روحك من العمق،تعيشه تجربة حقيقية ،وتحس أنك أمام كائن حي، باختصار: أنا لا أتعامل مع النص الشعري على أنه مجرد قول يترجم حالة شعورية ، أو موقفاً شعورياً معيناً، أتعامل معه،وكأنه قطعة من روحي،وجزء من تجربتي، وقد اكتشف مافيه من جمالية أكثر مما قد يكتشفه مبدعه بدرجات،لأنه حرك ما في داخلي من أحاسيس راكدة جعلها تطفو على السطح،وجعلها تفيض في داخلي شعوراً ورؤية وحساسية، والكثير الكثير من القصائد قد تمضي دون أن تحرك ساكناً في أعماقك،مع أن أصحابها قد يكونون ممن يملكون خبرة عميقة،وتجربة واسعة في التشكيل، والحرفنة اللغوية،والمباغتات النصية المفاجئة لكنها تقع خارج نسائم الروح التي نلتقطها من الشعر الحقيقي الرائق. فتعاملي مع النصوص يختلف باختلاف النص،واختلاف درجات بوحه وغناه الجمالي.
كيف تثمر الدراسات الجمالية من منظورك؟
يمثل كتاب «بنية القصيدة الشعرية عند فايز خضور»، لمؤلفه الباحث والناقد السوري جمال جميل أبوسمرة، دراسة نقدية في جوانب شعر فايز خضور المختلفة، وتطورها. وذلك في محاولة للكشف عن خصوصية تجربته الشعرية. فيدرس لغته وكيفية استخدامها على تنوعها، والصور الشعرية ومدى استفادته من التراث والحداثة. كما يتتبَّع إيقاع القصائد، سواءً في ما يتعلَّق بالموسيقى الخارجية كالعروض والقافية، أو ما يتعلَّق بالإيقاع الداخلي والنفسي.
يرى المؤلف أنَّ تجربة فايز خضور الشعرية تميَّزت بغناها وثرائها على مستوى المكونات الفنية للنص الشعري. ولكنَّها بقيت في إطار الرؤية حديثة الأيديولوجيا التي أفرزتها في التزامها الهم الاجتماعي والدعوة إلى تطوير الواقع. فلم تسجل التطور المأمول على مستوى الرؤية، إلاَّ إنَّها سجَّلت تطوراً على الصعيد الفني عبر مسيرتها الزمنية. ولكنَّها من حيث الرؤى الفكرية ظلَّت تحوم حول مقولات فكرية ناظمة.
يبين مؤلف الكتاب، أنه يشكِّل التمرُّد والرفض، المحور الأساسي الذي تقوم عليه التجربة الشعرية عند فايز خضور. والنبع الجمالي والدلالي لمقولاته الشعرية، كما يشكِّل الجنس والموت إحدى همومه. فنراه إنساناً وجودياً عدمياً.
ويؤكد أبوسمرة أن فايز خضور وقع في التكرار الذي شكَّل إحدى إفرازات هذه المقولة.
يشير الكتاب إلى أنه نوَّع الشاعر خضور في الكيفيات التي تعامل فيها مع اللغة. فاستطاع تطويعها وفق تعددية لفظية ودلالية، أثرى بها أنماط القول إلى درجة كبيرة تراوح فيها إبداعه بين صعود وهبوط. كما كشفت مدى التطور الحاصل في تجربته الشعرية، علاوة على أنها ساعدت على تقصي الكثير من الجوانب النفسية الظليلة التي شكَّلت الوجه الآخر لما صرَّح به من دلالات ورؤى.
وكذا كان خضور لاعباً ماهراً واللغة ملعبه، حيث لم يتردَّد في استعراض مهاراته العالية في تطويع اللغة والصياغة بما يكشف عن خصوصية إبداعه حتى في استعمالاتها التي تتَّسم بطابع شتائمي، كما أنَّ الشاعر حاول الاقتراب كثيراً من لغة الحياة اليومية.
ولكنه كثيراً ما وقع في المباشرة وتحولت بعض أشعاره إلى خطابات سياسية، تكاد تخلو من عنصر التخييل، على أنه اهتمَّ باللفظ كثيراً، إلى درجة وسمت شعره بطابع الغرابة. وحاولت بعث التراث من خلاله، بما تكشف عن فرادة فنية تمكَّنت من مزج التعمق في التراث مع الهم المعاصر.
يوضح أبوسمرة أنه اعتمد فايز خضور على المكونات البلاغية للصورة الشعرية، لا سيما التشبيه والاستعارة. وكثيراً ما نجح في استخدامهما للتعبير عن التجربة الإبداعية وفق رؤى معاصرة، ووشى اعتماد الشاعر عليهما بتمسكه بالتراث. وإن كان قد تخطى النظرة التقليدية إليهما، من خلال وسمهما بالطابع النفسي، في إطار ترميزي إيحائي يدل على وعي فني.
كما أن الصورة الشعرية عنده أخذت طابع المفارقة في الإشارة إلى سلبيات الحياة، وتأطيرها بطابع السخرية السوداء. وطغت عليها النبرة التشاؤمية التي تعكس يأس الشاعر من القدرة على التغيير والتحول التي حاول بعثها في قوى التغيير المجتمعية في خلال مسيرته الشعرية. واستطاع عبر تجربته الإبداعية الطويلة أن يجعل من القصيدة شبكة غنية من الرموز على تنوعها.
وعلى الرغم من إخلاص فايز خضور لقصيدة التفعيلة، إلا أنَّ له محاولاته الجادَّة في تطوير الإيقاع العروضي. كما أنه حرص كثيراً على إغناء نصه بالإيقاع الداخلي والموسيقى الخارجية والجرس الموسيقي. وزاوج في نصه بين القدرة على التأثير في متلقيه القارئ ومتلقيه المستمع، بحيث تلبي القصيدة مطالب فنية متعددة. كما تخطى الشاعر فايز خضور، حسب المؤلف، حدود القولبة الشعرية.
807 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع