(مقطع من رسم متخيَّل لأبي بكر الرازي، حسين بهزاد)
العربي الجديد/محمود منير:لا تُقدّم المراجع التاريخية صورةً شاملة وواضحة عن بدايات تأسيس العلوم، ومنها الطب، عند العرب في صدر الإسلام، والفترة التي سبقت عصر النهضة أواسطَ القرن السابع عشر. وعادةً ما يستسهل الدارسون نسب التطوّر الحاصل في حقول معرفية عديدة إلى الترجمة، عن اليونانية تحديداً.
يشير الطبيب والباحث الأردني عميش يوسف عميش في كتابه "نشأة العلوم الطبية في عصر الحضارة العربية والإسلامية وتطوّرها" الصادر حديثاً عن وزارة الثقافة الأردنية، إلى أن أوّل المصادر التي تأثّر بها العلماء المسلمون كانت حضارة قدماء المصريّين. وبعد ذلك، بدأ التعرّف على علوم اليونان والرومان والبابليين والفرس والبيزنطيين والهنود والصينيين، بحسب المؤلّف، حيث ساعدت كلّ هذه الحضارات على خلق قاعدة معلوماتية ارتكز عليها الطب العربي لاحقاً، وسُمّيت هذه المرحلة بـ"النقل" بدءاً من القرن السابع الميلادي، والتي سبقت مراحل المشاهدة والمراقبة والملاحظة، والترجمة، والتأسيس والإنتاج التي اشتملت على التأليف والنشر وظهور المدارس الطبية، وصولاً إلى القرن الثالث عشر الميلادي.
يعود عميش إلى عدد من المؤرّخين العرب والأوروبيين، الذين وثّقوا الأوضاع الصحية في الجزيرة العربية قبل الإسلام، موضّحين أن سكّانها كانوا على دراية بأعضاء الجسم وفق منظور تشريحي مبسّط، واعتقدوا أن الكبد هو نبع المشاعر والعواطف، ولاحظوا الشرايين والأوردة وسمّوا شريانَي الرقبة بالأبهرَين، و"أمّ الدماغ" للدلالة على قشرة الدماغ، وكانت لديهم معارف أولية في تجبير الكسور ومداواة الجروح وأمراض عرق النسا والرئة والقصبات الهوائية وآلام الصدر.
في بدايات مرحلة المشاهدة، اعتمد العلماء العرب على "علم الفراسة"، عبر ملاحظة ملامح وأسارير الوجه والتغيرات والتعابير التي تظهر عليه، واعتبروها دليلاً على المزاج والخلق، واستطاعوا تشخيص العديد من الأمراض التي كانت أغلبها جلدية، مثل داء الجدري والحصبة واليرقان (الصفار) والطاعون والثعلبة والجذام (البرص) والبهاق والصدفية والسماك.
يستعرض الباحث جملة من المعالجات السريرية التي كانت شائعة في المراحل الأولى قبل تطوّرها، كالكي الذي كان دواءً لعدّة علل، واستخدموا العلق لامتصاص الدم الفاسد من الجسم، والترياق المركّب من ستة وستين نوعاً من الأعشاب لمعالجة حالات التسمّم وقد أثبت نجاعته، ونبتة الحشيش لعلاج الماء الزرقاء في العين وللتخدير الموضعي، وبعض العمليات الجراجية التي شملت شق البطن (المعروف لدى العرب بالبزل) وشق الوريد عند ارتفاع ضغط الدم في أمراض معينة، وبعض الأدوية لمنع الحمل.
يورد عميش تسلسل ظهور المعاهد التعليمية، حيث كان "بيت الحكمة" في بغداد أوّل وأهم مركز علمي أُنشئ عام 815 ميلادي، وأُنجزت فيه تراجم العلوم اليونانية والسريانية والسنسكريتية والفارسية، وكان للمؤلّفات الطبية نصيب وافر منها، وضمّ البيتُ مكتبة ضخمة، إضافة إلى "المجلس" الذي كانت تُناقَش فيه علوم الدين والفلسفة معاً.
ينتقل، بعد ذلك، إلى تاريخ البيمارستان، الذي نقل إليه العرب قسماً خاصاً للتعليم النظري، وكان أول مستشفى أُقيم في صدر الإسلام في مدينة دمشق، حيث استعار الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك هندسة وطراز بنائه من بيمارستان "جنديشابور" الذي أنشأه الإمبراطور الفارسي شابور الأول في الأهواز. وظهر في العهد الأموي نوعان من البيمارستانات: محمولة وثابتة، وكان من أبرز أطبّائها جورجيس بن بختيشوع وعيسى بن شهلانة وسابورين سهل وماسون أبو يوحنا وعيسى بن طاهرة.
يفصّل البحث التوسّعَ الهائل في تأسيس المستشفيات في العهد العباسي؛ حيث فاقت العشرين في مدن العراق، ما تطلّب إحضار أطباء من الفرس والهنود والنساطرة إلى جانب العرب، وكان لتفاعلهم دور كبير في تحسين التصميم العمراني والرعاية الصحية وتطبيق العلوم السريرية، قبل أن تنتشر في معظم البلاد الإسلامية في المغرب العربي والأندلس ومصر.
ويسرد الكتاب سيرة حياة أبرز العلماء العرب والمسلمين وأهمّ مؤلفاتهم وطروحاتهم النظرية، بدءاً من الحارث بن كلدة الثقفي الذي عاصر النبي محمد ويُنسب إليه كتاب "المحاورة في الطب"، وجابر بن حيان الذي وضع أكثر من ثلاثة آلاف أطروحة علمية، وعلي بن رباح الطبري الذي وصف بعض الأورام وعلاجها، ويوحنا بن ماساويه الذي كتب في طب العيون مؤلّفيْن مهميْن، ومثله أبو يوسف الكندي الذي ألّف كتاباً عن أمراض العين، وحنين بن إسحاق الذي ترجم ثلاثة وعشرين كتاباً في الطب.
إلى جانب ثابت بن قرة الذي قام بترجمة كتابين في البيطرة وعلوم الطب، وصنّف الأخير في ثلاثين باباً يختصّ كل منها بجملة أمراض معينة، والرازي صاحب كتاب "الحاوي" الذي جمع مشاهداته السريرية ويُعتَبر أضخم عمل عن الطب في التاريخ الإسلامي، وابن سينا بأبحاثه التي تعدّدت مجالاتها بين الملاحظات السريرية وأمراض الأعصاب والجراحة وأورام الرأس وتأثير المناخ على نشوء الأمراض وتنقية مياه الشرب وتجميل الجلد، وهو المبحث الذي شهد تطوّراً واسعاً في عصر النهضة الإسلامية، حيث أفرد له المؤلّف فصلاً مستقلاً في الكتاب.
760 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع