كيف يوالي الناس غزاتهم
تقتحم الرواية التاريخ بعين أخرى غير عين المؤرخ، إنها عين أشمل تنتبه إلى المجهول والمهمل، عين تعالج التفاصيل وتستنبط منها الحكايات التي تكمل الأجزاء المنقوصة من التاريخ في سفره بجل أحداثه وشخوصه وأماكنه عبر الزمن. وهذا تماما ما حاولته الروائية المصرية ضحى عاصي.
العرب / احمد رجب -القاهرة – شهدت قاعة “ملتقى الإبداع”، بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وضمن محور “على مائدة السرد”، ندوة لمناقشة رواية “غيوم فرنسية” للكاتبة ضحى عاصي، شارك في مناقشة الرواية الخبير التربوي الدكتور كمال مغيث والناقد شريف العصفوري والناقدة المغربية كريمة بوحسون.
وقد أهدت الكاتبة روايتها إلى المترجم بشير السباعي تقديرا لما قدمه من دعم للكاتبة خلال مراحل كتابتها، وأيضا لدوره الكبير في الترجمة عن الفرنسية والروسية.
أزمة الهوية
تتأمل رواية “غيوم فرنسية”، الصادرة حديثا عن دار ابن رشد، الأسئلة التي يطرحها نموذج يعقوب ومن آمنوا بتجربته التي أثارت لأول مرة سؤالا حول معنى الهوية في إطار معادلة الشرق والغرب، وهي القضية التي توسعت الرواية العربية في تناولها في النصف الأول من القرن الماضي عبر نماذج طه حسين وتوفيق الحكيم ويحيى حقي.
تنطلق ضحى عاصي في الرواية من نقطة مجهولة في تاريخ مصر في نهاية القرن الثامن عشر وخروج الحملة الفرنسية من مصر، ليسافر أبطالها مع سفن الحملة العائدة إلى ميناء مارسيليا ويندمجوا بالمجتمع الفرنسي.
وفي حديثه عنها قدم الدكتور كمال مغيث استعراضا لأحداثها وشخصياتها المتنوعة، والتي تنتمي إلى الربع الأول من القرن التاسع عشر، تحديدا خلال الفترة من 1800 حتى 1820، وأثارت من خلالها الكاتبة تساؤلات عدة، أولها البحث عن الهوية. ففي الرواية يخرج الأبطال الفارون من جحيم المماليك والعثمانيين مع سفن الحملة إلى المجهول في أعقاب فشل حملة بونابرت لاحتلال الشرق، آملين في حياة جديدة رفعت الثورة الوليدة شعاراتها؛ لتبدأ حكاية تنبع من مخيلتها التي تجول بنا في فرنسا الثورية عندما ترسو السفن في ميناء مارسيليا، وتتفرق شخصيات الرواية بينما تتبع هي مصائرهم.
ولأنها فرنسا الثورة، المليئة بالمجانين والحالمين والحانقين على من قلبوا حياتهم رأسا على عقب عندما حطموا الباستيل، تستعرض عاصي خلال الارتحال بين الحيوات التي أنزلتها على الساحل الفرنسي الكثير من الاختلافات، وتستخدم التاريخ الجمهوري الذي يبدأ بسقوط أسرة الملك لويس وليس منذ ميلاد السيد المسيح.
أما الناقدة كريمة بوحسون، ففي قراءتها للرواية أشارت إلى طرحها لإشكالية المعتقد الديني، خصوصا الدين المسيحي، فقالت “تضعنا الرواية أمام إشكالية دينية في ظاهر السرد الروائي، ولكننا في الحقيقة نجد أنفسنا بصدد إشكالية سياسية في الباطن”.
وما بين إشكاليتي الظاهر والباطن نجد في الرواية الكثير من المشاهد التي قد يصعب على بعض المتابعين استكمالها، بسبب قسوتها المفرطة، بالإضافة إلى وجود البورتريه الديني، فنجد مثلا شخصية محبوبة، وهي رمز للعذراء التي تختفي وتظهر فجأة في آخر الأحداث، وهي متزوجة من فرنسي. فالرواية مليئة بالتفاصيل ما بين الهروب والنجاة، والأحلام والطوفان، وكأننا في سفينة نوح.
وقال الناقد شريف العصفوري إن الكاتبة وصلت في “غيوم فرنسية” إلى ضفاف زمنية بعيدة تجوب منطقة مفصلية في التاريخ الإنساني وغير مستهلكة روائيا، تتبع بها مصائر أبطالها الذين فرقتهم خيارات الانتماء والهوية وأثمانها الفادحة التي بذلوها من أجلها.
ويرى العصفوري أنه لكي نفهم هذه الرواية، يجب أن نقرأ تاريخ الجبرتي أولا، فالرواية تُجذر وتُؤصل لميلاد الوطنية المصرية، كنوع من رد الفعل الطبيعي على الصدام الحضاري الحادث نتيجة الحملة الفرنسية على مصر، مضيفا أن الرواية فضلا عن معالجتها للصراع الضاري ومعضلة الهوية، فالقارئ يجد في أحداثها الصراع بين الروح والجسد والحرية والخطيئة.
السير على الرأس
في الختام ذكرت ضحى عاصي أنها واجهت أثناء كتابة الرواية صعوبات كثيرة، لدرجة أنها استشعرت وكأنها تسير على رأسها. وتضيف أنها قامت قبل بدء كتابة الرواية بقراءة العشرات من المراجع باللغتين العربية والفرنسية حول تجربة الحملة الفرنسية ونموذج المعلم يعقوب وهو من الشخصيات التي دار حولها جدل كبير في التاريخ المصري نتيجة تعاونه مع الحملة الفرنسية على مصر، وبينما يرى البعض في تجربته محاولة للاستقلال ويقدمه كثائر على الظلم العثماني، إلا أن مؤرخين آخرين يرون تجربته شكلا من أشكال التعاون مع الاحتلال.
وقد ظهر المعلم يعقوب في أعمال روائية أخرى ومنها رواية صنع الله إبراهيم “القانون الفرنسي”، لكن وبحسب قول الكاتبة “كنت معنية أكثر بهؤلاء الذين رحلوا معه ومات قائدهم قبل أن يصلوا إلى فرنسا.. هؤلاء المئات وربما الآلاف المنسيين في كتب التاريخ إلا في ما ندر، فبدأت الكتابة انطلاقا من هذا الشغف. فتأملت الرواية عبر قصة حب بين بطلها فضل وزوجته محبوبة، مصائر ومآلات شخصيات الرواية بعد رحيلهم مع المعلم يعقوب وتطرح أزماتهم وأحلامهم وهواجسهم في فرنسا التي آلت أقدراهم إليها في هذا المفصل التاريخي بعد قيام الثورة الفرنسية”.
وعن الصعوبات التي واجهتها وقت تأليف الرواية قالت عاصي إن أبرز الصعوبات تمثلت “في حصر تلك المصادر لأنني وعلى مدار كتابتي للرواية كنت أقرأ كل ما أتوصل إليه ويكون مرتبطا بهذه الحقبة التاريخية، حتى لو لم تكن له علاقة بموضوع الرواية بشكل مباشر، أحيانا كنت أقرأ كتبا كاملة لم تكن بها حتى جملة واحدة تشتبك مع شخوص روايتي، ولكن هذا البحث ساعدني في أن أشعر بشكل كبير بأنني هناك في هذا الزمن وهذه الأماكن”.
وتابعت الكاتبة “حقا أغراني مصير من رحل مع الحملة الفرنسية لأرض الثورة الفرنسية، لكن من ناحية أخرى وعلى عكس ندرة المراجع عن هذه المجموعة، هناك في المقابل وفرة شديدة ومتنوعة عن هذه الحقبة الزمنية، مثل الجبرتي ونيقولا ومذكرات رفاعة الطهطاوي، التي كانت بعد ذلك بحوالي 25 عاما ولكنها في وقت قريب نسبيا من مذكرات الضباط الذين شاركوا في الحملة، وكذلك مذكرات نابليون نفسه، والكتابات عن الثورة الفرنسية والأفلام والروايات الأدبية التي كتبت في ذلك العصر”.
958 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع