عميد الأدب العربي تنكّر للنظام الملكي واختار ألا يهادن.
العرب/ممدوح فراج النابي:مازالت شخصية عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (1889 – 1973) تثير حفيظة الباحثين وتساؤلاتهم، وكذلك شغفهم في البحث والتنقيب عن تراثه؛ ومرجع ذلك، بطبيعة الحال، إلى تعدُّد كتاباته في مختلف شؤون الحياة؛ ما بين أدبيّة وفكريّة واجتماعيّة وسياسيّة، إضافة إلى ترجماته المتعددة، والأهم أفكاره وأطروحاته التي تتجاوز سياقها وزمانها إلى وقتنا الحاضر وكأنها كتبت من أجلنا وليس لزمن وسياق مختلفين.
المتأمل لكتابات طه حسين بدءا من كتابه عن أبي العلاء المعري “تجديد ذكرى أبي العلاء” (وهو في أصله رسالته الجامعية التي تقدم بها إلى الجامعة الأهلية عام 1915) مرورا بأزمة كتاب “الشعر الجاهلي” عام (1926) إلى “المعذبون في الأرض” عام (1947) وهو الكتاب الذي مُنع نشره في مصر، وأصدره في بيروت، فما إن قامت ثورة يوليو 1952، حتى أعادت طباعته في مصر، مرورا بكتاب “مستقبل الثقافة في مصر” (1938)، يكتشف أن الخيط الرفيع الجامع بينها، هو إيمانه بتحرير العقل من الجمود سواء في دعوته باستخدام المناهج الحديثة، والتطلُّع إلى آفاق أرحب، تعمد إلى النقد الخلّاق والإبداع، أكثر من الاتباع والتقليد، أو في ثورته على ما حاق بالمجتمع المصري من طبقية مقيتة مذلة في أحد وجوهها العنصرية البغيضة.
ومن ثمّ كانت ثورته في “المعذبون في الأرض” على هذه الأوضاع، مطالبا بتغييرها في تصوير قصصي بديع، مظهرا المعاناة الفادحة التي يعانيها هؤلاء البائسون من شظف العيش في مقابل فئة قليلة تستأثر بكل شيء، وتعيش في رغد ودعة لا يعبئون بمن حولهم.
هذه الثورة (الغاضبة) امتدت لتشمل جذور هذه الأزمة، فامتدت إلى نظام التعليم والنظام السياسي، وهو ما برهن عليه كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” الذي قدّم فيه رؤيته لنظام تعليم مدني حديث يَحْلُم به لأمته، ويكون دعما لقيام نهضة حقيقية، فرصد فيه قواعد بناء الدولة المصرية، وضرورة بناء جيش وطني قوي، وإحداث تقدُّم صناعي واقتصادي؛ إيمانا منه بأن تصحيح أوضاع “المعذبون في الأرض” لن يتم إلا بوجود حياة سياسية قائمة على العدالة الاجتماعية في ظل دستور يشمل جميع المصريين تحت مظلته، وتحقُّق هذا لن يحدث، بالضرورة، إلا بتحقيق المساواة في التعليم بين الجميع، والذي يجب أولا أن يتمّ انتشاره بين جميع الطبقات، وثانيّا بإصلاحه كي يحقّق الأهداف المرجوة.
ومن ثم تأتي أهمية كتاب “طه حسين من الملَكية إلى الجمهورية” للصحافي حلمي النمنم، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة (2021)، حيث يتناول فيه مواقف طه حسين السياسية، وعلاقته المتوترة بالنظام الملكي الذي أغدق عليه الكثير من العطايا وحظي به بأرفع المناصب القيادية (على نحو عمادة كلية الآداب، ورئاسة جامعة الإسكندرية، ووزير للمعارف).
ومع هذا لم يتوانَ عن انتقاده، وهو ما رسّب مشاعر ضغينة بينه وبين الملك فؤاد، ثم لاحقا مع الملك فاروق، وبين مؤازرته لثورة يوليو، التي باركها، بل كان أوّل من أطلق عليها لفظة “ثورة”، رافضا كافة التسميات التي لازمت قيامها، من قبيل أنها حركة أو حركة مباركة أو نهضة أو انقلاب كما كان يردد القائمون على الثورة أنفسهم، بل جعلها نِدًّا يبذّ عن الثورة الفرنسيّة، وإن كان يريد منها، في الوقت ذاته، أن تقتفي أثر الثورة الفرنسية في تكوين “الصفوة المفكّرة الحرّة”.
بين عهدين
عنوان الكتاب بما يحمله من تناقض (ملكية/ جمهورية) أيديولوجتين مغايرتين، جاءت الثانية لتقوِّض الأولى، يضع القارئ في تساؤلات مربكة حول موقف طه حسين من النظام الملكي والنظام الجمهوري الذي ثار عليه، من مثل: كيف انقلب طه حسين على النظام الملكي الذي نشأ وترعرع وتعلّم وسافر تحت وصايته؟ وهل يُعدُّ طه حسين، بهذا التحوّل، ناكرا للجميل؟ أم أراد أن ينعم بعطايا الحركة الجديدة؟ وهل طه حسين كان مؤيدا لمواقف الثوّار أم اتخذ موقفا وسطا اتقاء لحملات التخوين؟
حقيقة الأمر أن النمنم يزيل الشكوك التي تلازم القارئ منذ صفحات التمهيد التي استهلّ بها الكتاب، فبيّن موقف طه حسين من النظام الملكي الذي كان امتنانه لعطاياه التي قدمها له، لا يعني رضوخه لسياسته وتأييده في ما يضر بمصالح الوطن، بل على العكس تماما، كان طه حسين ناقما على تردي الأوضاع الاجتماعية، وتفاقم الأزمة السياسيّة، وهو ينعكس بجلاء واضح في إصداره كتاب “المعذبون في الأرض” عام 1947، كتعبير عن تأثير التفاوت الطبقي، وتمتُّع طبقة واحدة بخيرات البلاد.
وعلى المستوى السياسيّ أصدر الجزء الأول من كتابه “الفتنة الكبرى” بعنوان “عثمان بن عفان” وكأن الأزمات السياسية التي حاقت بمصر بسبب الصّراع بين الأحزاب السياسيّة في ما بينها من جهة، وبين الأحزاب السياسيّة والسراي من جهة ثانية، والتدخلات الإنجليزية السّافرة من جهة ثالثة، قد تُنْبِي بمثل المصير الفاجع للخلافة الإسلامية، الذي بدأ مع مقتل الخليفة عثمان، وبالفعل ما تنبأ به طه حسين كأنه النذير، فازدادت حدة الخلاف واتسع الخرق على الراتق، وانصرف الملك إلى ملذاته غير عابئ بالصدور التي تغلي كالمراجل، إلى أن جاء حريق القاهرة يناير 1952، ليرفع الغطاء عما تضطرم به النفوس، وليؤكد أن الأمر خرج عن سيطرة الملك وحاشيته، وأن هناك فصيلا يعبث بالبلاد دون أن تتحدّد هويته، وهو ما كان إشارة صريحة بالتدخّل لوقف هذا العبث الصريح.
إجابات النمنم التي فنّدها عبر تتبُّع مسار رحلة طه حسين من النظام الملكي الذي شهد سطوع نجمه أدبيّا ونقديّا، إلى النظام الجمهوري الي أيّده ودافع عنه باستماتة، وهو ما أعطى خصومه ذريعة للهجوم عليه، والتأكيد على سقوط المثقف، خاصّة أنهم أخذوا عليه عدم تأييده لثورة الجزائر، وهذا غير صحيح، بالادّعاء أنه منحاز لفرنسا وثقافتها، تكشف لنا عن الدور الحقيقي الذي تمثّله طه حسين للمثقف العضوي، بتعبير جرامشي، خير تمثيل.
وهو الدور الذي لم يَفْرِقه عن كبار المفكرين والفلاسفة الذين لم يفصلوا بين أطروحاتهم الفكرية ومواقفهم وآرائهم في قضايا مصيرية، تخصُّ الاستقلال والحروب والعنصرية والشموليّة، وغيرها من قضايا كانت بمثابة الامتحان أو الشَرَك الذي أسقط قناعات الكثيرين من المثقفين، بسبب تخاذلهم أو انزوائهم عن مشاركة الجماهير في مثل هذا الزخم، في المقابل رفعت من أسهم البعض الذين انحازوا أولا لمبادئهم التي كانوا ينادون بها، وثانيّا إلى الجماهير التي آمنت بهذه الأفكار وحلمت بتحقيق هذه المبادئ على أرض الواقع، لا أن تكون مجرد شعارات برّاقة لا ترقى للفعل أو التحقق، على نحو ما رأينا في نماذج: جان بول سارتر، وألبير كامي، وإميل زولا الذي وجّه صرخة إلى رئيس فرنسا آنذاك بعنوان “إني أتهم” دفاعا عن قضية دريفوس، وريمون آرون الذي لاقى الهوان تمسُّكا بالدفاع عن قضايا الاستقلال، رافضا تأييد الفاشية.
وبالمثل جيرمان تييّون التي تعرضت للانتهاكات والاعتقال دفاعا عن استقلال الجزائر، وصولا إلى تودوروف الذي سخّر قلمه وفكره دفاعا عن الحرية، مُندِّدا بالعنصرية والإرهاب والشموليّة، وبالمثل إدوارد سعيد الذي دافع عن القضية الفلسطينيّة، متحمِّلا كافة الاتهامات، والانتقادات لمواقفه المؤيّدة لحقّ بلاده في تقريره مصيرها، وغيرهم من نماذج كانت تطبيقا فعليّا لمفهوم المثقف العضوي الذي ينشغل بقضايا جماهيره.
هكذا رأينا طه حسين عبر فصول الكتاب المتعدّدة (التمهيد والثورة، الوزارة وما بعدها، ثورة أم نهضة، الثورة والمراسلون الكاذبون، إحن وضغائن، لا يجب أن تطول، حادثة المنشية وفتى مصر، السعادة السياسية، أنصاف المثقفين وأنصاف المتعلمين، الأدب يسبق الثورة، عام الزهو الوطني، الفرعونية والعروبة ..عداء مصطنع، الميثاق الوطني وأنصاف المثقفين، عن فلسطين والجزائر، وساطة لم تحدث مع النحاس) يمثّل نموذج المثقف الحقيقي المدافع عن الحق، حتى ولو كانت نتائجه فادحة عليه، على نحو موقفه الذي تحمل تبعاته بعزله من عمادة كلية الآداب عام 1932.
اللافت أنه، أولا، في إيمانه بالثورة لم يكن كما حاول خصومه الترويج عنه بأنه من المنتفعين والمنافقين، وإنما كان إيمانا بقضية كبرى دافع عنها في كتاباته سواء القصصية أو الفكرية، وتواصل دفاعه في رفضه ما أطلق عليه أدب الثورة وقتها، مقدما الحجّة بأنه ليس من المعقول أن تنجح الثورة، وبعد يوم وليلة يخرج الأدب المعبِّر عنها “وكأنه غيث من السماء، أو ماء يتفجر وينبع من الأرض، فالأدب نشؤه وتطوره عنده ليس من الظواهر التي لا تستجيب للناس باستعجالها، أو تتأخر عن أوانها”.
وثانيّا لم يكن موقفه مؤيدا للثورة على طول الخط، بل إن تأييده مشروط بمساندة نقدية، وليست المساندة الببغائية؛ فهو، كما يقول النمنم “يؤيد الرئيس بطريقته النقدية، وليس تأييد الدببة”، وقد وضح موقفه في رفضه لما جاء في الميثاق الوطني، عن التعليم، وقصره على أن يكون هدفه هو “العلم للعلم”، فالتعليم عنده يجب أن يحل مشكلات المجتمع القائمة أو تلك المتوقعة.
أبرز سمات شخصية طه حسين الظاهرة من مواقفه المختلفة التي استعرضها الكتاب خلال عهدين، أنه شخصية وطنية بامتياز، بعيدة كل البعد عن التطفّل والنفعيّة، لم يعرف عنه أنه استغلّ أيّ شيء يكتبه لتحقيق مكاسب شخصية أو كي يتقرب من ذوي النفوذ والسلطة، فلم يعهد عنه أن علاقة جمعته بالضباط الأحرار، بمن فيهم كبيرهم اللواء محمد نجيب، وبالمثل عبدالناصر الذي دافع عنه بعد حادثة المنشية، واصفا إياه بفتى مصر، فأشاد بثبات عبدالناصر أثناء إطلاق الرصاص عليه، بل يذهب طه حسين بعيدا ويتساءل، في أَسى، ماذا لو نجحت العملية وتمّ الاغتيال؟
إجابته تظهر وطنية طه حسين وحرصه على تماسك وحدة بلاده، فتأتي إجابته هكذا “كانت ستدخل مصر حربا أهلية، ومن نتائج هذه الحرب أن تعود بريطانيا للتدخّل والقضاء على استقلال مصر”، وهذه الرؤية الاستباقية لما سيحدث، تكشف عن الجانب الوطني لطه حسين، ودفاعه عن استقلال مصر وسيادتها، وهو ما برهنه أيضا في مقالاته التي تنتقد مواقف بعض السياسيين وتصريحاتهم التي يستغلها المراسلون الصحافيون ضد مصر في بلادهم.
ومن مظاهر وطنيته، أنه كان لا يعبأ بالشخصيات ذات الكاريزما أو ذات النفوذ، ويرى أن مثل هذه الصفات تؤله القادة، وهو ما يجعلهم ينحرفون عن جادة الطريق، وقد تكرر موقفه مرتين، الأولى مع سعد زغلول، فراح يكتب المقالات عام 1924 يهاجم فيها زعامة وكاريزما زغلول، ساخرا من أن المصريين ما عادوا يفكرون لأن الزعيم يفكر نيابة عنهم، ولا يقررون لأن الزعيم يتخذ القرارات نيابة عنهم، وهو ما أغضب زغلول منه، بل يبرر البعض موقف زغلول من أزمة الشعر الجاهلي، أن سببها هذه المقالات، تكرر هذا الموقف الساخط من تأليه الشخصيات السياسية، في موقفه من محمد نجيب بعد الثورة، فخشي من تضخم تصورات الناس عن نجيب، فيصبح ذلك قيدا نفسيّا ومعنويّا عليهم دون انتقاده، ليس بفعل سلطته (فالرجل كان متواضعا) ولكن بفعل سطوة الزعامة.
ومن السمات التي يبرزها الكتاب عن شخصية طه حسين، أنه رغم رحلاته الكثيرة إلى خارج مصر، إلا أنه كان متابعا جيدا لما يحدث في مصر، وكان بمثابة العين الراصدة لكل ما يُحاك لها من مكائد، بتشويه صورتها عبر وسائل الإعلام، من خلال الأكاذيب التي كان يروِّجها المراسلون الصحافيون لبلادهم في مصر.
ومتابعته لا تقتصر على الرصد وفقط، وإنما التبصير والتحذير، فنراه يرصد بعض المظاهر السلبية، لا من باب التربص بل من باب الغيرة والتوجيه والإرشاد بغية الإصلاح، والسعي لتلافي القصور الذي تسبّبه هذه الصورة في الغرب، ومن الشواهد على هذا، أنه انتقد تسمية الثورة بالنهضة على نحو ما كان يشير اللواء محمد نجيب، فكتب مقالا منتقدا هذه التسمية، مقدما دفوعاته لاختيار اسم الثورة لها، ومنها أيضا عندما اطلع على مقالة في إحدى الصحف الإيطالية، التي أرسلت مندوبا لها إلى المغرب، ليرصد ما يحدث في هذا البلد، ومن الأشياء التي لفتت انتباهه بعد عزل الملك محمد الخامس، أن المواطنين المغاربة حملوا صورة اللواء محمد نجيب إلى جوار الملك، فكتب يوجه إلى ضرورة مدّ يد العون إلى البلد الشقيق.
وتكررت هذه الغيرة عندما رأى الحملات الصحافية المغرضة التي كان يشنها المراسلون الأجانب عن الثورة، فكتب مقالا بعنوان “من بعيد” نشره في صحيفة البلاغ، في الثاني من أغسطس 1952، وهو تاريخ متزامن مع قيام الثورة، يقدم فيه نموذجا للتعامل مع الحملات الصحافية الأجنبية على مصر.
المقال يشرح فيه ويحلّل سرّ قيام الجيش وتحركاته لإصلاح الأمور، معرّجا على الأزمة السياسية والظروف الاجتماعية التي كانت مهادا للثورة، السؤال الذي يراودني مع التأكيد على قيمة ما جاء في المقالة ودفاعه عن الثورة، أليس من باب أولى أن يكون مكان نشر المقالة صحيفة أجنبية وليس صحيفة البلاغ، هل الداخل الذي بارك الثورة منذ بيانها الأول، وبايع قادتها يحتاج مثل هذه الإيضاحات، فما دام كان غرض طه حسين هو تصحيح الصورة الخاطئة، فلماذا لم يوجه مقالته مباشرة إلى هؤلاء الذين يعتمدون على معلومات مضللة من مندوبي صحفهم في مصر؟َ هذا مجرد استفهام لا ينفي التقليل من الدور الذي لعبه طه حسين لتقديم الدعم والتأييد للثورة منذ لحظتها الأولى بلا تردد أو تحفظ، وصولا إلى أحداث الانقلاب عليها في السبعينات، فلم يتوان وسخّر قلمه دفاعا عنه، على الرغم مما طاله من اتهامات المنقلبين على الثورة.
ضد مَلكيْن
من سمات طه حسين عدم المهادنة دفاعا عن مواقفه وآرائه، حتى لو اضطر في ذلك إلى معاداة الملك، وتجلى موقفه الصارم أيام الملك فؤاد، من رفضه بصفته عميدا لكلية الآداب منح بعض الأعيان الدكتوراه الفخرية بناء على ترشيح وزير المعارف آنذك حلمي عيسى، وكان لرفض طه حسين هذا التوجيه أثره في ما أضمرته السرايا ضده، وما زاد من الأمر سواء، ما تلى ذلك من زيارة الملك فؤاد الجامعة، ورفض طه حسين أن يغير موضوع المحاضرة لموضوع مُتعلِّق بزيارة الملك، ومن ثمّ جاءت الفرصة سانحة بعد ذلك بطرد طه حسين من الجامعة إلى وزارة المعارف، وهو ما أحدث ثورة احتجاج دفاعا عن استقلال الجامعة.
وأيام الملك فاروق، عرف عن طه حسين مناوشاته خاصة أفكاره عن العدالة الاجتماعية وضرورة تحقيقها في مصر، وهي ما كانت تسبُّب إزعاجا للملك، فأضمرها ضده، وعندما شكّل النحاس حكومة الوفد عام 1950، اقترح ترشيح الدكتور طه حسين وزيرا للمعارف، إلا أن الملك وجدها فرصة لينتقم من طه حسين، فرفض ترشيح النحاس إلا أنه، في موقف مشهود له، رفض الطلب وأصر على اسم طه حسين، وهو الأمر الذي ادخره الملك في نفسه، وفي يوم القسم راح يناوش طه حسين ويذكره بمواقفه القديمة، بل ينبهه بأنه المنصب الرفيع ليس إلا مساومة أو مقايضة على أفكاره التي أعلنها وآرائه التي قال بها من قبل، إلا أن طه حسين استدرك الموقف، ولم يرد على الملك بشيء، كما ذكر طه حسين نفسه في مقالة له.
ويتسم الكتاب ببساطة التناول والجمع بين التناول الذاتي للشخصية وانغماسها في المعترك العام، لكن من جهة ثانية، وهو يستعرض مواقف هذه النخبة يضع النخبة العربية في مأزق تمثّلهم لمفهوم المثقف الحقيقي الذي يمتلك الشّجاعة، وأن يكون وحيدا ضدّ الجميع، ومُجدِّفا ضدّ التيارات، والمقاوم الذي أراده ودعا إليه إدوارد سعيد، بما يقوم به من دور في استجواب السلطة، بل وتقويضها من أجل الدفاع عن مبادئ الحق والعدالة.
ويقدّم الكتابة إحاطة فريدة وجامعة بمواقف طه حسين خلال معايشته للنظام الملكي والجمهوري، ويؤكد على أن موقفه واحد لم يتغير قيد أنملة، وكان تأييده مشبوبا بمساندة نقدية، وهذا لصالح الوطن وليس لسبب خصومة مع أحد، أو ولاء لآخر أو حتى رغبة في سلطة أو منصب. المعنى الآخر المُستَّشف من الكتاب أن الرجل يكاد يكون بذاته أمه لوحده، وأن تاريخه يكاد يكون تاريخا لمصر بكافة صراعاته وتقلباته، ومجده وإخفاقاته أيضا، ومن ثم لا تعد أهمية ما يُكتب عن طه حسين، أهمية لشخصه وفقط، بل أهميته تنبع من أنه استعادة لتاريخ مصر في حقبة زمنية ثرية على كافة المستويات.
لكن ما يؤخذ على الكتاب هو ما ينسرب من بين السطور، كاشفا عن موقف لا أقول معاديا لثورة يناير 2011، أو حتى يضمر انتقاما ممن قاموا بها، وإنما بوضعها موضع المساءلة والمحاكمة وكأنها متهمة، والأدهى أنه يقارنها بما حدث في يوليو 1952، مع أن الظروف والأسباب في كلتيهما مختلفة، وهذه المقارنة تدفع به لأن يُحَمِّلها بالكثير من الكوارث والأزمات التي لم يكن لها دخل فيهما، بل ثمة همز ولمز في كثير من المواقف التي يسردها، مع أن لولا حدوث الثورة على الرغم ما حاط بها من إخفاقات، وهو يعلم جيدا أنها جاءت من خارجها، ما كان وصل إلى كرسي الوزارة.
كما يظهر عدم الحياد في توصيف بعض الشخصيات، وكان عليه أن ينأى عن مثل هذه الأشياء الصغيرة.
كل هذا يدفعنا إلى القول بلا مبالغة إن ثمة بونا شاسعا بين ما تؤمن به نخبتنا وما يكتبونه، وهذه آفة حقيقية ما دام لا تقويم للسلطة، بل مساندة على طول الخط، وهو ما يسمح بتغولها، وتوحشها في بعض الأحيان. فمن الأجدر بنا، وها هي ذكرى ميلاده تطل على الأبواب أن نتخذ من مواقفه نبراسا لنا، وإذا لم تكن لدينا القدرة على الوقوف على يسار السلطة، فلا أقل بأن نتمثّله، وهذا أضعف الإيمان، في الصمت كما فعل أثناء الوحدة مع سوريا، فلم يعلّق ولم يكتب شيئا، في إشارة إلى معارضتها، ثم راح يعلن موقفه في حوارات صحافية في ما بعد.
على الجملة من استجلاء مواقف طه حسين، يمكن القول إنه لم يقبل أن يكون، بالتعبير الدارج، “ابن النظام” سواء الملكي أو الجمهوري، فقد كان بحق رجل الدولة المدافع عن استقلالها وسيادتها، وكذلك حقوق أبنائها، والناقم ضد أي سياسة تكون في غير صالحهم وتستكثر عليهم حقوقهم الأساسية (كالعدالة، والمساواة، وحق التعليم)، حتى لو اضطر لأن يكون في موقع المعارض والناقد لها، فهو لم ينسَ أبدا أنه ناقد وليس سياسيّا، فدوره هو دور المثقف الحقيقي لا دور السياسي الملتزم بساسية حزبه حتى ولو كانت في غير مصلحة المجتمع. وهذا فارق كبير فالمثقف عليه أن يحجم عن خلع عباءة المثقف لحساب أي انتماءات حزبية تجعله مغلول اللسان والقلم؛ التزاما بالولاء الحزبي.
895 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع