الذكرى ٥٣ للإعدامات في ساحتي التحرير في بغداد وام البروم في البصرة
مقتطفات من كتاب نهاية الجالوت – "اليهود في العراق بعد الهجرة الجماعية (1951-1974)" - د. نسيم قزاز
في 2005 أقرت الأمم المتحدة ان يكون 27 كانون الثاني/يناير "اليوم الدولي لإحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست (المحرقة)" وهو يوافق اليوم الذي حرر فيه الجيش السوفييتي عام 1945، أكبر معسكر من معسكرات الموت النازية في أوشفيتز في بولندا.
في هذا اليوم ايضا تمر ذكرى مؤلمة ليهود العراق وهي الذكرى الثالثة والخمسين (27 كانون الثاني/يناير 1969) للإعدامات في ساحتي التحرير في بغداد وام البروم في البصرة.
في 2015 نشرت رابطة الجامعيين المنحدرين من العراق في إسرائيل كتابا للباحث الإسرائيلي من جذور عراقية د. نسيم قزاز بعنوان " نهاية الجالوت – اليهود في العراق بعد الهجرة الجماعية (1951-1974)".
لأحياء ذكرى الاعدامات المؤلمة والتي كانت العامل الرئيسي في هروب وهجرة اغلبية من تبقى من المكون اليهودي في العراق (قرابة 3500) في أوائل السبعينيات، ننشر هنا مقتطفات من الفصل السابع لهذا الكتاب بعنوان "يهود العراق تحت حكم البعث 1968-1974" وهو يتعلق بالإعدامات وعمليات القتل التي تعرض لها اليهود في عام 1969.
خلفية
بعد مجيء البعث في انقلاب 17 تموز 1968 واستفراده بالسلطة في 30 تموز، بدأت في خريف 1968 حملة مسعورة ضد يهود العراق على أثرها اعتقل من جديد*العشرات من كافة الطبقات الاجتماعية والأعمار واتهموا بالتجسس لصالح إسرائيل وبعمليات التخريب ثم قامت حملات من الإعدامات والتصفية الجسدية في السجون. في البداية كان اليهود لعبة لترهيب الشعب العراقي وخصوم البعث. (* كان العديد قد اعتقلوا بعد حرب الأيام الستة ابان حكم عبد الرحمن عارف /طاهر يحيى).
بدأت حملات الاعتقال في أيلول 1968 حيث اعتُقل أربعة يهود واختفوا بدون أثر وبدأت الإشاعات تدور انهم في قصر النهاية. بعد أسابيع سمعنا أن سبعة عشر يهودياً من البصرة قد تم إلقاء القبض عليهم وجلبهم إلى بغداد بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، عشرة منهم طلاب جامعيون. ووصل العدد بعد أسابيع لأكثر من ثلاثين شخصا.
في منتصف كانون الأول/ديسمبر 1968 أعلن عن تأسيس محكمة برئاسة العقيد علي هادي وتوت لمحاكمة الجواسيس. بعد عدة جلسات صدرت أحكام الإعدام على أربعة عشر متهماً (9 منهم يهود وشاب آخر والده أصله يهودي. أعدموا هؤلاء الأبرياء شنقا في السجن المركزي في بغداد في ليلة السادس والعشرين من كانون الثاني 1969 وعلقت جثث أحد عشر من المتهمين في صباح اليوم التالي السابع والعشرين في ساحة التحرير في بغداد وثلاثة في ساحة ام البروم في البصرة. كانت احكام بتهم ملفقة أصدرتها محكمة صورية برئاسة مهرج تفتقر لكل مقومات واسس القضاء العادل والنزيه.
هذه أسماء الذين أعدموا وعلقت جثثهم في ساحتي التحرير في بغداد وام البروم في البصرة (بارك الله ذكراهم):
• عزرا ناجي زلخة (51) - تاجر لأدوات بيتية في البصرة، شنق في بغداد ونقلت جثته إلى البصرة لتعلق في ساحة ام البروم
• نعيم خضوري هلالي (19) - طالب في البصرة
• داود حسقيل دلال (16) – طالب في البصرة اجبر على القول ان عمره تسعة عشر عاما لكي يمكن محاكمته وإصدار حكم الإعدام
• حسقيل صالح حسقيل (17) – طالب من البصرة أرغم على القول انه جاوز الثامنة عشر لكي يتسنى شنقه
• صباح حييم ديان (30) – تاجر قطع غيارات للسيارات من البصرة
• داود غالي (23) – طالب من البصرة
• يعقوب كرجي نامردي (38) – موظف في شركة نقليات من البصرة
• فؤاد كباي (30) – موظف في دائرة المكوس في البصرة
• تشارلس رفائيل حوريش (44) - تاجر ووكيل من بغداد
• أعدم مع هذه المجموعة جمال صبيح الحكيم - طالب في جامعة البصرة من أصل يهودي كان والده قد أسلم وقد علقت جثته في ساحة ام البروم في البصرة وعبد المحسن جار الله - تاجر مسلم شيعي، محمد عبد الحسين نور جيتا - مسلم شيعي من باكستان، شنق في بغداد ونقلت جثته إلى البصرة لتعلق في ساحة ام البروم والتاجران المسيحيان من أهل البصرة - زكي اندراوس زيتو، والبير حبيب توماس (سامي أخ البير مات من التعذيب)
بلغ عدد اليهود العراقيين الذين قتلوا على أيدي جلاوزة البعث في السنين الأولى لمجيئه للسلطة قرابة الخمسين شخصا. بالإضافة إلى ذلك اعتقل العشرات وتعرضوا للتعذيب في قصر النهاية وفي السجون الأخرى التي قبعوا فيها لأشهر قبل إطلاق سراحهم.
مقتطفات من الفصل السابع لنهاية الجالوت - يهود العراق تحت حكم البعث 1968-1974
في مستهل شهر أيلول/سبتمبر 1968 اختَطف ثلاثةُ جنود شاباً يهودياَ أعزباً، يئير نسيم، يبلغ من العمر 37 عاما من محل عمله في إحدى الشركات الكبرى. ولم يعثر على أثر له رغم الجهود التي بذلها أفراد عائلته لمعرفة مصيره. وبعد عشرة أيام من اعتقاله راجت إشاعات تفيد أنه لقي حتفه جراء التعذيب في مقر قيادة المخابرات العسكرية، لكن والده أبى أن يتقبل ذلك الخبر حتى أواخر شهر كانون الثاني/يناير من عام 1969 حين أعيدت جثته عندما أعدم تسعة من اليهود وعليها اسمه وتاريخ وفاته - 8 أيلول/سبتمبر 1968 - أي أن جثته سُلِّمت للدفن بعد ما يزيد على أربعة أشهر وأثنين وعشرين يوماً من تاريخ مماته.
اتسعت دائرة المعتقلين اليهود، فبين السادس والعاشر من شهر أيلول/سبتمبر 1968 اختفى ثلاثة يهود، أُختطفهم أفراد مسلحون ينتمون لحزب البعث، وتسربت إشاعات بأنهم موقوفون بالقرب من قصر الرئاسة في ظروف قاسية ويعانون من جراء التعذيب. من بين هؤلاء كان البير نونو والذي أعدم في كانون الثاني/يناير عام 1970.
شبكات التجسس المزعومة
إلى جانب تصفية المعارضين بطريقة اغتيالهم في السجون بعد التعذيب أو اختطافهم وتصفيتهم دون إبقاء أثر لمصيرهم، مارس حزب البعث طريقة بسيطة أخرى ومقبولة أكثر للقضاء على منافسيه، وهي إلصاق تهمة التجسس بهم لصالح إسرائيل والغرب وتقديمهم للمحكمة ثم إعدامهم أو حكمهم بالسجن لسنوات طويلة.
منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى اعتلاء البعث سدة الحكم عام 1968 لم يشهد العراق إعدامات وتصفية منافسين على نطاق واسع كالذي شهده تحت حكم البعث. ولكي يستسيغ الجمهور هذه السياسة كان يجب طرحها بصورة مُحَكَّمة تسهِّل على الشعب تقبلها والتعود عليها. فوجد حكام البعث ضالتهم في اليهود وقرروا تقديمهم للجماهير العراقية "كالوجبة الأولى" من الإعدامات والتصفيات أمام الملأ. ثم اتجهوا بعد ذلك نحو الشرائح الأخرى من السكان ونالوا منهم بصورة واسعة. إذ أن التعرض لليهودي والتنكيل به كان أمرأ عادياً لدى جماهير الشعب العراقي طيلة أكثر من سنة حين اتبعت السلطات، منذ "حرب الأيام الستة"، سياسة تعسفية مضطَهِدة ضدهم، غُسِل خلالها دماغ عامة الناس بأن اليهودي هو رتل خامس مُتآمر داخل العراق وداخل البلاد العربية، لذا كان من السهل اتهامه بالتجسس لصالح اسرائيل والغرب. وبذا استطاع حزب البعث أن يحول أنظار الرأي العام عن سياسة الإرهاب وسفك الدماء التي مارسها ضد شرائح أخرى من شرائح الشعب العراقي.
ورد أول إعلان عن شبكات تجسس في العراق على لسان مدير الشرطة العام في العاشر من أيلول/سبتمبر 1968، جاء فيه أن الحكومة ستضرب شبكات التجسس بيد من حديد وبيَّن انها تضم أناس ينتمون إلى المعاهد الثقافية. وبعد اسبوع نشرت جريدة الأنوار اللبنانية خبراً مفاده أنه ألقي القبض على شبكة تجسس في كنيسة بالبصرة نظمها الماسونيون تضم يهوديان وثمانية فلسطينيين.
وفي التاسع من شهر تشرين الأول/أكتوبر 1968 نشر خبر في جريدة محلية أثار القلق في أوساط اليهود، جاء فيه أن طائرة نقل عسكرية عراقية تحمل سبعة عشر يهودياً، كلهم جواسيس، أقلعت يوم أمس من البصرة وهبطت قي قاعدة عسكرية ببغداد. ثم تبَيَّن بعد ذلك أن عشرة منهم طلاب وأربعة دلالين وموظَفَين سابقين في ميناء البصرة وتاجر أواني مطبخ منزلية.
استمرت السلطات في بغداد بحملة الاعتقالات. ففي السابع من شهر تشرين الأول/أكتوبر 1968 اعتقل يهودي، وفي الثامن من الشهر ذاته اعتقل يهودي آخر. وفي مستهل تشرين الثاني/نوفمبر 1968 اعتقل ثلاثة يهود آخرين. اعتقلهم أفراد أمن من حزب البعث، اعتقل أحدهم في الشارع والثاني في بيته والثالث في مكتبه بالشركة التي كان بعمل فيها. ودارت شائعات تقول إن شاؤل ناجي نجل الحاخام ساسون خضوري زُجَّ في السجن أيضاً. واتضحت فيما بعد صحة تلك الشائعات. واعتقل أيضاً التاجر الثري يعقوب اطرقچي (1924-1968) من البصرة في الثامن من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1968 وتوفي جراء التعذيب بعد يوم من اعتقاله. في الثالث عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1968 اعتقل چارلس حوريش (1925-1969)، رجل أعمال، ثري من بغداد، واعتقل معه الياهو دنوس الذي تواجد صدفة في المحل.
استغلت السلطات العراقية حالة التوتر التي كانت سائدة في الحدود بين الأردن وإسرائيل، لتقوية ادعائها بوجود جواسيس ورتل خامس داخل البلاد يتآمر ضد العرب عامة وضد القوات العسكرية العراقية المرابطة في الأردن بصورة خاصة. وفي ظهيرة الرابع من كانون الأول/ديسمبر 1968 هاجمت الطائرات الإسرائيلية القوات العراقية المرابطة في الأردن رداً على إطلاق نيران من مدافعها على المستوطنات اليهودية في منطقة وادي الأردن وبحيرة طبرية. وسقط بعض الجرحى والقتلى.
وفي صباح اليوم التالي، في الخامس من الشهر، انتظمت في العاصمة بغداد مظاهرة كبيرة، قدر عدد مشتركيها بنحو 40000. نظمها حزب البعث بدقة كموكب تشييع لستة جنود عراقيين قتلوا في الأردن بنيران اسرائيلية، وتجمعت حشود المظاهرة في ساحة التحرير، وألقيت خطابات وأُطلقت تهديدات. اشترك في هذه المظاهرة رؤساء السلطة في البلاد، ضباطا وجنودا، ورجال حزب البعث وآلاف من "المجاهدين الفلسطينيين". وتوجه الحشد إلى قصر الرئاسة حيث ألقى رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر خطابا أمام الجمهور. ومما قاله إنه سيقضي على كل جاسوس في العراق وعلى عملاء الولايات المتحدة واسرائيل.
بعد أيام قليلة أعلن أحد كبار حزب البعث. صلاح عمر العلي، عبر شاشة التلفزيون العراقي عن اعتقال شاؤل ناجي نجل الحاخام ساسون خضوري وقال إن نجل الحاخام متهم بالتجسس مع معتقلين آخرين وإن محاكمتهم ستجري قريباً، كانت هذه أول مرة ذكر فيها اسم يهودي مرتبط بمحكمة تجسس. كان اعتقال نجل الحاخام تحدياً سافراً ضد الطائفة اليهودية في العراق. وأصبح واضحاً لدى جميع اليهود بأن ظروفهم تحولت من السيئ إلى الأسوأ. وقال البعض إن اعتقال نجل الحاخام انما جاء لإرغام الحاخام على الإذعان والرضوخ والإدلاء بتصريحات مريحة لحكام البعث كلما أرادوا ذلك وكذلك إذلال الطائفة اليهودية ومس كرامتها. ارتفع عدد المعتقلين اليهود إلى ثلاثين معتقلاً (17 من البصرة و13 من بغداد). ولم يدرِ أحدٌ أين هم معتقلون وما وضعهم الصحي وماذا سيكون مصيرهم. وانتاب اليهود خوفا شديدا من جراء موجة الاعتقالات هذه. وحرصت وسائل الإعلام، التلفزيون والإذاعة والصحف، وهي تحت إشراف ومراقبة السلطات، على نشر الكراهية السامة ضدهم ودعت إلى اتخاذ الحذر منهم. فابتعد عنهم اصدقاؤهم المسلمون سواء أكان ذلك بدافع بث الكراهية ضدهم أو خوفا من تنكيل السلطات بهم.
في الرابع عشر من شهر كانون الأول/ديسمبر 1968 أعلنت السلطات عن اكتشاف شبكة تجسس إسرائيلية ونشرت وسائل الاعلام تفاصيل الاتهامات الموجهة ضدهم واعتراف اثنين من أعضائها، كما ذكرت أن اثنين منهم يهود: ناجي عزرا زلخة من البصرة وچارلس حوريش من بغداد. وادعت السلطات أنهما من رؤساء الشبكة، قاموا بأعمال تخريبية وزُوِّدوا بالمال من اسرائيل وكان بحوزتهم جهاز لاسلكي. وأضافت دار الإذاعة العراقية أن هدف الشبكة كان الحصول على معلومات عسكرية وسياسية لدول حلف المركز (CENTO) ولتجديد "تمرد الاكراد" في شمال العراق وإشغال الجيش العراقي في الشمال كي لا يساهم في الحرب إلى جانب الجيش الأردني. وأوردت محطة الإذاعة العراقية أيضاً أن عبد الرحمن البزاز رئيس وزراء العراق سابقاً واللواء عبد العزيز العقيلي الذي شغل سابقاً منصب وزير الدفاع وكان مرشحاً لرئاسة الجمهورية والمحامي خليل كنة الذي كان وزيراً في العهد الملكي ينتمون جميعا لشبكة التجسس. وجاء على لسان راديو بغداد أنه قد شُكلت محكمة الثورة برئاسة العقيد علي هادي وتوت لمحاكمة المتهمين ومحاكمة جماعات اخرى متهمة بالتجسس.
في مطلع شهر كانون الثاني/يناير 1969 اعتقلت السلطات مير بصري "رئيس اللجنة الإدارية لليهود العراقيين"، ثاني أكبر شخصية يهودية رسمية في العراق بعد الحاخام ساسون خضوري، بعد إجراء تفتيش دقيق في داره. وكانت التهمة الموجهة إليه أن إحدى السيدات الأمريكيات زارته قبل سنة، أو نحو ذلك، جاءت لمقابلته لتكتب أطروحة، اعتقلته السلطات بالرغم من ان تلك السيدة جاءت بصورة رسمية واتصلت برجال العلم والأدب. وفي الرابع من الشهر اعتقل اسحق الياهو دلال وكيل شركة "توشيبا" اليابانية مع شريكه المسلم.
لقد كان واضحاً أن اعتقال الأستاذ مير بصري جاء لإلقاء الرعب بكل من تخوله نفسه من الشخصيات اليهودية للتفوُّه بكلمة احتجاج ضد سياسة الاعتقالات والمحاكم التي تمارسها الحكومة ضد اليهود. وهكذا أُبطلت امكانية الاحتجاج من جانب زعامة الطائفة اليهودية.
المحاكم الصورية
في اليوم الأول من شهر كانون الثاني/يناير 1969 أعلنت محطة إذاعة بغداد عن تقديم المجموعة الأولى من الجواسيس، سبعة عشر من ضمن ستة وثمانين، إلى محكمة الثورة، وأعادت الصحف العراقية الخبر في اليوم التالي.
افتتحت الجلسة الأولى في الرابع من الشهر بتمام الساعة السادسة والنصف مساءاً بعرض اعلامي كامل. وهيئت في قاعة المحكمة زاوية خاصة لمراسلي التلفزيون والراديو والصحف المحلية والعربية. وكان الجو في القاعة جدياً واحتفالياً، وتحفز الجميع لمشاهدة "الجواسيس"، وعندما أعلن رئيس المحكمة على افتتاح الجلسة "بقضية الجواسيس والمخربين والعملاء لصالح الاستعمار والصهيونية" قوبل بالحماسة والتصفيق. بعد ذلك قرأ رئيس المحكمة اسماء سبعة عشر متهماً وأمر بإدخالهم إلى قاعة المحكمة الواحد تلو الآخر، ثلاثة عشر منهم يهوداً.
لم تختلف التهم التي وجهها الادعاء العام ضد المتهمين عن تلك التي نشرتها وسائل الإعلام في الرابع عشر من شهر كانون الأول عام 1968 والتي أدرجناها سابقاً مع إضافة صغيرة وهي أن جهاز اللاسلكي ضُبط في كنيسة السبتيين بالبصرة. وطلبت النيابة بإنزال الإعدام شنقاً بحق المتهم عزرا ناجي زلخة وبحق "أفراد عصابته" كما يقضي قانون العقوبات البغدادي، وأضاف المدعي العام: "إن هؤلاء المتهمين هم الأخطر ضمن الخونة أعضاء شبكة التجسس... وإعدامهم هو مطلب عام تطالب به جميع القوى التقدمية والقومية المؤمنة بثورة تموز 1968 وبأهدافها، واعدامهم سيحبط أحلام العملاء وجواسيس حلف الصهاينة والاستعمار"، وأعلن أيضاً إن إضافة لسبعة عشر المتهمين في هذه المحكمة ستقدم لائحة اتهام أخرى ضد متهمين آخرين ينتمون لشبكة التجسس ذكر منهم اليهوديين يعقوب أطرقچي ونعيم خضوري هلالي وقال إنه نقل إلى بيت الأول جهاز اللاسلكي من كنيسة السبتيين والثاني نسف جسراً في مدينة البصرة. ثم طلب أن تكون الجلسات المقبلة سرية لأن هنالك أمورا وأحداثا يضر كشفها بأمن الدولة، فاستجاب الرئيس للطلب، وخيَّرت المحكمة المتهمين الماثلين أمامها في قفص الاتهام بين الموافقة على محام تعينه لهم المحكمة وبين قيامهم هم بالدفاع عن أنفسهم فآثروا عدم تعيين محام، بالرغم من ذلك عِينت لهم المحكمة محاميا.
وتبيَّن فيما بعد أنه خلال شهر كانون الثاني/يناير 1969 حوكم ثمانية وعشرون متهما (ستة عشر يهودياً، عشرة مسلمين ومسيحيين اثنين). غلبت الصبغة اليهودية على شبكة التجسس (ثلاثة عشر يهوديا من ضمن سبعة عشر متهمين) مما أدى إلى التحريض ضد اليهود والتنكيل بهم. ففي اليوم الثاني بعد افتتاح المحكمة بادرت الصحف المحلية العراقية بحملة قذف وذم ضدهم وادعت أن جميع الفواجع والكوارث التي حلت بالعراق مصدرها من الطائفة اليهودية وأن هناك جواسيس اسرائيليين - يهود كثيرين ما زالوا يسرحون ويمرحون بحرية ويجب اعتقالهم وتقديمهم للقضاء بأسرع وقت. وانظمت محطة الإذاعة إلى حملة التنكيل والتحريض وعرَّفت اليهود بالرتل الخامس الذي ينوي القيام بأعمال تخريبية في العراق وطالبت أبناء الشعب العراقي أن يراقب ويُبَلغ الشرطة عن كل عمل يُشتبه به.
عقدت المحكمة جلساتها في 11-14 من الشهر. وبثت إذاعة بغداد حلقات منها بعد أن حذف الرقيب ما حذف. وتبيَّن أن جميع المتهمين أنكروا التهم الموجهة ضدهم ماعدا أحد المتهمين المسلمين - "شاهد الملك" - وكان بين المتهمين صبيٌّان قاصران لم يبلغا السادسة عشرة والسابعة عشرة، أجبرهما الطغاة على الاعتراف أنهما تجاوزا الثمانية عشرة ليتمكنوا من محاكمتهما وشنقهما.
منذ الخامس عشر من الشهر باشرت دار الإذاعة كل يوم ببث فصولاً مسجلة من وقائع جلسات المحكمة، وابتداء من التاسع عشر بثت اعترافات المتهمين بالتهم الموجهة ضدهم، اعترف بعضهم بأنهم عبروا الحدود إلى إيران وتدربوا في عبدان على حمل السلاح وتفعيل متفجرات ثم عادوا إلى البصرة ليقوموا بأعمال التخريب والتجسس لحساب اسرائيل وآخرون اعترفوا بنسف جسر في البصرة قرب أسد بابل، وقال آخرون إنهم تقاضوا مبالغ من رئيس شبكة التجسس أو من أعوانه. واعترف الكل بما جاء في لائحة الاتهام، ما عدا اثنين: ناجي عزرا صيون زلخة المتهم برئاسة شبكة التجسس وچارلس حوريش المتهم بأنه عميلها في بغداد. أنكر الاثنان كل ما ألصق بهم من تهم رغم معاناتهم من التعذيب الفظيع خلال أربعة أشهر أسرهم في قصر النهاية. ولم يكن شك لدى الطائفة اليهودية في العراق أن الضحايا أُرغموا على الإدلاء باعترافاتهم جراء التعذيب داخل السجن.
في الثالث والعشرين صدق على أحكام الإعدام بحق خمسة عشر متهما تسعة يهود وأربعة مسلمين ومسيحيين بمرسوم أصدره رئيس الجمهورية. ونشر المرسوم في الصحف العراقية في 28 كانون الأول 1969.
قبل تنفيذ الحكم بخمسة أيام نظمت السلطات العراقية عملا تخريبيا صوريا لدعم مزاعمها. ففي الصباح الباكر من يوم الثالث والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير 1969 حدثت انفجارات في أربع سيارات بشارع أبي نواس بالقرب من محلات يسكنها اليهود. وسارعت صحيفة الجمهورية في نشر الحادث في موقع بارز على الصفحة الأولى في عددها الذي صدر في اليوم التالي، وقالت إنه جزء من الأعمال التخريبية التي لها علاقة بشبكة التجسس التي كشفتها محكمة الثورة.
قرار العقوبات
بنبرة احتفالية أذاعت محطة راديو بغداد يوم الاثنين السابع والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير 1968 في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل نص قرار العقوبات التي قررت محكمة الثورة إنزالها بحق المتهمين. وقرأ رئيس المحكمة على هادي وتوت بصوت غلبت عليه نبرة الجد والرصانة قرار العقوبات ومراسيم تصديقها من قبل رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر.
اربعة عشر متهما، تسعة يهود وثلاثة مسلمين (أحدهم والده يهودي كان قد أسلم) ومسيحيين، حُكم عليهم بالإعدام شنقاً لقيامهم بأعمال تخريبية وتجسس لصالح اسرائيل. وحكم على مسلم آخر بالحبس المؤبد وعلى اثنين آخرين بالسجن لثلاث سنوات، وعلى يهوديين آخرين ستة أشهر في السجن وصودرت أملاك جميع المدانين وبرأت المحكمة ساحة أربعة يهود ومسلمَين.
مهرجان أعواد المشانق
في الساعة السادسة من صباح يوم الاثنين أعلن راديو بغداد عن تنفيذ حكم الاعدام شنقاً بحق أربعة عشر المتهمين بالتجسس ودعا المذيع أهالي بغداد للمجيء إلى ساحة التحرير لمشاهدة الخونة معلقين:
أيها الشعب العراقي العظيم! إلى سكان بغداد والبصرة! اليوم هو يوم مقدس لجميعكم! اليوم هو يوم عيدكم! يوم فرحكم وسروركم! اليوم تخلصتم من العصابة الأولى للجواسيس البغيضة! عراق، عراقكم الحبيب أعدم وانتقم من هؤلاء الخونة! يا شعب بغداد والبصرة انطلق وسر إلى ساحة التحرير في بغداد وانظر بأُم أعينك الخونة معلقين.
ولآجل التأكيد على أهمية الحدث واحتفاليته قرأ المذيع أسماء "الخونة" وأعاد القراءة عدة مرات حاثّاً السكان للذهاب إلى ساحات الإعدام. وتجاوبت الجماهير مع نداء المذيع الذي بدا بندائه وكأنه مُس بجنون. سارعت الجماهير، وهي فرحة وشديدة الغبطة والانفعال في سيرها نحو ساحة التحرير لمشاهدة "الجواسيس" معلقين فيها. في الساعة التاسعة صباحاُ اشتدت حركة الجماهير إلى ساحة التحرير الواقعة في جنوب بغداد وهي أكبر ساحة عامة في العاصمة، لها صورة دائرة قطرها نحو كيلومتر ونصف.
لم تُقَم أعواد المشانق في الساحة مجتمعة في نقطة واحدة وقريبة إلى بعضها، بل وزعت بفارق سبعين مترا الواحد عن الثاني وذلك لإفساح المجال للجمهور للتجول بينها. أقيمت خمسة أعواد علقت على إحداها جثة واحدة وجثتان على كل من باقي الأعواد. ووضع على صدر كل واحد من الضحايا لوح يحمل اسمه ومهنته وديانته. وحظي المهرجان بتغطية صحافية واسعة من التلفزيون العراقي والصحف المحلية. وهذا ما كتبه ماكس سودائي في كتابه "الكل بانتظار أن يُشنقوا" يصف ما شاهده على شاشة التلفزيون:
"...صورة الأحد عشر ورؤوسهم المنحرفة ووجوههم المعوجة وجثثهم المهتزة عاليا في الهواء، وهؤلاء الجماهير المتعطشين للانتقام جميعهم منفعلين ومتحمسين، يغنون ويرقصون يشتمون الموتى ويبصقون عليهم ويرجموهم بالحجر أو يقفزون عالياً لمسك أرجلهم أو إبهامهم. [هناك] ناشط حزبي عمر صالح العلي، يمسك بيده مكبر صوت، واقف على مسطبة عند إحدى الجثث وعيناه تنمان على عدم الرضى، فهو يريد أن يرى هذه المناسبة مثيرة أكثر للبهجة والسرور...إنه يعمل كل ما في وسعه لغليان حماسة الجمهور وانفعاله، فصوته أنبح من صرخاته...أيها الشعب العراقي العظيم إن عراق اليوم لن يتسامح بعد اليوم مع أي خائن أو جاسوس، أو عميل للطابور الخامس! أنت يا اسرائيل اللقيطة. أنتم الأمريكانيين وأنتم الصهاينة اسمعوني! إننا سنميط اللثام عن كل مكائدكم القذرة! ونعاقب عملاءكم، اننا سنعلق جميع الجواسيس حتى وإن وجد آلاف منهم...أيها الشعب العراقي العظيم هذه البداية فقط! فالساحات العراقية العظيمة الخالدة ستمتلئ بجثث الخونة والجواسيس! فانتظروا".
"في حين يواصل هذا الشخص الواقف صراخه"، يواصل سودائي كلامه، "تحاول عدسة التلفزيون مؤانسة المشاهدين بعرضها مناظر من الجثث المعلقة، ليس من بعيد فقط، بل تقترب من كل جثة على حدة وتصورها من الرأس حتى أخمص القدمين ثم تنتقل إلى اللوح الذي وضع على صدر الجثة وتتركز على كلمة يهودي".
استمر "مهرجان أعواد المشانق" طيلة اليوم. ويستدل من مميزاته أن السلطات حرصت على تهيئته بدقه واعتناء بالغين. فوضعت مكبرات للصوت حول أعواد المشانق وأـسمعت منها، بدون انقطاع، حلقات من فصول المحكمة وخطب لزعماء الدولة، وجيء بوفود من الفلاحين وعمال من القرى وبغداد ليشاهدوا الضحايا. وشارك في المهرجان تلاميذ مدارس وطلاب جامعات وجنود وجمع غفير من أعضاء المنظمات الفلسطينية.
وصلت العشرات من برقيات التهاني إلى قصر رئيس الجمهورية معلنة تأييدها للرئيس ولمجلس الثورة. أستمر سيل الوافدين للساحة حتى امتلأت تماما عند مجيء رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر وقدر عددهم بحوالي مائتي ألف (بالحقيقة كانوا قرابة النصف مليون) وإلى وسط الضجيج والضوضاء الذي خلفته هتافات الجمهور المنفعل والأصوات المرتفعة عاليا من حناجر مراسلي الراديو والتلفزيون والأناشيد العسكرية من مكبرات الصوت وأزيز الطائرات النفاثة وطائرات الهليكوبتر التي حلقت في سماء ساحة التحرير، وصل رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر في سيارة جيب عسكرية بصحبة وزير الدفاع عبد الغفار التكريتي. وجاء على لسان جريدة الجمهورية: "إنه أتى ليرى بأم عينه بهجة جماهير شعبنا البطل الذي جاء لمشاهدة جثث الخونة معلقة في ساحة التحرير". وحضر أيضا نائب البكر في قيادة حزب البعث صدام حسين التكريتي، والقى خطابا بالجماهير وهو يفيض سرورا وابتساما، كأنه في يوم عيد.
إننا بريئون - إنكم قتلة
وصف محرر جريدة الثورة حسن العلوي في جريدته ما حدث داخل السجن المركزي في بغداد حيث تمت عملية إعدام المتهمين، قال:
"في الساعة الحادية عشرة إلا ربعا ليلاً من يوم الأحد، كنت في السجن المركزي في الساحة الخاصة للإعدام مع مدعي محكمة الثورة وطاقمها، وطبيب عسكري وكثير من الضباط الكبار...وعندما بدأ الطبيب اعطاءهم حقنة تخدير خاصة، صعق جميعهم يرجون الرحمة من مدعي المحكمة. وصرخ أحدهم، فؤاد ﮜباي، لا يحق لكم إعدامنا إننا بريئون، ب ر ي ئ و ن، لي خمسة أولاد! وعند إدخال الحقنة إلى ذراعه صرخ أنكم قتلة! وستعاقبون...".
وأُحضر اثنان من لدن الطائفة اليهودية إلى السجن المركزي للصلاة مع الضحايا قبل إعدامهم. وسمح لأحدهما بالمكوث معهم لمدة عشر دقائق ولم يسمح له في مقابلتهم منفردا، ولم يسمح له أن يصلي معهم باللغة العبرية. ولم يسمح للضحايا بإيصال كلمة أو أي شيء ما منهم لذويهم لا خطياً ولا شفهياً.
وفي صباح اليوم التالي أخبرت السلطات أن الجثث ستسلم للطائفة مساءً لدفنها، وحُظر على ذويهم الاشتراك في الجنازة. فأبلغ الحاخام ساسون خضوري العائلات بذلك ورجاهم ألا يأتوا إلى داره. ثم أجَّلت السلطات تسليم الجثث ليوم الثلاثاء فأرسلت الطائفة ثلاثة من المكلفين بالدفن لاستلامها، وكانت الجثث مشوهة، وتنكل حراس البعث للثلاثة، فسبّوهم وشتموهم وضربوهم وحثوهم على الاستعجال في الدفن، فدفنوا الضحايا بسرعة، وهم محاطون بحرس البعث، من دون مراسيم الدفن أو الصلاة على أرواحهم. وبعد يومين استلمت الطائفة جثة نسيم يئير الذي توفي تحت التعذيب قبل خمسة أشهر.
إلى قائمة المعدمين الذين قضوا داخل السجون في أواخر عام 1968 وبداية عام 1969 يجب إضافة ثلاثة يهود: شمعون مصلاوي، بائع صحف، زُجّ في سجن الأعظمية واتهم بالتجسس، قضى من جراء التعذيب في كانون الأول/ديسمبر 1968. وفؤاد شاشا، تاجر بالفولاذ معروف، قبض عليه وعلى والده في الواحد والعشرين من شهر كانون الأول/ديسمبر 1968 في بيته وزُجَّ في قصر النهاية، اتهم الاثنان بالتجسس وعذبوا تعذيبا قاسيا، وتوفي فؤاد شاشا جراء التعذيب وأُخفيت جثته، وفي الثامن من شهر شباط/فبراير 1969 نشرت جريدة الثورة خبراً مفاده أن فؤاد شاشا هرب من السجن في الحادي والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير 1969 وخُصص مبلغ نقدي لمن يدل على محل اختفائه. ويعقوب أطرقچي، تاجر أقمشة معروف ودلال في الأملاك الغير منقولة، اعتقل في الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر 1968 وتوفي يوم اعتقاله من جراء التعذيب، وفي التاسع عشر من شهر كانون الثاني/يناير 1969 أعلنت السلطات أن يعقوب أطرقچي هرب من السجن، وفي الثامن من شهر نيسان/أبريل 1969 حكمت عليه محكمة الثورة غيابياً بالإعدام بتهمة التجسس.
اعوجاج الحكم
كانت السلطات العراقية على علم بأنها ستُتهم بتمثيل مسرحية وعدم قانونية الإجراءات التي اتخذتها المحكمة. لذا سارعت عند بث قرارات المحكمة، إلى الإعلان في وسائل الإعلام وبواسطة وكالة الأنباء العراقية بأن المحكمة اتبعت الأعراف والمبادئ القانونية وأن المتهمين أدلوا بشهاداتهم برضاهم ولم تمارس ضدهم ضغوط أو أساليب تعذيب. وصرح وزير المعارف والإعلام العراقي، في مؤتمر صحفي عقده، بأن المحكمة نهجت بجلساتها العلنية والمغلقة حسب ما يقتضيه القانون وحافظت على حقوق المتهمين.
وخلافاً لحكام البعث، رمت الأوساط الأجنبية الشك في صحة الاتهامات التي وجهت ضد المتهمين في المحكمة. فمثلاً، اوردت صحيفة إنترناشيونال هارولد تريبيون وصحيفة نيويورك تايمس، ما قالته أوساط رسمية في واشنطون أنه: "لا يوجد هناك شهادات لتصديق الاتهامات وأن المتهمين كانوا في ظروف لم تتوفر فيها إمكانية التجسس لأحد".
وعند مراجعة سير المحاكمة يظهر جليا اعوجاج الحكم ويبدوا واضحاً انها مسرحية مأساوية مثلها حكام البعث، ولها هدفان: تحويل انتباه الرأي العام وإشغاله عن مشاكل النظام الذي يرتكز على قاعدة جماهيرية ضيقة وخلْق مبرر لحمامات الدم المُخَططة للقضاء على معارضيهم. وكان أبطال ومخرجي مسرحية هذه المحكمة المعوجة والكاذبة كل من القاضي والمدعي العام والمحامي أيضا. فالقاضي عبد الهادي وتوت وعد لمن يرغب من المتهمين بتعيين محام له ولم يف بوعده وعيَّن لجميعهم محاميا واحدا، وبهذا انتهك شرطا أساسيا من شروط القضاء العادل. أما المحامي ابراهيم رضوان، فإنه لم يكتف بعدم القيام بواجبه نحو المتهمين فحسب بل أعان الادعاء على تصديق الاتهامات بأقواله التي نشرت. فهو لم يقم بأية محاولة لدحض ادعاءات المدعي ولم يحاول استجواب شاهديها، ِزد على ذلك أنه في بداية المرافعة قال: إنه سيعمل كل ما في وسعه للدفاع عن هؤلاء الجواسيس، لكنه لا يريد أن يرى الخونة دون عقاب، وفي مناسبة أُخرى قال: إن المتهم زلخة، الذي كان من المفترض أن يدافع عنه، أغرى الشباب اليهود وأقنعهم للقيام بالأعمال التخريبية التي نسبت إلى المتهمين. ويستشف من أقواله هذه اعتراف بوجود شبكة تجسس قامت بأعمال التخريب التي ادعى المدعى إن أعضاء الشبكة نفَّذوها. وذهب هذا المحامي بعيدا لإعانة الادعاء عندما قال: إنني أعتذر أمام الرأي العام وأرجو سماحه على أخذي على عاتقي مهمة الدفاع عن هؤلاء المتهمين، فأنا أجد نفسي في موقف حرج بعد تعييني من قبل المحكمة الموقرة. وأضاف، إن الإثباتات واضحة وأنا أترك الأمر لاعتبارات المحكمة بما فيها أن بعض المتهمين شباب غُرر بهم. وانتُهك شرطاٌ أساسياً آخر من شروط القضاء العادل وهو علانية المحاكمات. إذ أن المحكمة داست تحت قدميها بفظاظة هذا المبدأ، فجميع جلساتها كانت مغلقة باستثناء الجلسة الأولى التي بثت في التلفزيون. وتقدمت منظمة العفو الدولية بطلب للسماح لرجل قانوني من عندها لحضور جلسات المحكمة فكان جواب الحكومة رفضا باتاً.
أما فيما يتعلق بإثبات التهم، فنشير هنا إلى جولة للصحفيين الأجانب كانت قد نُظمت برعاية وزارة الإعلام العراقية في الخامس من شباط/فبراير 1969، أي بعد تسعة أيام من تنفيذ حكم الاعدام، فعندما طلب الصحفيون رؤية جهاز اللاسلكي وقطع الأسلحة التي كانت بحيازة المتهمين وهي بمثابة دليل قاطع لارتكابهم الجرائم التي اتهموا بها، وكان من واجب المحكمة الاحتفاظ بها كمبررات قانونية، أجاب رئيس المحكمة بأنها أُبيدت. وتهرب كذلك من أسئلة أخرى حول المحكمة.
عودة إلى الظلام والقنوط
في السابع عشر من تموز، في يوم الذكرى السنوية الأولى لتقلد حزب البعث زمام الحكم في العراق، أعلنت السلطات عن اكتشاف شبكة تجسس ومن بين أعضائها يهوديان. وأشارت الخطب التي ألقيت في احتفالات الذكرى السنوية لانقلاب البعث إلى فواجع ونوازل في جعبة حكام البعث. فقد تفاخر رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر، في الخطاب الذي ألقاه في الاحتفال، بالانتصار العظيم الذي حققه العراق على الخونة معارضي الانقلاب بالمعركة الأكبر في جميع الأزمان. أما عمر صالح العلي من قيادي حزب البعث فقد أكد في خطابه بأن هناك العشرات الكثيرة من الجواسيس سيُقدمون إلى المحكمة ويُعدمون. وسرعان ما حلت النوائب بالطائفة اليهودية، فبعد أسبوع، في الثالث عشر من الشهر، اعتقل داود ساسون زبيدة، مقاول ثري يبلغ من العمر ستين عاما ونسيبه ساسون نيسان وزجا في قصر النهاية حيث عذبوا تعذيبا قاسياً. وبعد بضعة أيام أرسلت السلطات إلى الحاخام الأكبر أن يبعث شخصا إلى قصر النهاية لاستلام جثة داود زبيدة، فاستلم جثة مشوهة داخل كيس من الخيش، ولم يتجرأ أهله أن ينبسوا ببنت شفة.
في الأسبوع الأول من شهر آب/أغسطس أطلق سراح عشرة يهود كانوا قد اعتقلوا في نهاية شهر آذار/مارس وبداية نيسان/أبريل 1969 بكفالة نقدية قدرها 1250 دينار. أثار إطلاق سراح هؤلاء الشك عند البعض من أبناء الطائفة إذ أنهم رأوا فيه مؤشراً على أن في نية الحكومة إنزال ضربات بالطائفة اليهودية، وتريد بإطلاق سراحهم أن تستبق الاحتجاجات قبل وقوعها وتخفف من وطأة ردود الفعل التي ستثيرها المكايد التي في جعبتها. ولم تتأخر تلك المكايد.
إعدام اسحق الياهو دلال وحسقيل رفائيل يعقوب
في السابع عشر من شهر آب/أغسطس 1969 أعلنت السلطات العراقية عن اكتشاف شبكة تجسس لصالح اسرائيل كانت قد تسللت، حسب ادعاء السلطات، إلى جهاز الاستخبارات العسكرية. وبعد ذلك بيوم أعلنت عن اثني عشر شخصاً سيقدمون للمحكمة بتهمة انتسابهم للشبكة، من ضمنهم يهوديان، الأخوان ساسون ومئير عبده. وكانت السلطات قد أعلنت عن انتساب يهوديين لشبكة التجسس قبل شهر، في الذكرى السنوية لانقلاب البعث من دون أن تذكر اسميهما. أما باقي أعضاء الشبكة فكانوا تسعة مسيحيين، من ضمنهم امرأتان مضيفات طائرة، ومسلم واحد. وذكرت الصحف المحلية أنهم جزء من شبكة كبيرة تحتوي على خمسة وثلاثين متهماً وقد صودرت أملاكهم وسيقدمون للمحكمة.
والكل كان يعرف أن التهم ضد الأخوين عبده ملفقة ولا أساس لها من الصحة، فقد اعتقلا قبل أكثر من عشرين شهرا، في الخامس من كانون الثاني/يناير عام 1968، وليس من المنطق أن ينتسبا إلى شبكة تجسس تم اكتشافها في كانون الثاني/يناير 1969، بعد مضي سنة كاملة على مكوثهما في السجن.
وأثار تشكيل أعضاء شركة التجسس استغراباً - أحد عشر من أعضائها من الأقليات (تسعة مسيحيين ويهوديان). وشَكَّ كثيرون أن في نية الحكومة تصفية أعداد كبيرة من معارضيها المسلمين، فقدمت المسيحيين واليهوديين للتخدير ولتخفيف من وطأة ردة فعل حمامات الدم التي تنوي أن تسيلها عن قريب.
وفي اسرائيل عقد السيد شلومو هليل، الذي شغل منصب معاون مدير شؤون الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الإسرائيلية، مؤتمراً صحفياً في القدس، في التاسع عشر من آب/أغسطس 1969 حضره صحفيون أجانب، أعلن فيه أن لدى اسرائيل معلومات تفيد بأن الحكومة العراقية تنوي تقديم أثني عشر عراقيا من ضمنهم يهوديان للمحكمة بتهمة التجسس لإسرائيل، وصرح أنه ليس لليهوديين مئير وساسون عبده أية علاقة.
بإسرائيل وأضاف أن السلطات العراقية تستمد الشجاعة للقيام بأعمالها الإجرامية من خلال عدم مبالاة العالم بمصير يهود العراق، وأن منظمة حقوق الأنسان لم تفحص وضع اليهود في البلاد العربية كما فعلت في الضفة وقطاع غزة. وتوجهت السيدة غولدا مئير رئيسة الوزارة الإسرائيلية بنداء للرأي العام العالمي وطلبت منه أن يضغط على الحكومة العراقية كي تسمح لألف وخمسمئة يهودي، كانوا قد قدموا طلباتهم لجوازات سفر، بالخروج من العراق. وفي نفس الوقت طلب وزير الخارجية الإسرائيلي أبا إيبان من السكرتير العام للأمم المتحدة يوثانت ان يعمل لإنقاذ يهود العراق الذين تلصق بهم حكومة العراق تهم التجسس الواهية لصالح اسرائيل وتُهددهم بالإعدام وأشار إلى إخفاق منظمة الأمم المتحدة بمعالجة مصير يهود العراق بينما تبذل جهودها نحو العرب في الضفة وقطاع غزة بالرغم من عدم وجود خطر يهددهم. وكذلك عقدت منظمة اتحاد يهود العراق في اسرائيل اجتماعا دعت فيه يوثانت لبذل الجهود لإنقاذ يهود العراق.
وأتت المساعي المتشعبة التي بذلتها الحكومة الإسرائيلية والاحتجاجات في العالم ثمارها ولم يُعدم الأخوان عبده مع خمسة عشر الأشخاص الذين أعدموا في الخامس والعشرين من شهر آب/أغسطس 1965 بعد أن اتهموا بالتجسس لصالح اسرائيل و(C.I.A). وحكم على الأخوين عبده في الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر 1969 بالسجن لمدة ثلاث سنوات.
لكن السلطات العراقية لم تُعدم رأياً، فقد استبدلتهما بضحيتين يهوديتين أخريين وأعدمت كل من اسحق الياهو دلال وحسقيل رفائيل يعقوب مع من أعدموا في الخامس والعشرين من الشهر. وكانت تشكيلة المعدمين مثيرة للاستغراب بعض الشيء، فقذ تضمنت ستة من رجال الجيش وتسعة مدنيين (أربعة مسيحيين وثلاثة مسلمين ويهوديين). وخلافا عن الاعدامات السابقة لم تُعلق الجثث في ساحات العاصمة وذلك لإضعاف وتقليل من وطأة احتجاجات العالم الخارجي، فأُعدم الجنود رميا بالرصاص وشُنق المدنيون داخل السجون. وخلافا لما فعلت في السابق لم تسمح السلطات لأقارب الضحايا وحتى لممثل الحاخام الأكبر من مشاهدة الضحايا قبل تنفيذ حكم الإعدام. كما وأذاع راديو بغداد خبر الحكم عليهم بالإعدام في الرابع والعشرين من الشهر أي بيوم واحد فقط قبل تنفيذ الحكم، وذلك منعا وتحاشيا من افساح مدة واسعة لجهات عالمية لممارسة ضغوط ضد الحكم وتنفيذه.
وكان استيلاء السلطة العراقية على ثروة الضحايا من الدوافع التي حدت بها لانتقائهم، ففي هذه المرة لم يكن بين الضحايا طلاب مدارس وقاصرين عديمي الثروة بل أثرياء كانت ثروتهم سبب إعدامهم.
استمرار التصفيات وحمامات الدم
استمر حزب البعث باتباع سياسة التصفية والإرهاب ضد الجهات المعارضة لمبادئه وضد كل من ظن أنهم قد يشكلون خطراً على نظامه ولم يستثن بإرهابه ابناء الطائفة اليهودية الذين لا يشكلون خطرا على النظام. لذا قرر بعد أن اشتدت قبضته على مقاليد الحكم في الدولة، وبعد أن زج الأغلبية الساحقة ممن تسولهم أنفسهم بالقيام بحركة ضده، أن يمارس هذه السياسية بضراوة أشد وبدون ريب. ففي اليوم الذي تلا إعدام خمسة عشر من الضحايا أعلنت صحف بغداد أن ستة أشخاص، من ضمنهم يهودي ليس عراقي الأصل اسمه شمشون بلو، حكموا بالإعدام غيابيا بتهمة التجسس لصالح اسرائيل وعليهم تقديم أنفسهم للسلطات خلال ستة أشهر. وبعد أسبوعين، في الثامن من أيلول/سبتمبر 1969، أذاع راديو بغداد أن ثلاثة أشخاص، جندي وإيرانيين، قد أعدموا بتهمة تجسس لصالح اسرائيل والولايات المتحدة.
وفي السابع والعشرين من الشهر اعتقل أكرم صيون بحر وبلَّغوا أقاربه أنه قد هرب من السجن ثم عُرف بعد ذلك أنه قضى إثر التعذيب القاسي في السجن وأن السلطة أخفت جثته.
اعدام ناجي ساعاتي والبير نونو
وفي السابع من شهر تشرين الأول/أكتوبر 1969 أعدم في السجن المركزي ببغداد ثمانية أشخاص من ضمنهم اليهودي ناجي ساعاتي. ولم تعلن السلطات عن ذلك في وسائل الإعلام قبل الإعدام أو بعده. وبعد ما يقارب الشهر نشرت الخبر الصحيفة البيروتية "ديلي ستار"(Daily Star) ثم تناقلته وكالات الإنباء.
وفي العاشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1969 حكم بالإعدام على البير نونو الذي اعتقل في شهر أيلول/سبتمبر 1968، وقُدم للمحكمة مع شاؤل ناجي نجل الحاخام ساسون خضوري الذي اعتقل بعد شهرين من اعتقال نونو واتهما بانتمائهما لجماعة تضم عدداً من رجال الجيش ورجال السياسة انتظمت، حسب ادعاء السلطات، قبل حرب الأيام الستة للقيام بانقلاب وتشكيل حكومة جديدة برئاسة رئيس الوزراء السابق عبد الرحمن البزاز، واتهما أيضاً بالتجسس لصالح اسرائيل وإيران وحلف سينتو (CENTO)، وفي نفس اليوم برأت المحكمة ساحة ناجي شاؤل وساحة متهمين آخرين وأُرجعت إليه أمواله التي صودرت عند اعتقاله.
نفذ حكم الإعدام بنونو في الواحد والعشرين من شهر كانون الثاني/يناير 1970 حين أعدم في ذلك اليوم واليوم الذي تلاه واحد وأربعين مدنياً وعسكريا وذلك بعد أن أعلن رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر عن احباط مؤامرة يمينية موالية للغرب لقلب الحكم. وكان عدد الضحايا أكبر من هذا العدد المعلن عنه رسمياً، وقدر عدد الذين أعدموا في تلك المجزرة، التي بثت في التلفزيون وفي راديو بغداد ووسائل الإعلام الأخرى، ما بين 200-400.
كانت حصيلة اعدام اليهود خلال سنة - بين شهر كانون الثاني/يناير 1969 وكانون الثاني/يناير 1970 - ثلاثة عشر ضحية وخمسة آخرين أعدمهم نظام البعث سراً أو علناً وقد أشرنا إليهم سلفا، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1969 أضيف إليهم شلومو سوفير الذي قضى بالسجن، وأخر عزرا(عزوري) يعقوب جوري، قضي عليه في السجن في كانون الثاني/يناير 1970.
994 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع