إرم نيوز:يعتبر الرسم على الجدران أحد أقدم أشكال الفنون البشرية، إذ لجأ إليه الإنسان في عصور ما قبل التاريخ، متبعا حدسه بالفطرة ومتخذا الجدران وسيلة لتجسيد خطوط وأشكال ظن أنها قد توفر له الحماية وتدفع عنه الشرور.
وشكل الفن الجداري محاولة لإنسان الكهف لفهم ما يدور حوله وتقديم تفسير بدائي غيبي للكون، في لوحات منتشرة في مستوطنات البشر الأولى حول العالم.
ويصور الفن الجداري نشاطات شعب وثقافة وحضارة، حاملا في الوقت ذاته هواجس الفنان وتطلعاته وأفكاره، ليختزل لحظة من الزمن من خلال مشهد جداري يحاكي قضية ما.
وتطور الرسم الجداري مع تطور الأدوات والخامات، لينتقل إلى المعابد والمساجد والكنائس والمقابر والقصور والقلاع، ويصبح جزءا مهما من التراث الإنساني.
وانتقل الفن الجداري لاحقا إلى الهندسة المعمارية والديكور المنزلي، محققا غاية التجميل والاهتمام بالتفاصيل الفنية وإضفاء لمسة مميزة على الأثاث والجدران والأسقف.
ودخل الفن الجداري كثيرا من المنازل والمقاهي ومراكز الطب والتجميل والجمعيات والشركات، لنقل صورة معينة عن اختصاص المؤسسة.
واستُخدِم الفن الجداري في مرحلة من المراحل لتغطية العيوب وتجميل الخراب، وتحويل الحائط المنزوع أو الملطخ بالبقع والخربشات العشوائية إلى رسومات معينة جميلة، تحسن من مظهر الشوارع وفوضى الجدران.
أول لغة بصرية
والفن الجداري أول لغة بصرية عرفها الإنسان قبل الكتابة، ووجد فيها الملاذ للتعبير عن مكنونات النفس وما يجول في الخاطر، ووثق برسوماته المبسطة معتقداته وطقوسه ونشاطاته، وبشكل صامت.
وتندرج الجداريات ضمن علم العلامات (السيمولوجيا) القائم على اعتبار أن التواصل بين البشر يرتكز على مجموعة من العلامات والرموز ودلالاتها. فاللغة المنطوقة مثلا، ماهي إلا مجموعات من الأصوات، تجتمع لتؤلف كلمات ذات دلالات اصطلاحية.
كما أن هناك طائفة أخرى من نظم التواصل، يصدق عليها ما يصدق على اللغة، فهي تتكون من علامات اصطلاحية متفق عليها بين مجموعة بشرية معينة.
ومقابل كل حاسة من الحواس، هنالك نظام من العلاقات الاصطلاحية ذات الدلالة؛ بصرية إن خاطبت العين، لمسية إن خاطبت اليد، مذاقية إن خاطبت اللسان، وسمعية إن خاطبت الأذن، وقصدها التواصل والتفاهم.
ولكل لون أو خط أو تكوين دلالته الرمزية، إذ تعبر عن هواجس وأفكار الفنان التي يحاول ايصالها للمتلقي، ومن الممكن أن نطلق على لغة اللوحات الجدارية والتشكيلية عموما، مصطلح اللغة البصرية، كنوع من ”المشهديات“؛ وهي إشارات طبيعية، على شكل صور تحاكي عين الناظر.
ووفقا لبيرس، الباحث في علوم اللغة، أواخر القرن التاسع عشر، فإن ”الأيقونة“ أي الصورة أو الشكل المشهديان، هي صورة مشهدية للأشياء، ونسخة عنها، أو مخطط هندسي لها، وتبقى لها خاصيتها الإشارية، ضمن علم العلامات.
وفي اللوحة نخاطب المتلقي بالألوان والخطوط والتكوين، تماما كما يخاطب الموسيقي الجمهور باللحن، أو يخاطب المسرحي جمهوره من خلال الحركة والصوت والإضاءة.
وفي حديث لـ“إرم نيوز“؛ قال الفنان الفلسطيني غياث الروبة، إن ”الفن ممارسة إبداعية ويحمل في طياته طابعا إنسانيا وجماليا على مر العصور، ليكون بمثابة مرآة تعكس صورة الواقع والمجتمع، ويسهم في إيصال رسائل ورموز، سواء أكانت دينية أم اجتماعية أم سياسية، إلى المجتمع والجيل الصاعد“.
الخامة
في العصر الحجري اعتمد الإنسان في تكوين لوحاته الجدارية على أدوات طبيعية متوفرة كالأتربة الملونة والعظام المتفحمة وبقايا الشحوم، لتوثيق مجريات الأحداث اليومية، مثل: أساليب التقاط الطعام والطهي، ووسائل الصيد، والعلاقات الأسرية، ونوع الثمار والأشجار، فضلا عن قوانين الحاكم والقبيلة.
وتختلف خامة الألوان في الفنون القديمة، وتتفاوت معانيها من عصر إلى آخر لتؤدي دورا رمزيا في حضارة ما، أو تعكس رمزا دينيا أو عادات وتقاليد معينة من خلال درجة اللون.
جذر لاتيني
وتعود أصول كلمة جدارية (Mural) إلى جذور لاتينية (Murus) وتعني الجدار. وفنيا تفيد معنى اللوحة الفنية المنقوشة مباشرة على سطح جداري أو حائط داخلي أو سقف.
الجداريات الفرعونية
وجسد الفن المصري القديم عقائد دينية ناقشها بالرسومات المنقوشة على جدران الهياكل والمعابد، ويركز كثير منها على فكرة البعث والخلود، فالموت بوابة لحياة أخرى خالدة؛ ما دفعهم إلى الاهتمام بمظهر مقابرهم والحفر على الصخور.
وقدمت الجداريات الفرعونية عناصر جمالية من خلال خطوط لونية شفافة وجريئة تحاكي وتقدم تصورا تجريديا للواقع، وتؤدي مهمة كهنوتية تدعم سلطة الحكام ومحاولاتهم تقديم أنفسهم كصفوة أقرب إلى الآلهة.
تجسيد قضية
وفي تجسيد صريح لقضية التزام الفن، انتشرت في سبعينيات القرن العشرين، آلاف الجداريات في أيرلندا، دعما لقضيتهم الوطنية، ورفضا للعنصرية والشوفينية.
واشتهرت العاصمة الألمانية برلين بجدارياتها السياسية الحاملة لقضايا سياسية، وجسد فنانون ألمان وجهة نظرهم برسومات تحمل رسائل ملتزمة على مساحات جدار برلين، وبشكل خاص في الجانب الغربي منها.
أعلام
واشتهر عالميا من فناني الجداريات، الألماني أندرياس جورسكي، والفنان التجريدي الصيني زاو ووكي، الذي وصفه نقاد بأنه أهم فنان صيني معاصر.
وعُرِف الفنان الإسكتلندي بيتر دويج بواقعيته السحرية، مقدما جداريات مستوحاة من صور فوتوغرافية أو لقطات سينمائية، مضيفا لمسته الإبداعية الخاصة.
وعربيا، زينت لوحات الفنان العراقي الأشهر جواد سليم، أبرز الساحات العامة في بغداد، إلى جانب العراقي فائق حسن، وهما من أوائل من وظف الفن الجداري بمفهومة الحديث.
الدافع
وقال الفنان المصري محمد أبو الحمايل، في حديث لـ ”إرم نيوز“، إن ”الفن بصورة عامة ينقل رسائل مبطنة، أو لمسات جمالية، وريشة الفنان وألوانه كفيلة تماما في عكس صورة جمالية وإنسانية للمجتمع“.
وأضاف ”تمثل مواجهة الناس بلوحة جديدة أضع فيها من طاقتي ومشاعري وجهدي الفكري والجسدي، أكبر تحد بالنسبة لي أختبر من خلالها قدراتي ومهاراتي الفنية، لأحصد في النهاية ردود أفعال الناس، وأثبت كفاءتي لنفسي قبل الجميع، وأنني قادر على مواجهة المجهول والجديد في عالم الفن“.
من جانبه، قال الفنان الفلسطيني السوري غياث الروبة، في حديثه لـ“إرم نيوز“: ”قبل كل لوحة صغيرة أو جدارية ضخمة، يكون التحدي بمثابة سلاح متعلق باستمرار الفنان ومواصلته النجاح وإيصال رسالته الفنية للمجتمع، وبشكل خاص جداريات الأبنية المرتفعة التي تحتاج إلى جرأة عالية وانغماس تام في الألوان والهواء ونسيان الارتفاع البعيد عن الأرض“.
وأضاف ”تتجسد صعوبات العمل في المساحات الكبيرة والأبنية المرتفعة، ومع إنجاز قسم من اللوحة في المساحة العالية يتوجب علينا بين حين وآخر أن ننخفض مرة أُخرى إلى الأرض لنعاين الجدارية من الأسفل ونوزع نقاط العمل ونحدد الأجزاء المتبقية؛ ما يأخذ جهدا ووقتا كبيرين أكثر من الجداريات الأرضية، وأذكر جدارية أنجزتها على مبنى 8 طوابق في لبنان أخذت مني 12 ساعة على مدى 3 أيام“.
وقالت الفنانة السورية علا مثبوت، في حديث لـ ”إرم نيوز“، إن ”التحدي بالنسبة لي يكمن في كيفية تنفيذ جدارية ضمن مساحة كبيرة، مع التعرض لأشعة الشمس والحرارة المزعجة، لأختار أوقاتا معينة تتناسب مع الطقس، وأتجنب تأثيره على أدائي، ويترافق السؤال والتفكير المستمر مع جهد بدني ولمسات إبداعية“.
وأشارت مثبوت إلى تجربتها في إكسبو 2020؛ وقالت ”من التحديات الممتعة، اختياري من قبل جناح أوزباكستان، لرسم 6 شخصيات تاريخية وعلمية من وحي الخيال، وكان تحديا كبيرا وممتعا لأختبر مخيلتي البصرية وقدرتي على تجسيد الوجوه بتفاصيلها الدقيقة، لأن صور الشخصيات لم تكن متوفرة بشكل واقعي ما يزيد من صعوبة المهمة ومتعة التحدي بخلق تفاصيل واقعية لوجوههم“.
ومن ضمن الشخصيات التاريخية التي رسمتها مثبوت في الجناح: ابن سينا، والخوارزمي، والإمام البخاري، وميرزو أولوغ بيك، ومحمود الكاشغري، والبيروني.
عقبات
وعن العوائق التي تواجه الفنانين في العالم العربي، قال غياث الروبة الذي وضع بصمته الفنية على جدران في سوريا ولبنان والإمارات، إن ”اللوحات الجدارية تحتاج إلى موافقات رسمية ودراسة كاملة قبل المباشرة بالعمل، ويعتمد ذلك على موضوع الجدارية ورسالتها، فقد تكون اللوحة جدلية أو تجسد قضية معينة“.
وبدورها؛ قالت علا مثبوت ”نعاني كفنانين متخصصين باللوحات الجدارية من ضعف تقدير القيمة المالية للعمل، وعلى الرغم من بذل الفنانين لجهد جبار في لوحة أو جدارية ما، وما تقدمه من متعة بصرية، لا نشهد اقبالا على اقتنائها، إلا من قِبل قلة قليلة جدا من متذوقي الفن“.
وتصف مثبوت تجربة الفن الجداري بأنها ”ممتعة وجريئة جدا وأتمنى خوضها دائما؛ لأن الانتصار يكمن في رؤية النتيجة بعد أيام متواصلة من التعب والجهد“.
الفن في العالم العربي
ولتطوير الثقافة البصرية في العالم العربي، أوصى محمد أبو المحايل، بتقديم الدعم للمواهب الشابة، عن طريق المراكز الثقافية والمعاهد المهتمة بالفنون.
وقال أبو المحايل، إن ”كثيرا من العائلات في المنطقة ما زالت تنظر للفن نظرة نمطية، وتعتبر الرسم مضيعة للوقت، وهذا مفهوم يجب أن يتغير؛ لأن الشخص المناسب ينجح ويبدع في المكان المناسب“.
في حين أوصى غياث الروبة بضرورة ”تحلي الفنان بالإرادة والصمود، للوصول إلى اتخاذ الفن مهنة رئيسة تدر المال، حتى لو عانى لأعوام من التعب والتكرار والتجارب، ليصل في النهاية إلى هدفه ويجعل من الرسم مصدر رزق يستطيع العيش من خلاله“.
ويبقى الفن مرآة المجتمع بثقافته وحضارته وتجسيده للقضايا الاجتماعية والإنسانية. والتحديات في عالم الفن بمثابة درَج لا ينتهي، وعقب كل قمة يتجاوزها الفنان يوجد قمة أكثر ارتفاعا بانتظار شغفه وإبداعه باستخدام الفن كوسيلة لنقل الحب والجمال والحضارة.
1192 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع