في عام 1846 قام أوجين فرومنتان، برفقة عدد من أصدقائه برحلة إلى الصحراء الجزائرية، فأبدع في وصفها. وقد استوحى معظم أعماله من هذه الأرض التي زارها وتأثر بها، فأصبحت كالأم التي لا تتوقف عن الإنجاب. ولذلك كرر زياراته إلى الجزائر، مرافقاً بعثات التنقيب. كما زار مصر، ورسم في هذه الرحلات عدداً كبيراً من اللوحات ذات الموضوعات الاستشراقية مثل (أحصنة تعدو، جاريات جميلات، شيوخ قبائل...)، كما جمع فيها كثيراً من الانطباعات، نشرها في ثلاثة مجلدات.
وعبّر عن رأيه في الشعب العربي: "إن العرب هم الشعب الوحيد الذي استطاع الاحتفاظ بكبريائه؛ لأنه عرف كيف يبقى بسيطاً في حياته وتقاليده وأسفاره وسط الشعوب الأخرى المتمدنة". وتميّز إبداع فرومنتان بالتعلق المرَضي بقيم البراءة والصفاء والطهرانية، فجاءت كل أعماله محاولة في الكشف عن هذه القيم في الأشياء وفي الناس وراء السكون والصمت الظاهريين.
تخليد الطبيعة وروحية الشرق
كان فرومنتان دائم الإشادة بعالم الشرق، وبعظمة شعوبه التي استطاعت الحفاظ على جمال الحياة والعادات والتقاليد الموروثة. وتميزت إبداعات هذا الفنان برهافة الحس والمعرفة الدقيقة للعنصر الإنساني وللطبيعة ومتغيراتها، وملاحظة أثر المناخ على السلوك ونمط الحياة خاصة في الصحراء. وقد سعى إلى تخليد مناظر الطبيعة الجزائرية والمصرية.
وتلبية لدعوة الفنان (لابيه) قام فرومنتان بزيارة الجزائر سراً عام 1845 حيث كانت أسرة (لابيه) مستقرة بمدينة (البليدة) وكانت عائلة فرومنتان تعارض اتجاهه للفن، فسافر من دون علمهم، واستمرت الرحلة لمدة شهر أثمرت حصيلة إبداعية هائلة. في صالون باريس 1847 عرض فرومنتان ثلاث لوحات تعرض مشاهد جزائرية، قدمته بنجاح إلى الجمهور الفرنسي. لقد بلورت أرض الجزائر العملية الإبداعية والروحية لهذا الفنان، ودفعته إلى معايشة الحالة الروحية للشرق، وتسجيل كل مظاهر السلوك والعادات والتقاليد، والطقوس الدينية، والحكمة، وحب الأرض وعشق الطبيعة، ووصف حياة القبائل العربية، في كتابيه: (صيف في الجزائر) و(سنة في الساحل)، وقد أشار في هذين الكتابين، إلى سعيه الدائب لإكساب الصورة الشرقية.
لوحات صيد الصقور في الصحراء
لقد سعى فرومنتان لتخليد مناظر الطبيعة الجزائرية من المنطق نفسه للصبغة المحلية ولعبة الضوء واللون مثل لوحة ذكريات جزائرية (متحف الفنون الجميلة في الجزائر). فتتراجع فيها أطلال الآثار المعمارية المحلية (بقايا أعمدة وقناطر) إلى خلفية اللوحة التي تزين مقدمتها بألعاب الفرسان.
أنجز فرومنتان العديد من مشاهد "الصيد" التي ميزته كفنان استشراقي يسعى دائما إلى "التفرد" في رؤيته للشرق التقليدي. إن مشهد (صيد الصقور) يعتبر أحد مشاهد الصيد الشرقية التقليدية والمفضلة لدى العربي في الصحراء، ولدى بحث فرومنتان عن مشاهد معبرة عن (روح الشعب) الصحراوي، رأى في مشهد صيد الصقور، صورة شرقية بحتة لم يصورها قبله أحد من الرومانيين فالصقر طائر الصحراء الجارح، وعملية صيده مفعمة بالبطولة، لأن المعركة بين الإنسان والحيوان لا تدور على الأرض (كما في لوحات سابقيه) بل بين مخلوق الأرض ومخلوق السماء. فتظهر في لوحته (صيد العرب للصقور) صورة الفرسان العرب على صهوات جيادهم الرشيقة؛ يتابعون حركة الصقور في السماء؛ وتتوزع على مساحة مجرى مائي (ساقية أو نهير) بينما تلف فضاء اللوحة غلالة ضبابية شفافة من انعكاس ضوء المساء الأصفر الباهت، على صفحة الماء الفضية.
ألهمته الصحراء لوحات خالدة
عايش فرومنتان الصحراء سنوات طويلة، فأحسها بكل كيانه الروحي والجسدي حتى ألهمته لوحات متميزة خالدة ومثلت لوحته (العطش) قمة إبداعاته عن الصحراء، حيث تتجلى الصورة التراجيدية لحياة الإنسان في الصحراء القاسية! كذلك لوحته الشهيرة: (مشهد صحراوي) أو (لصوص الليل) التي جسدت روعة الليل في الصحراء، وصورت مظهراً من مظاهر الحياة البدوية. وعقب ثلاث رحلات طويلة إلى الجزائر، نشر فرومنتان كتابه (صيف في الصحراء) عام 1857 ثم كتاب (سنة في الساحل)، عام 1859.
إن تعطش الفنان للعثور على شيء ما جديد في الشرق الفني جعله يوغل في عمق الطبيعة الجزائرية ليزور المناطق التي لم يزرها أحد قبله، (الصحراء الجزائرية حيث درجة الحرارة في الظل صيفاً تبلغ 60 درجة مئوية). وبدعوة من الخديوي إسماعيل، شارك فرومنتان في احتفالات افتتاح قناة السويس عام 1869، وقدم صورة صادقة متعددة الألوان عن مصر، وكان في أعماقه شاعراً، أكثر منه مصوراً، حتى أنه عندما رحل إلى مصر؛ لم يكن معه أدوات للرسم، وإنما اصطحب معه مفكرة لرصد انطباعاته والتي كانت وبحق أبدع مذكرات سجلها فنان، ومن أشهر لوحاته المصرية (لصوص الخيل في الصحراء) و(الغروب على شاطئ النيل).
خارج الزمان والمكان
تدل إبداعات فرومنتان على عمق ثقافته وسعة اطلاعه ونزوعه إلى الابتكار والتميز، وكان يعشق العزلة ليعيش (خارج الزمان والمكان). وصف نفسه بأنه: (ليس رحالة يصور كل ما تقع عليه عيناه، بل هو فنان يرتحل وراء ما ينبغي تصويره، محاولاً التمييز بين الجميل والغريب. وبما أن الرومانسيين الأوائل، وفناني الاتجاهات الفنية الأخرى كانوا حتى هذا الوقت قد استنفدوا في أعمالهم الاستشراقية كل ما من شأنه أن يثير الدهشة من مواضيع، وصور وألوان، وأنماط، واستكملوا تقريباً الصورة الرومانسية الاستشراقية، وقاد ذلك فرومنتان إلى تركيز هدفه على الكشف عن «رؤية» جديدة للشرق مغايرة لكل ما سبقها. فقرر أن يعيش بنفسه عالم الشرق الأنقى في «الصحراء»، وأن يجرب أثر المناخ على أحاسيسه من الداخل.
ولم تراود الرغبة فرومنتان وحده فقط، بل يكفي أن نتذكر ماريلا، الذي تأثر به فرومنتان من الناحيتين الإبداعية والمعيشية، وكذلك جيرار دي نرفال (الذي عاش بين العرب ودرس لغتهم )، فكتب يعبر عن رغبته هذه قائلاً: (أريد أن أتغلغل عميقاً في العالم الأليف لهذا الشعب لإدراك أصالته، وأعتقد بأن بلوغ هذا الهدف ممكن فقط؛ عبر الاقتراب من هذا الشعب أكثر).
الذكريات ولعبة الضوء واللون
لقد سعى فرومنتان لتخليد مناظر الطبيعة الجزائرية من المنطق نفسه للصبغة المحلية ولعبة الضوء واللون، مثل لوحة ذكريات جزائرية، (متحف الفنون الجميلة في الجزائر). فتتراجع فيها أطلال الآثار المعمارية المحلية (بقايا أعمدة وقناطر) إلى خلفية اللوحة، التي تزين مقدمتها بألعاب الفرسان، من دون المبالغة بتجسيد التفاصيل المعمارية. ويمكن تفسير هذا التوجه بسبب طبيعة الآثار الجزائرية التي وقعت تحت نظره، والتي تخلو من المواصفات التعبيرية وحجم الموضوع المرئي الذي يتبدى في شكل الآثار المصرية. وفضلاً عن ذلك فإن فن العمارة لم يدخل في إطار اهتمامه بقدر الطبيعة، فهو يسعى لرؤية المنظر الطبيعي الشرقي بمنظار جديد.
مما لا شك فيه أن إقامة فرومنتان في الجزائر لفترة طويلة مكنته لاحقاً، أي في الخمسينيات، من إيجاد ذاته في لوحات شرقية صميمة تصب في جوهرها في التوجه الرومانسي الغريب، غير أنها تنم عن فكر جمالي نظري منبعه الملاحظة الدقيقة لمتغيرات طبيعة الشرق، وأثر المناخ على السلوك، ونمط الحياة وبخاصة في الصحراء. لقد أنجز فرومنتان عدداً من لوحات "الصيد".
أوجين فرومنتان مصوراً وأديباً
ولد في لا روشل. نشأ في عائلة برجوازية تعتني بالثقافة مما أتاح له صقل موهبته الفنية ومعرفة أعمال كبار الفنانين والأدباء الفرنسيين أمثال: سانت بوف وهونوريه دي بلزاك وغيرهما. أصدر فرومنتان عام 1876 كتاباً في النقد الفني بعنوان "المعلمون القدماء، يدرس فيه أعمال فناني العصور السابقة ويبدي إعجابه بتقنيتهم وبقدرتهم على رسم شفافية الفضاء و"ألوان الأثير". كما نشر عام 1863 روايته اليتيمة "دومنيك" التي جاءت سيرة ذاتية تسترجع قصة حبه المخفقة.
صور الصحراء في لوحته الشهيرة "مشهد صحراوي" أو "لصوص الليل" التي جسدت روعة الليل في الصحراء، وصورت مظهراً من مظاهر الحياة البدوية. وعقب ثلاث رحلات طويلة إلى الجزائر، نشر فرومنتان كتابه "صيف في الصحراء" عام 1857، ثم كتاب "سنة في الساحل"، عام 1859، وقد كتب عنهما الناقد الفرنسي "لويس جونس" في كتابه: (أوجين فرومنتان مصوراً وأديباً) قائلاً: "إن كتاب الصحراء هو الصيف الإفريقي بعينه، بكل ما فيه من أضواء وألوان صاخبة عنيفة، وهدوء قاتل، وخشونة وشاعرية غريبة، أما كتاب الساحل، فهو الجزائر بذاتها.. الجزائر الضاحكة المخضرة بسمائها المتغيرة، وسحبها وألوانها المختلفة، وانعكاسات الأضواء والجبال الشاهقة، وآفاق بلا نهاية.
699 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع