شهرزاد وشهريار كلاهما حكّاء آخر
يعيد الشاعر المصري فتحي عبدالسميع قراءة المدونة السردية من خلال معيار هام يستقيه من الأثر العربي الخالد “ألف ليلة وليلة” وهو الذي يعتبر مفتتح السرد وأهم تشكلاته الأولى، إذ يعود الشاعر لمساءلة النصوص وفق من يحكيها ومن يتلقاها.
العرب/ محمد الحمامصي:انطلاقا من رؤية نقدية وإبداعية متكاملة في فكرتها يقدم الشاعر المصري فتحي عبدالسميع مفهوم الحكّاء والحكّاء الآخر بدءا من حكاية المسيح كما وردت في الأناجيل، وذلك في صياغتها التي قدمها نجيب محفوظ في رواية “اللص والكلاب”، ومرورا بالحكّاء نجيب محفوظ وهو يتحول إلى حكاية، وكيف يأتي حكاء آخر ليتفاعل مع حياته وقصصه، ثم التوقف أمام الحكاء الآخر كما يتجلى داخل النصوص السردية القديمة والحديثة، وانتهاء بالحكي الشعري والتوقف عند ديوان أمل دنقل الشهير “أقوال جديدة عن حرب البسوس” وعقد مقارنة بينه وبين حدث مقتل كليب كما جاء في السيرة والقصيدة، وكيف تفوق الحكّاء الآخر أمل دنقل فنيا على مبدع الحكاية الشعبية.
هذه الرؤية لعبدالسميع والتي ضمها كتابه “وجوه شهريار..الحكّاء والحكّاء الآخر”، الصادر عن كتاب أخبار اليوم، جاءت في مقدمة نظرية تتناول مفهوم “الحكاء والحكاء الآخر” وأربعة فصول، سعت إلى قراءة النصوص الإبداعية على أمل استجلاء وجوه شهريار، ورصد حضور الحكّاء والحكّاء الآخر.
يرى الشاعر عبدالسميع في مقدمته أن شهريار وشهرزاد هما آدم وحواء الأدب، وكل عمل أدبي له نصيب منهما، أو يدين بالفضل لكليهما، كل عمل أدبي يولد نتيجة إصغاء، ويتحول في وقت لاحق إلى قول جديد. شهرزاد ليست هي التي تروي الحكاية كما في “ألف ليلة وليلة” فقط، لشهرزاد وجه آخر، هي لحظة الإبداع التي تروي للمبدع حكاية جديدة، هي الأنا الخلاّقة التي تظهر أثناء الكتابة وتملي على الكاتب حكاية وراء الأخرى، هي النور الذي ينبثق في رحم الظلمة فيكون الإبداع، وواجب المبدع هو الإصغاء إليها وحفظ ما تمليه عليه، واجب المبدع هو القيام بدور شهريار وهو الحفاظ على حياة شهرزاد، ورعايتها كأميرة.
ويوضح أن شهرزاد لا تنبثق في ظلام الرحم الإبداعي من تلقاء نفسها، ولا تنهض معتمدة على كيانها وحده، لأن في الرحم أماكن أكثر ظلاما تحتوي على “صندوق شهريار” الذي يمتلئ بكل الحكايات التي استمع إليها المبدع طوال حياته وقام بالحفاظ عليها في خزائن سرية داخل أعماقه. لشهريار هو الآخر وجوه كثيرة، فهو المبدع الذي يستمع إلى الحكايات بامتداد حياته ويقوم بتخزينها في صندوقه الخاص، وهو الذي يصغي إلى الأنا التي تتخلق أثناء لحظة الإبداع، ويقوم برعاية حكايتها حتى تكتمل في صيغة نهائية، ثم يجعلها متاحة لكل شهريار ممكن يود الاستماع إلى الحكاية.
وقال عبدالسميع إن شهريار الخارجي هو المتلقي الذي يوجد أساسا في بذرة العمل، لأن الكاتب يكتب وفي ذهنه المتلقي، سواء تم ذلك بشكل واع أو غير واع أو في نقطة بين الوعي واللاوعي. شهريار هو القاتل الذي يهدد كل نص جديد، وهو الذي يكفله وينقذه من الموت، لأن كل نص لم يقرأ في حكم المحكوم عليه بالإعدام، كل نص بلا قراءة يتيم، وبقدر ما يتعرض النص لرعاية شهريار ويصبح مقروءا بشكل جيد، بقدر ما يتحقق في الحياة.
التداخل بين الحكّاء والحكّاء الآخر شديد حتى أنه يفسد ثنائية الذات والآخر وهي تعبر عن الشرق والغرب
وهكذا فإن داخل النص توجد شهرزاد في الراوي أو المتكلم، ويوجد شهريار في المروي له، وإذا كنا نستطيع التمييز بوضوح كبير بين المتلقي والكاتب، فإننا على المستوى الداخلي نعجز عن التمييز بينهما بنفس القدر من الوضوح، لأن الراوي شخصية متخيلة من إبداع الكاتب، وكذلك المروي إليه، أي أن شهريار وشهرزاد يعيشان حالة دمج داخل مخيلة واحدة، حتى لو ظهرا بخلاف ذلك.
ويؤكد عبدالسميع أن شهريار الموجود خارج النص شيء وشهريار الموجود داخل النص شيء آخر، فالروائي يختلف عن بطل الرواية والخلط بينهما مرفوض، كالخلط بين الواقع والخيال، غير أن الفصل بينهما بشكل نهائي مرفوض أيضا، لأن الخيال جزء من الواقع، لا يوجد واقع إنساني بلا خيال. وإن أي حكاية تتوجه إلى الآخر، المحكي له، أو المروي له، والذي ينقسم إلى نوعين مختلفين، في النوع الأول يكون الآخر أو المروي له خارج الحكاية، وفي تلك الحالة يكون إنسانا واقعيا أو حقيقيا، إنه القارئ أو المستمع. وفي النوع الثاني يكون الآخر أو المروي له داخل الحكاية، وفي تلك الحالة يكون شخصية فنية متخيلة مثل باقي الشخصيات، ويقتصر دوره على حدود الحكاية كما هو الحال مع شهريار في “ألف ليلة وليلة”.
وأشار إلى أن الخلط بين المروي إليه الخارجي والمروي إليه الداخلي مرفوض بسبب الهوية الخاصة لكل منهما، تماما مثل الخلط بين الحقيقي والفني المتخيل، لكن الفصل النهائي بينهما مرفوض أيضا، لأن مبدع الحكاية يولد من حكايات أخرى. وتختلف درجة الاتصال بين الكاتب وإبداعه باختلاف النوع، فعلاقة الشاعر بكلامه أشد اتّصالا من علاقة مبدع الرواية أو القصة القصيرة بنصوصه، كاتب القصة يسعى في كل عمل إلى تقديم “متكلم” ويتغير البطل عادة في كل عمل، بخلاف الشاعر الذي يتغير صوته ببطء شديد، من مرحلة إلى مرحلة، هكذا نقرأ عددا من القصائد دون أن نجد مسافة ملحوظة بين أبطال القصائد، وإن ظهرت غالبا ما يكون الشاعر هو هو بدرجة كبيرة.
ويلاحظ عبدالسميع أن المبدع نفسه أحيانا كثيرة يحرص على ربط الداخل بالخارج، فيومئ، أو يشير، أو يصرح بأشكال مختلفة إلى أن المتكلم داخل النص هو ذاته مبدع النص. كما أن الفصل بين المبدع وعمله ضروري في حالة الاعتماد على العقل وحده في النظر إلى الإبداع، وهو ما يتحقق في حالات معينة تستدعي ذلك، مثل الدراسة العلمية للإبداع، أو إصدار أحكام أخلاقية ضد المبدع، لكن الاتصال بينهما مفيد طالما نتلقى الإبداع بكينونتنا الكاملة، أو بعقلنا وقلبنا معا.
والاتصال بين المبدع وعمله، يفرض نفسه بقوة، ونحن لا نستطيع عمليا القيام بعملية الفصل بشكل كامل، فعندما نسمع أو نقرأ قصيدة لأمل دنقل أو محمود درويش مثلا يصعب علينا التعامل مع الراوي الذي يحدثنا داخل القصيدة باعتباره شخصا متخيلا لا علاقة له بالشاعر، كما أن الدمج بينهما ينعكس على اندماج المستمع في القصيدة، لأنه يستمع بذاته كلها بما فيها من عقل ومشاعر وخيال، فاللعبة الأدبية لا تقوم أساسا بلا إيهام.
الحكاء الآخر
وشدد على أن كلمة “الحكّاء”جديرة بالاهتمام النقدي، ويفترض أنها الأقدر على لمّ شمل الفنون الأدبية كلها لا القصة والرواية فقط، فالشعر أيضا يعتمد كثيرا على الحكي، والحكّاء يكون شاعرا بنفس القدر الذي يكون به الحكّاء قاصا أو روائيا، كما أن الكلمة لا تتوقف عند المستوى الخارجي للحكاية، بل يمكن أن توجد في الداخل، ليصبح الحكّاء مرادفا للراوي أو السارد أو الشخص المتخيل الذي يتحدث داخل الحكاية.
لقد استقر الدرس النقدي على الفصل بين عالم المبدع وعالم النص الإبداعي، فالشاعر شيء وبطل القصيدة شيء مختلف، قد يكون الشاعر مريضا عاجزا عن القيام من الفراش وبطل القصيدة فارسا كبيرا، لكن هذا الفصل لا يمكن أن يكون نهائيا، لأن المريض والفارس من أمّ واحدة، وهناك مشترك يجمع بين العالميْن، هناك شيء في القصيدة من كينونة الشاعر المريض، وشيء من كينونة الفارس المتخيل، فهل يمكن لكلمة “الحكّاء” أن تعبّر عن ذلك المشترك، بحيث تجمع بين العالمين دون أن تفصل بينهما نهائيا، كما يحدث الآن عند الكثيرين؟
ويكشف عبدالسميع عن أن الربط بين المبدع والعمل الفني مطلوب، كما هو الحال مع فصل المبدع عن العمل الفني، وهذا الربط موجود في بعض الأنواع الإبداعية مثل أدب الرحلة وأدب السيرة الذاتية، فنحن لا نستطيع أن نعتبر المتكلم كائنا آخر بخلاف المؤلف، حتى لو احتوت الرحلة أو السيرة الذاتية على قدر من الخيال. لا يمكننا نفي الإبداع عن عمل فني لمجرد اتصاله الوثيق بحياة صاحبه، والعكس صحيح، فكلما اقترب المبدع من إبداعه كان أصدق وأكثر حرارة، لكننا لا نريد أن يكون الربط آليا، بمعنى أنّ اقتراب المبدع من حياته لا يعني في حد ذاته تفوقا أو تميزا، لأن العملية الإبداعية تنتج من اتحاد كيانين البطل الواقعي والبطل المتخيل، وقد تبتعد بينهما المسافات وقد تقترب لكنها لا تنقطع.
ويلفت إلى أن الربط بين الشاعر والقاص والروائي وغيرهم من مبدعي الأدب مطلوب، صحيح أن لكل منهم هويته المستقلة، لكن الفصل بينهم لا يمكن أن يكون نهائيا، هناك مشترك يجمع بين العالم الشعري والعالم الروائي أو القصصي، فهل يمكن لكلمة الحكّاء أن تعبّر عن هذا المشترك؟. وأيضا هذا الربط مطلوب، من أجل التكامل بينهم خاصة في ظل ثقافة تتلاشى فيها الحدود الصارمة بين الفنون، كما أن التمييز بينهم مطلوب، فهل يمكن لمصطلح الحكّاء أن يعبر عن تلك الوحدة؟ لا شك أن ارتباط الحكي بالقصة والرواية واضح ولا يحتاج إلى كلام، لكن ذلك لا يعني أن عالم الشعر بعيد عن عالم الحكايات، ولو نظرنا إلى حكايات مثل الحكايات الخرافية يمكن أن نجد فيها من الصور والحالات الشعرية ما لا نجده في الكثير من القصائد. في الشعر الكثير من العبارات المجازية المحلقة، والشخصيات الخيالية، والأفعال والصور التي تخالف الطبيعة، وتصنع الخوارق، وتحتفي بالعالم غير الواقعي، الفنتازي والأسطوري والخرافي، وغير ذلك من الأمور التي لا تقدم الأحداث كوقائع حقيقية.
ويواصل عبدالسميع لافتا إلى أن التداخل بين عالم الحكاية وعالم الشعر موجود وقوي، وكذلك التداخل بين الحكي والشعر موجود منذ عصر ما قبل الإسلام، واستمر الارتباط عبر العصور، حتى وصلنا إلى المشهد الشعري الحالي، حيث صارت الحكاية من العلامات الكبيرة في الشعر المعاصر، خاصة مع تحرر الشاعر من الوزن والقافية، فكانت له تلك المساحة الكبيرة التي عزّتْ على أسلافه، وبات بموجبها مطالبا بالتوسع لا على مستوى الحكاية فقط، بل على مستوى الشعر نفسه.
الشاعر إذن بات مطالبا بإبداع قصائد تضيف فعلا إلى الرصيد العربي إن لم تتجاوزه، على اعتبار أن التجاوز يتطلب المقارنة بين شخصين يتمتعان بنفس الحرية والإمكانيات، وهذا مستحيل بالنسبة إلى الشاعر القديم، لأن التحرر من الوزن والقافية في متناول الشاعر الحديث وحده. وما يعنينا هو التقارب الكبير بين عالم الشعر وعالم الحكاية، والذي يجعل من لقب الحكّاء تعبيرا مناسبا للشاعر، قد لا يعبر عنه بشكل كامل، لكنه لا يخفّض من مكانته ولا يجرح هويته كشاعر، خاصة وأننا نجد اتجاها واسعا في الشعر الجديد يعتمد على الحكي ويعتز بصورة الحكّاء.
وينبه عبدالسميع إلى أن “الحكّاء هو مبدع الحكاية، والآخر هو من يلعب دورا في حياة الحكاية بخلاف مبدعها. الآخر ببساطة هو كل شخص سوانا أو غيرنا، سواء أكان خصما أم نصيرا، وكل إنسان هو آخر بالنسبة إلى أي إنسان، على اعتبار أن الإنسان لا يتطابق مع سواه، ومن ثم يختلف عن سواه بدرجة ما، رغم أننا جميعا من أم واحدة، لكن المسافات قد تبتعد بيننا، فنتحول إلى أعداء، وقد تقترب فنتحول إلى أحباب، لكن مهما بلغت درجة القرب لا تطمس الآخر، فالطفل في بطن أمه كائن آخر، ومهما بلغت درجة البعد لا نستطيع نفي إنسان من مقام الإنسانية حتى ولو ارتكب أفظع الأعمال ووصفناه مجازا بالحيوان”.
ويوضح أنه إذا كان الحكّاء هو مبدع الحكاية، فإن الآخر يعيش في كينونة الحكّاء كما تعيش الأم في جسد طفلها وثقافته، وقد يختفي هذا المبدع ويعيش الآخر في حياة الحكاية مثل في شهرزاد التي تروي الحكاية، أو شهريار الذي يتلقاها، فمن دون شهرزاد تموت الحكاية، ومن دون شهريار تموت الحكاية أيضا.
ويضيف “الحكّاء الآخر هو المبدع الذي أثر في حياة مبدع “ألف ليلة وليلة”، المبدع الذي لا نعرف اسمه، والحكّاء الآخر هو شهرزاد التي تروي حكاية لم تبدعها، والحكّاء الآخر هو شهريار الذي يستمع إلى الحكاية، والحكّاء الآخر هو المخاطب أو المروي له المتخيل الذي يعيش داخل الحكاية، لأنه الوجه الآخر للراوي”.
التداخل بين الحكّاء والحكّاء الآخر شديد، حتى أنه يفسد ثنائية الذات والآخر وهي تعبر عن الشرق والغرب بالمعنى المباشر والمجازي للشرق والغرب، أو تجعل تلك الثنائية في أقرب نقطة للأصل الذي تفرعت منه.
الحكّاء هو مبدع الحكاية، أما الحكّاء الآخر فهو: أولا الحكّاء الأول (المجهول عادة) والذي أثّر في الحكاية الجديدة، فلا وجود لحكاية تبدأ من نقطة الصفر، لأن مؤلفها يعتبرها مولودا للحكايات التي استمع إليها أو قرأها. ثانيا الراوي الذي يلقي حكاية أبدعها غيره (شهرزاد). ثالثا المروي له الذي يلعب دورا خارجيا في الحكاية (شهريار). رابعا المبدع الذي يعيد إنتاج حكاية قديمة (المبدع الجديد). خامسا المروي له الذي يلعب دورا داخليا في الحكاية باعتباره شخصية متخيلة، يخاطبها الراوي ولا يكتمل العمل إلا بها.
735 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع