من معرض مريم أبو طالب في مساحة شلتر بالإسكندرية، إبريل/ نيسان 2025 (صفحة الفنانة/ فيسبوك)
العربي الجديد/ القاهرة:بدا افتتاح وزارة الثقافة المصرية أول متحف للخط العربي في البلاد، داخل مجمع الفنون بمدينة الإسكندرية عام 2015، خطوة طال انتظارها؛ خطوة تعيد الاعتبار لفنٍ عريق طالما تميّزت به مصر. لكن بعد أقل من عقد، أُغلق المتحف بصمت، من دون إعلان أو تفسير رسمي، كأن الدولة طوت الصفحة من دون اكتراث، تاركة هذا السؤال معلقاً: لماذا تنسحب مصر من هذا الميدان، بينما تتقدمه دول أخرى في المنطقة؟
متحف الخط بالإسكندرية، الذي ضمّ مقتنيات نادرة لأبرز فناني الخط المصريين خلال القرن العشرين، أُغلق تحت ذريعة هجوم النمل الأبيض وتلف في البنية التحتية، ولم تُتخذ أيّ خطوات لإعادة فتحه، أو نقل مقتنياته، أو حتّى الاعتراف بقيمته الرمزية، كأنّ وجود المتحف كان مجرد لحظة احتفالية، لا بوصفه مشروعاً ثقافياً مستداماً تتبنّاه مكتبة الإسكندرية، التي بادرت قبل سنوات بإصدار دراسات ومعارض موسّعة حول الخط.
حادثة مماثلة أخرى، تمثلت بالفعالية التي نُظّمت بمناسبة مرور مئة عام على مدرسة خليل آغا، وهي من أقدم مدارس الخط في القاهرة، قبل نحو ثلاث سنوات، إذ لم تحضر الوزارة الاحتفالية، وتولّى التنظيم محبّو الفن من أفراد، في مشهد يلخّص غياباً رسمياً شبه تام.
مع غياب المؤسّسات، تولّى الخطاطون الشباب المهمة بأنفسهم، فنشأت مدارس مستقلة خارج الإطار الرسمي، لتعليم الخط العربي والحفاظ عليه، وأسهمت هذه المدارس في صعود جيل جديد من الخطاطين حصدوا جوائز دولية، لكنّهم لا يزالون يواجهون تحديات تتعلق بالتمويل والاعتراف والدعم. في المقابل، لا تُبدي الجهات الثقافية الرسمية اهتماماً جاداً بهذه المبادرات، كأنها تكتفي بدور المتفرج، فلا يوجد دعم تشريعيّ، ولا تسهيلات لوجستية، ولا شراكات حقيقية مع هذه الجهود.
رغم كل هذا التراجع، فإنّ الخط العربي لم يفقد حضوره بوصفه واحداً من الفنون القليلة التي تجمع بين الدقة التقنية والجمال التعبيري، وتشكّل في الوقت نفسه سجلاً بصرياً للغة العربية نفسها. ولهذا السبب، لا يمكن التعامل معه بوصفه فناً ثانوياً أو متخصّصاً، بل بصفته جسراً حيوياً بين الفن والهوية، أو بين الكلمة والصورة. في دول مثل إيران، تُدرَّس فلسفة الخط ضمن مناهج الفن، بينما تفتح الجامعات التركية مسارات أكاديمية لفناني الخط تتيح لهم الجمع بين الحداثة والتقاليد. أما في مصر، فلا تزال هذه العلاقة بين الخط والتعليم غائبة، كأنّ هذا الفن ينتمي إلى زمن انتهى.
لا توجد أقسام للخط العربي في كليات الفنون الجميلة، كما صرّح الأكاديمي صبري منصور، العميد السابق لكلية الفنون الجميلة لـ"العربي الجديد" ولا تتلقى مدارس الخط أيّ دعم من وزارة التربية والتعليم، بل تقلّص عددها واختفى ذكرها من السياسات الثقافية. وبعد أن كانت حصة الخط العربي جزءاً أساسياً من التعليم الابتدائي في الماضي، اختفت اليوم تماماً، تاركة مدارس الخط تكافح وحدها في وجه الإهمال.
أضف إلى ذلك أنّ الحروفية، باعتبارها تطوراً حداثياً للخط، باتت تشكل تياراً تشكيلياً له حضوره في المعارض والبيناليات الدولية. لكن هذا التيار أيضاً يعاني من عزلة عن المؤسّسات الأكاديمية، ولا يحظى بنقاش نقدي جاد داخل مصر. فالمسافة لا تزال قائمة بين الخطاط التقليدي والفنان الحروفي، رغم أن العالم يتجه إلى دمج التجريب البصري بالتراث الكتابي. وهو ما يطرح تحدياً مضاعفاً حول إمكانية الحفاظ على جوهر الخط العربي، وفي الوقت نفسه إدماجه في التعبيرات البصرية المعاصرة.
كان الخط العربي جزءاً من القوّة الناعمة لمصر منذ القرن التاسع عشر، كما أنشأ الملك فؤاد الأول في ثلاثينيات القرن العشرين مدارس متخصّصة، وتخرّج منها رواد مثل عبد الله زهدي وسيد إبراهيم ومحمد إبراهيم. لكنّ هذا التقليد انكسر تدريجياً.
هل تدرك الدولة المصرية أن الخط العربي ليس مجرد زخرفة تراثية، بل أداة دبلوماسية وثقافية حية؟ وهل يعقل أن تغيب مصر، بكل إرثها، عن المشهد الذي يُعاد فيه الآن تشكيل فنون العالم الإسلامي؟ إنّ إغلاق المتحف وتراجع تعليم الخط لا يبدو أنّهما عارضان، بل هما جزءٌ من غياب رؤية ثقافية شاملة تعترف بأنّ الفنون التقليدية يمكن أن تكون وسيلة لمخاطبة العالم الحديث، وتعزيز الهوية، لا مجرد ماضٍ محفوظ في المخازن.
635 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع