حضارة وادي حلبجة - الجزء الثاني

   

        حضارة وادي حلبجة جزء الثاني

   

              

     

الساعة الثالثة عصرا والوقت يمر سريعا وصلنا ناحية (بيارة) على بعد ستة كيلو متر شمال شرق حلبجة، وتتمتع بنمط عمراني جميل، وبساتينها الغنية وجداولها الصافية، وتكيتها النقشبندية الشهيرة ومدرستها الدينية المهيبة المعروفة، وبجوها المعتدل في أكثر شهور السنة حيث تصبح خلال فصلي الربيع والخريف مأوى للسياح، ويمتد على جانبي الطريق المبلط الى قمة جبالها الحدودية مع إيران، مجموعة من البيوت الصخرية الجميلة التي ينحدر على جانبيها جداول صغيرة من المياه المنحدرة من ينابيع جبال هورمان.

      

توقفنا عند أحد المحلات المشهورة في مجال الصناعات الشعبية والحرف اليدوية، التي يتقنها اهل القرية فالعديد منهم ذكوراً واناثاً صناع ماهرون، في حياكة الافرشة والسجاد والاغطية والشال الهوراماني المستخدم في صناعة الالبسة الرجالية الفاخرة.

              

وبجانبه محل اخر مشهور بصناعة الاحذية الصيفية المعروفة (الكلاش) (الگيوة)، ذات الجودة العالية والتي يقال بانها ابتكرت لأول مرة في قرية (نوتشه) الهورامانية الايرانية، ثم انتقلت الى (طويلة) قرية شبيهة بسابقتها.
هذا فضلاً عن الصناعات اليدوية الرائجة الاخرى، في مجال انتاج الاثاث والحاجات المنـزلية والادوات والوسائل المستخدمة، في مختلف انشطة الحياة الاخرى والمصنوعة غالباً من الاخشاب والجلود والالياف والمعادن وغيرها.

       

أخذني السائق إلى محل يبع طيور القبچ (الحجل) المتميزة بجمال الصوت والشكل والتي تكثر في موطنهم، وولع الكثيرين منهم بصيد واقتناء هذه الطيور وتربيتها وتدجينها في بيوتهم، ويأتي التراث الغنائي والشعري والمجتمعي في كردستان على ذكر طائر القبج كثيرا، ومازال الكثير من الناس يسمون بناتهم باسم "كه وي kawe وهو اسم أنثى القبج باللغة الكردية، كما يطلقون على الذكور من أبنائهم اسم (رباد) وهو ذكر الحجل المميز في لونه وشدوه، وكثيرا ما يشبه العشاق حبيباتهم بهذا الطائر نظرا لجماله، وما أن يرى أحدهم شخصا رشيقا، خفيف الحركة حتى يشبهه بطائر القبج. ومثلما لصوت القبج وصورته دلالات إيجابية عند الإنسان الكردي، فهناك دلالة أخرى للطائر ولكنها سلبية هذه المرة، إذ يرمز القبج في أدبيات المجتمع الكردي إلى الخيانة، فما أن يرى السكان طائر القبج أو يسمعوا شدوه، حتى يرددوا (للأسف إنه الحجل الخائن).
ويعود السبب في ذلك إلى سلوك الطائر عند استخدامه للصيد، إذ يقوم الطائر وهو بداخل القفص في موقع الصيد بجذب أقرانه بصوته للإيقاع بهم، ويحفل التراث الغنائي الكردي بأغان كثيرة عن هذا الطائر التي تأتي مرات كدلالة رمزية للجمال أو للحبيبة وفي غيرها للثوار ولمناطق الأكراد بكردستان.
كانت فعلا رحلة ممتعة في الطبيعة، حيث كانت السماء زرقاء صافية والهواء جبلي عليل وشعاع الشمس يتراقص في المياه المنحدرة من الينابيع الممتدة على جانبي الطريق.

           

اتجهنا نحو طويلة مشابهة في العمران والبناء للقرية السابقة وعلمت من السائق أن قصبة (طويلة) المهد الأصيل لنخبة من الشيوخ النقشبنديين، الذين نبغوا في هذه الديار، حيث شيدوا هناك تكاياتهم ومساجدهم ومدارسهم الدينية، التي استقطبت على الدوام العديد من العلماء وطلابهم المجتهدين القادمين من مختلف أرجاء المنطقة الكردية.
توقفنا قرب جامع ومرقد الشيخ عثمان (في قرية طويلة)، ويعتبر من مساجد العراق الأثرية القديمة، وبني قبل مائتي عام في عهد الدولة العثمانية، وإلى جواره مرقد الشيخ عثمان الملقب بسراج الدين النقشبندي، المولود في قرية طويلة والجامع واسع وكبير وذو تصميم أثري مميز، تعلوه قبتان بيضاويتان وتحيط بمبنى الجامع الأشجار من مختلف جهاته، وتوسطه بركة ماء تسر الناظرين، وكان أصل هذا الجامع مدرسة دينية لتعليم الشريعة الإسلامية.
اتجهنا نحو حلبجة لنزور بعض المناطق قبل حلول الظلام، وقال السائق:

اتمنى ان تأتي مرة ثانية سنأخذك إلى نهر سيروان والمناطق الحدودية الاثرية، ويمكننا صيد السمك.
حلبجة هي مدينة كانت تابعة إداريا إلى السليمانية وحاليا محافظة، هذه المدينة شبه جزيرة بين الماء والجبال. مناخها لطيف وكانت موطناً للصحابي أبو عبيدة بن الجراح أحد القادة المسلمين المعروفين، ونحن نسير في الشارع لا تختلف محلاتها عن سيد صادق او عربت وأكثرها مغلقة بسبب الظلام الذي بدء يغطي المدينة، وهذه عادة تغلق المحلات بعد صلاة العصر.
تابع السائق حديثة: تعد مدينة حلبجة مدينة حضارية، حيث ظهر فيها الكثير من العلماء والشعراء والأدباء والمؤرخين والسياسيين، وفيها كثير من المدارس العلمية، وبسبب ذلك كان لها تأثير فعال في التاريخ المعاصر، وقد تخرج فيها كثير من العلماء والنشطاء والمثقفين، الذين لهم دور بارز في التربية والتعليم، وكان لهم دور بارز في العراق والعالم الإسلامي عموما، من بينهم (احمد مختار جاف) كان مندوب الكرد في البرلمان العراقي، و (المؤرخ توفيق وهبي) وكان وزيراً للاقتصاد في عام 1944.
في حلبجة كثير المواقف البطولية والشجاعة التي قام بها بعض الشخصيات ومازال التاريخ يذكرهم، وأن المرأة الكردية كانت حاضرة دوماً لكل المهمات وتحتل مركزها الطبيعي في المجتمع.

              

السيدة (عادلة خانم الجاف) سيدة كردية واصلها من قبيلة أردلان المشهورة، كانت زوجة زعيم قبيلة الجاف عثمان باشا قائم مقام شهرزور ، وكانت مركز حكمه مدينة حلبجة ، كانت السيدة عادلة جريئة و قوية وحكيمة و كانت تدير حلبجة في غياب زوجها المسافر اغلب الاحيان، وقد قامت ببناء محكمة تديرها بنفسها، وعدة مباني ادارية للمدينة وشجعت على العمران والبناء و العمل بالتجارة، حتى اصبحت مدينتها مركزا مهما ، توفي زوجها عام 1909 فاستلمت من بعده الحكم حتى وفاتها عام 1924، نالت وسام (خان بهدور ) من بريطانيا، عارضت التبعية للعثمانيين، وأمرت بقطع خطوط التلغراف التي مدها العثمانيين الترك لحلبجة، وهددت الموظفون الاتراك بقطعها مرة اخرى اذا اصلحوها.
حدث مرة حيث قام بعض التجار بشراء موسم التبغ من السيدة عادلة، واتفقوا على السعر، وبعدها بفترة جاء تجار آخرون وعرضوا ضعف المبلغ السابق، فبدأ الطمع يغري مستشاريها وأرادوا أن يفسخوا العقد القديم، ولكنها عندما سمعت بالقصة نادت مستشاريها وأنبتهم على نيتهم فسخ العقد.
قائلة: ألا تخجلون من أنفسكم وأنتم رجال، وعلى الرجل الالتزام بوعده وكلمته، فاعتذروا منها ورفضوا العقد الجديد.
وتابع السائق حديثة قائلا:

عشيرة الجاف واحدة من كبريات العشائر الكردية، واكثرها انتشارا التي كانت من العشائر الرحل وسكنت منطقة شهزور.
واستمر بالحديث:

حلبجة كانت موطنا لاحد قادة الحروب الاسلامية المعروفين، وهو الصحابي ابو عبيدة الجراح، ولعل تسمية احدى قصبات حلبجة وهي (عبابيلي)، نسبة الى القائد ووفاة القائد الجراح كانت سنة (18) هجرية وقبره في القرية مما يدل على قدم واهمية مدينة حلبجة في التاريخ الاسلامي.
وقد عرفت حلبجة بمدينة الشعراء حيث ظهر فيها عدد من الشعراء الكبار أمثال أحمد مختار الجاف، وعبد الله بيك كوران، ومولوي، وقانع.
وصلنا إلى الجامع الكبير الواقع في مدينة حلبجة القديمة المعروف باسم مسجد المفتي، ويعتبر من مساجد العراق التراثية القديمة، وشيد وبني من قبل عائلة المفتي في عام 1796م.
دخلنا إلى الجامع وكانت وقت صلاة المغرب وممتلئ بالمصلين، ومن ملحقات المسجد مدرسة اسلامية، وقاعات دراسة خاصة للمدرسة الاسلامية الثانوية للبنين والبنات، ومقر لجنة الفتوى الشرعية في حلبجة، ولهُ عدة أسماء منها (مسجد الجامعة ومسجد المفتي والجامع الكبير)، والبناء القديم للجامع اندثر ولم يبقى لهُ أثر حيث شمله الاندثار على مر العصور، لأنهُ كان مبنى مشيد من الطين والقصب، ثم جدد بناؤه بالحجر والطابوق، ويحتوي الجامع على مصلى كبير يتسع لأكثر من آلف مصل، ويتوسط الحرم محراب ومنبر ويعلو فوق الحرم مصلى النساء، وفيهِ مكتبة تحوي على الكثير من المصادر والكتب القديمة والنادرة، وتوجد فيه منارة مئذنة تعلو المبنى اسطوانية الشكل ذات حوض واحد.
وتقام في الجامع حالياً صلاة الجمعة وصلاة العيدين والصلوات الخمس المفروضة ، بالإضافة إلى دورات لتعليم القرآن للطلاب في العطلة.
استأذن مني السائق واشترك بالصلاة مع المصلين، انتظرته خارج الجامع، أنهى صلاته بعدها اخذني إلى مسجد خانم الذي يقع في منطقة المفتي، ويعتبر من مساجد العراق التراثية القديمة، وتم بناؤه من قبل (خانم خاتون) زوجة (عثمان باشا) حاكم المنطقة في عام 1903 م، وفيه مصلى واسع يتسع لأكثر من 500 مصل، وتعلو مبنى المسجد منارة مئذنة حديثة مخروطية الشكل ذات حوض واحد.
بعدها توجهنا إلى جامع باشا هو من الجوامع الأثرية القديمة، ويقع في منطقة المفتي وقريب لجامع خانم، بني قبل حوالي 350 عام في عهد الدولة العثمانية من قبل محمد عثمان باشا، ويحتوي حرم الجامع على مصلى واسع يتسع لأكثر من ألفي مصل، والمبنى يتكون من طابقين، وتعلو المبنى قبة كبيرة خضراء اللون، والجامع فيهِ مدرسة دينية.
هنالك أكثر من قول في أصل تسمية مدينة حلبجة، قيل إنها تصغير لكلمة حلب حيث كان أحد الولاة العثمانيين والياً على حلب ثم ولي على مدينة شهرزور، ثم ولي على مدينة حلبجة التي أُعجب بها وقرر تسميتها بحلبجة تصغيراً لحلب التي هي ولايته السابقة، ولكن سبب هذا التسمية ضعيف حيث أن صيغة التصغير غير صحيحة لغوياً لا في اللغة العربية ولا في اللغة الكردية، وأيضاً أن الوالي غير معروف ولم يذكر اسمه أو تاريخ ولايته، قيل أيضاً أن سبب تسمية مدينة حلبجة يرجع إلى فاكهة الأجاص حيث أن ترجمتها باللغة الكردية هي (هه لوجه) وهي فاكهة تشتهر بها مدينة حلبجة، ولكن هذا القول أيضاً ضعيف حيث أن المدينة تشتهر بعدة أنواع من الفواكه. والقول الأقرب للتصديق هو أن سبب تسمية مدينة حلبجة مأخوذ من الجملة الفارسية (عجب جا) والتي تعني مكان ملفت للنظر. فهذه الجملة الفارسية خرجت من أحد القادة الفرس عندما رأى جمال مدينة حلبجة.
واثناء الحرب العراقية الايرانية تعرضت لهجوم كيماوي في 16 مارس 1988 وكانت أسوأ مذبحة تشهدها البلاد، شوهدت الجثث ملقاة في كل مكان حيث قتل خمسة آلاف كردي معظمهم من النساء والأطفال بغازات كيميائية.
في حلبجة قصة (حب) طرفاها (فتاة) و(صخرة) القصة، تدور حول فتاة من سكان حلبجة، المدينة الكردية المنكوبة بالهجوم الكيماوي، فتاة في العقد الثالث من عمرها اسمها (روشنا) نشأت بينها و(صخرة) تقع مقابل منزلها في حي المعلمين، علاقة (حب وسعادة وطمأنينة) لا أحد يعرف لماذا، وكيف، غير ان اهلها وسكان الحي يجمعون على ان ثمة سرا بينهما.
روشنا شابة بعمر 32 عاما، اعتادت منذ سنوات ان تخرج من منزلها، وتجلس على صخرة كبيرة في الحي مقابل منزلها. تعاني من مرض عقلي، مصدره سقوطها من جبل في العام 1988، عندما كانت طفلة وهي ترافق اسرتها في اثناء الهروب الى إيران، بعد القصف الكيمياوي الذي تعرضت له مدينة حلبجة، وهو ما أفقدها قدراتها العقلية، وبعد عودة عائلتها، وفي السنوات العشر الاخيرة، اخذت تظهر تعلقا بالصخرة المقابلة لمنزلهم. اقرباؤها يقولون إن الصخرة تلك تجلب الطمأنينة لابنتهم. بلدية حلبجة، تعاطفت مع قصة روشنا، وقررت اقامة حديقة عامة عند الصخرة، وأطلقت اسم الفتاة عليها. وتم افتتاح الحديقة، وهو اليوم الذي صادف الذكرى السنوية ليوم المرأة العالمي عام 2014

   

تشتهر حلبجة بإنتاج الرمان وقرية سازان مشهورة بزراعته وإنتاج اجود انواع الرمان وتقع بالقرب من مدينة حلبجة وبدأت بتصدير الرمان بطرق وتعليب حديثة إلى بعض البلدان القريبة.
للموضوع تكملة في المقالة القادمة

للراغبين بالأطلاع على الحلقة السابقة:

https://algardenia.com/2015-09-17-21-42-52/35704-2018-06-01-19-59-40.html

  

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

708 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع