ذكريات من ملفات ضابط شرطة: قضايا الإنتحارمن ملفات عميد الشرطة/ عدنان محيي الدين
مقدمة:
لا شك في لأن ملفات ضباط الشرطة القدماء تحوي العديد من الذكريات والمعلومات عن قضايا مختلفة تعكس واقع المجتمع، وتكشف خفايا الظواهر الاجتماعية، وغرائب القضايا التحقيقية التي مرت عليهم من خلال مسيرتهم الوظيفية. والسيد العميد عدنان محيي الدين ضابط شرطة متمرس ومخضرم عاش العهدين الملكي والجمهوري، واشتغل في مختلف محافظات العراق، وهو من عائلة شرطية مشهود لها فوالده المرحوم محيي الدين عبدالرحمن كان احد ابرز ضباط الشرطة في العهد الملكي واشتغل فترة طويلة معاونا لشرطة السراي، وهو صاحب القصة الشهير في التحقيق مع من سرق سيف الملك فيصل الاول بداية الثلاثينات. وهي القصة التي نشرتها (مجلة الگاردينيا) وتلاقفتها عنها صحف عراقية عديدة، منها من اشار للمصدر ومنها من (غلّس) ولم يشير للمصدر كما تقتضي الامانة الصحفية!!.
هذه الحلقة يدون فيها العميد عدنان محيي الدين محطات مر بها في مسيرته المسلكية الشرطية التحقيقية، ويركز اليوم عن ابرز قضايا الانتحار التي تضمنتها ملفات الشرطة.
الگاردينيا
الأنتحــــــار:
الانتحار هو من ابرز الظواهر الاجتماعية التي تعاني منها معظم المجتمعات سواء اكانت غنية ام فقيرة وبانتشار متصاعد، مما يدل على ان تفاقم هذه الظاهرة جاء نتيجة لتزيد متطلبات الحياة وتعقيدها مع ضمور القيم الاجتماعية والثقافة الدينية في الكثير من المجتمعات المعاصر فتعددت اسبابه واختلفت اساليب ضحايا الانتحار، إذ تختلف طريقة الانتحار باختلاف الأساليب وبحسب البلد أيضا، كما ترتبط جزئيًا بمدى توافر الوسائل، كالشنق أو التسمم أو القفز من مكان مرتفع ...الخ، لذا تباينت الآراء حول الدافع نحو الانتحار.. فهل يعكس شجاعة الشخص المنتحر أم جبنه وانعكاس لفشله وعدم الحاجة لاستمرار حياته.
يرى الخبراء في الشأن الاجتماعي إن هناك ما بين 800.000 إلى مليون شخص تقريبًا يموتون كل عام عن طريق الانتحار، مما يجعله عاشر الأسباب الرئيسية للوفاة في العالم، والمعدلات أعلى في الرجال عنه في النساء، حيث أن الذكور أكثر عرضة لقتل أنفسهم من الإناث بمقدار 3-4 مرات، فهناك ما يقدر بنحو من 10 إلى 20 مليون محاولة انتحار فاشلة كل عام، وهذه المحاولات أكثر شيوعًا بين الشباب والإناث، والانتحار حاليا ثاني أسباب الموت بين الفئة العمرية التي تتراوح بين 15 و29 عاما، وأن 75% من حالات الانتحار تسجل ما بين متوسطي الدخل وسكان الدول الفقيرة. بحسب منظمة الصحة العالمية.
ويوجد عدة أسباب للانتحار أهمها ضعف الوازع الديني لدى الإنسان، الجهل والجزع وعدم الصبر، الانفتاح الإعلامي والثقافي غير المنضبط الذي نعيشه في مجتمعنا المعاصر، كثرة المشكلات الأسرية، التأثر الشديد ولاسيما عند صغار السن ومحدودي الثقافة بما تبثه القنوات الفضائية من أفكار وموضوعات تحث على الانتحار بصورة مباشرة، بالإضافة إلى اليأس، والذي كثيرًا ما يُعزى إلى اضطراب نفسي مثل الاكتئاب أو الهوس الاكتئابي أو الفصام أو إدمان الكحول أو تعاطي المخدرات، وغالبًا ما تلعب عوامل الإجهاد مثل الصعوبات المالية أو المشكلات في العلاقات الشخصية دوراً في ذلك، كذلك بسبب البطالة والتقشف وانتشار الأسلحة النارية والتعرض للمضايقات بأماكن العمل.
عرض لبعض قضايا الانتحار:
انتحار العقيد حقي علي – مدير شرطة الديوانية
في عام 1926 كان المرحوم حقي علي بمنصب (مدير شرطة الديوانية) في زمن كان مدراء الشرطة في العراق يُعدوّن بالاصابع، وكانت لهم مهابة ووقار، وخاصة ببزتهم العسكرية، طابت الحياة للعقيد علي في هذه البلدة وكانت له علاقات طيبة مع الموظفين والاهالي. حياة اجتماعية بسيطة طيبة، وطبيعية. وذات يوم استدعي الى بغداد بناء على طلب من مدير الشرطة العام وبعد مواجهته للمدير العام اخبره بصدور امر بنقله من الديوانية الى منصب مدير شرطة البادية الجنوبية ومقرها في صحراء (نقرة السلمان)، خلفاً للميجر كلوب (ابو حنيك) الانكليزي، الذي انتهى عقده مع الشرطة العراقية، ولم يرغب في الاستمرار في وظيفة الشرطة وعاد الى الديوانية في احباط نفسي شديد. وحزم حقيبة السفر وركب السيارة التي سيتوجه بها الى مقر وظيفته ومعه بعض افراد الشرطة. وحينما ابتعدت السيارة التي سيتوجه بها الى مقر عمله الجديد عن طريق السماوة الصحراوي طريق موحش يبعد عن السماوة مسافة 110 كم حتى يصل الى مقره في نقرة السلمان. وفي الطريق طلب من السائق التوقف وترجل من سيارته وسار بضع خطوات ثم اخرج مسدسه ووضعه على راسه واطلق رصاصة وقع بعدها على الارض جثة هامدة عسى الله ان يتوب عنه انه هو التواب الرحيم.
الجنرال كلوب باشا (ابو حنيك)
انتحار مدير شرطة كربلاء حسين المللي:
وفي الاربعينيات قام مدير شرطة كربلاء المرحوم حسين المللي بالانتحار عن طريق قطع وريد يده ولكنه اسعف ونجا من الموت باعجوبة: ولكنه عاد مرة اخرة للانتحار وبالاسلوب ذاته ولفظ انفاسه الاخيرة يرحمه الله، ويبدو أنه كان تحت ضغوط نفسية شديدة أرهقت أعصابه.
مقر مديرية شرطة بغداد المبنى القديم
انتحار مدير شرطة بغداد 1983:
وفي عام 1983 انتحر مدير شرطة بغداد أثناء توقيفه في سجن التسفيرات القريب من مبنى وزارة الداخلية، عن طريق شنق نفسه بشباك الغرفة المحجوز فيها بالموقف، وهو داخل ردهة السجن، وكان سبب سجنه التاخير في تنفيذ امر صادر من رئيس الجمهورية والذي امر باعتقاله وارساله الى سجن التسفيرات، حيث شعر بالغبن والظلم وهو لم يكن مسؤولا عن التقصير في عدم تنفيذ امر الرئيس بل المسؤول كان مدير شرطة السكك وكانت شرطة السكك مديرية اختصاصية لا تتبع شرطة محافظة بغداد.
إمرأة تذبح طفليها وتحاول الانتحار في البصرة:
وقد تكون بعض الامراض النفسية سببا في قيام المريض بارتكاب الجريمة ففي ميناء ام قصر الذي يبعد عن البصرة مسافة 60 كم وفي احدى دور المجمع السكني لموظفي الميناء قامت امراة بذبح طفليها (طفلة بعمر 6 سنوات وطفل بعمر 4 سنوات) بواسطة سكين المطبخ ثم شرعت في الانتحار حيث وضعت السكين على رقبتها وحينما اندفع الدم سريعا وقعت على الارض وزحفت نحو الباب الخارجي للدار، والقت بنفسها على الشارع وتم اسعافها من قبل المارة ونجت من الموت. وبعد ان تماثلت للشفاء احضرت امام محكمة جنايات البصرة وحين اطلاع المحكمة على تقرير المستشفى تبين انها مصابة بمرض نفسي (الكآبة الحاد) وهو سبب قيامها بارتكاب جريمتها فافرجت المحكمة عنها.
الغيرة الحادة سبب للانتحار:
كما ان (الغيرة) الشديدة لدى الرجال والنساء قد تكون دافعاً للإنتحار، والغيرة هي غريزة طبيعية في طبع الانسان قد تؤدي الى ارتكاب الجرائم وهي عند النساء اشد واقوى ففي سنة 1975 وقعت حادثة مروعة في محافظة البصرة، حيث قامت شابة متزوجة حديثا بقتل زوجها وطفلها البالغ من العمر اربعة اشهر ثم انتحرت.. وينتيجة تحقيقات الشرطة تبين ان الفتاة كانت طالبة في جامعة البصرة وتزوجت من استاذها في الجامعه، ويبدو ان الزوج كان اجتماعيا ويحب الاختلاط مع طلابه وطالباته في اوقات الفرص، وذات يوم شاهدته وسط مجموعة من طالبات الجامعة، وعند عودتهما للبيت طالبته ان يبتعد عن الفتيات، ولكنه لم ياخذ طلبها على محمل الجد، في حين انها كانت تغلي من الغيرة عليه، من الطالبات. ومرت الايام والاستاذ على نفس طبعه ولم يسمع شكوى زوجته الطالبة، وهي تزداد يوما بعد يوم غيرة على زوجها وذات يوم نهضت من الفراش في وقت مبكر والزوج نائم فاخرجت مسدس كان الزوج يخفيه في دولاب الملابس، وتوجهت نحو منام زوجها فاطلقت عليه الرصاص فصرع في الحال، ثم قامت باطلاق رصاصة على طفلها فمات لساعته بعدها اطلقت رصاصة على راسها وسقطت على الارض جثة هامدة.
بعضهم يعيش حياة انتحارية:
وهناك فئة في المجتمع لا تنتحر مباشرة وانما تحيا حياة انتحارية قد تطول وقد تقصر، فقد عرفتُ خياطاً للملابس الرجالية شاباً وسيماً بدأ يحتسي الخمر في محله ليلا، ثم اخذ يحتسيه نهاراً، وبعدها صار مدمنا على الشراب، وساءت حالته وطرده اهله من البيت فالتجأ الى المستشفى للعلاج من الادمان.. ولكن بعد فترة تم طرده من المستشفى. وفي ذات يوم كنت مارا في شارع ابي نؤاس رايت رجلا مستلقيا قرب ساقية من الماء، برتدي ملابس رثة والطين يغطي جسمه، وبعد ان اقتربت منه تبين انه صديقي الخياط، وهو في حالة يرثى لها كان يهذي ورائحة الخمر تفوح من فمه فسثيته الماء واشتريت له بعض الطعام وانصرفت عنه.
وذات يوم وأنا أسير في محلة الفضل في بغداد شاهدت رجلاً مستلقياً على كوم من النفايات وهو في حالة مزرية، وحين اقتربت منه وتفرست في وجهه عرفته كان زميلاً لي في الدراسة (اسمه ع ف.) وكان آخر لقاء لي معه عندما كان (بمنصب ....)، ويبدو أنه أدمن شرب الخمر فقد كانت رائحة الخمر تفوح من فمه، ناديت عليه ففتح عينيه ونظر نحوي وتمتم بصوت خافت (عدنان؟؟؟؟) وأومأ لي باشارة من يده فعرفت أنه يطلب (سيكارة) فاشتريت له علبة سيكاير من محل قريب ثم انصرفت عنه.. وهو يعيش حالة انتحارية..أودت به لاحقاً لنهاية مؤسفة.
العميد/ عدنان محيي الدين
(1) السير جون باغوت غلوب Sir John Bagot Glubb) المعروف باسم غلوب باشا ولقبه أبو حنيك (1897 – 1986) ضابط بريطاني تم نقله إلى العراق عام 1920 حيث كان العراق تحت الانتداب البريطاني في ذلك الوقت. في العراق عمل على بناء علاقات مع القبائل حتى حدود سيطرة بني سعود ولعب دورا مهما في شكل العلاقات البريطانية - العربية في تلك المنطقة. أسس قوات البادية وهي قوة مكونة من البدو بشكل حصري، وذلك للسيطرة على الأزمة التي أصابت
(2)جنوب البلاد. وفي سنوات قليلة استطاع أن يوقف الغزوات المتبادلة بين القبائل البدوية، وبسرعة أصبحت الأزمة شيئاً من التاريخ.
447 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع