"ما بين الماضي والمستقبل، القطارات في العراق شريان الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياحية"

           

"ما بين الماضي والمستقبل، القطارات في العراق شريان الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياحية"

    

السكك الحديدية اختراع مثل احدى عوامل الحضارة وامل استمرارها، وواجهة اجتماعية واقتصادية وسياحية، فهي وسيلة الانتقال الارضي ومشروع تنموي..، هذا الاختراع غيّر عادات الناس فى العالم؛ وقدم مشاهد جديدة فى مخيلتهم؛ حكايات بشر يحلمون بالوصول؛ التعرف من أجل التسلية وتمضية وقت السفر بسهولة، التساؤل من أجل معرفة المزيد عن المدينة او البلد المرتقب الوصول إليه، يرجع اقدم اشكال السكك الحديدية الى حوالي 600 عام قبل الميلاد وذلك حين انشأ الاغريق الاخاديد في الطرق الجيرية المعبدة ليتمكنوا من تسيير المركبات ذات العجلات عليها والتي بدورها سهلت عملية نقل القوارب، ولكن عندما سقطت اليونان على يد روما 146 قبل الميلاد هدمت هذه السكك الحديدية.

             

نشأت فكرة استخدام الجر البخاري لنقل البضائع والركاب في بريطانيا على يد جورج ستيفنسون عام 1821 الذي قام ببناء عدة محركات تعمل على البخار في منجم كلينجورت فقد استخدم طريقة الجر بالبخار بدلا من استخدام الاحصنة.

         

أن أول قطار في العالم سيّرته إنجلترا في القرن التاسع عشر، فإنه ظل يستخدم في نقل البضائع لسنوات طوال، وكان عامة الناس يخشونه كوسيلة انتقال، وعاش الأهالى شهوراً طويلةً خارج بيوتهم، حتى اقتنعوا بأن القطار لم يكن خلقاً شيطانياً، حتى تم تطويره ليكون صالحاً لنقل البشر،

          

وبمرور الزمن تحول القطار من رمز لقوة مسرفة في بطشها إلى قطار للحب واللقاء والفراق والتوديع والحنين، وتحول رمزاً لقيمة إنسانية يمكنها أن تنقل جرحى الحرب فتنقذهم من الموت، فكانت السكة الحديدية شاهدة على دموع الفراق وأمنيات العودة وعناق اللقاء، وجسدت السينما تلك المشاعر ليصبح رصيف المحطة وعربات القطار مناظرلأجمل لقطات الحب والرومانسية والوداع واللقاء عبر تاريخ الشاشة الفضية، و إلهامًا لبعض الفنانين الكبار، وأصبحت الآن محطاته وأروقته، بل عرباته فى العديد من البلدان معرضًا مفتوحًا لروائع اللوحات، ففى فرنسا، قامت هيئة السكك الحديدية بتحويل عربات قطاراتها إلى لوحات فنية جذابة بتقنية الرسم ثلاثى الأبعاد، حيث زينت كذلك أسقف تلك العربات ليصبح راكب القطار، وكأنه فى معرض فنى متنقل، فاللوحات المختارة مستوحاة من قصر فرساى الشهير بباريس الذى كان يعد محل إقامة ملوك فرنسا وغير مصرح للجمهور بدخوله.

     

فى فرنسا أيضًا نجد محطة قطار «أورساي» والتى تحولت إلى متحف متخصص فى أعمال رسامى مذهب الانطباعية. أما محطة «سان لازار» فقد ألهمت الرسام الفرنسى كلود مونيه فى القرن التاسع عشر حيث رسمها ١٢ مرة، حيث تعد واحدة من سلسلة لوحات تناول فيها الفنان القطارات فى فرنسا، منها لوحات بها الأشخاص غير محددى الملامح وحلقات الدخان الكثيف تغطى اللوحة ومعالمها، وأخرى محددة المعالم، واختار مونيه وفقًا للنقاد القطار موضوعًا للوحاته نظرًا لأهميته فى تلك الفترة كوسيلة يستخدمها السكان وتسهل عليهم أوقاتهم،

      

في موسكو تزينت محطة قطارات «بارك كولتوري» (حديقة الثقافة) فى بصور لوحات الرسامين السوفييت والروس من القرن الـ 20، حيث انتشرت لوحات الفنانين فى بهو المحطة وعلى جدران السلالم المتحركة، وفى موسكو أيضًا تم عرض لوحات لكبار الفنانين فى صالة فنية فى مقصورة أحد قطارات الأنفاق فى المدينة، من أمثال كارل بريولوف ويوهان كلاين وماتياس لورى.

                       

لعب دورًا كبيرًا فى حياة الأدباء والروائيين والشعراء والفلاسفة الذين لا ينكرون فضل القطار عليهم وفى تطورهم الأدبي، فقد أوحى لبعضهم بحكايات وقصص أعمالهم الأدبية، وضع الكثير من القصص الأدبية والروايات والمسرحيات عن عالم القطار دونها كثير منهم فى أعماله، بل كانت محور العمل كله أحيانًا، ولأن لكل منا حكاية لا بد أن تروى مع القطار، كما حدث مع د. هـ. لورانس الذي قابل معشوقته فريدة ويكلي في القطار المتجه إلى نوتنجهام، وكذلك سلفادور دالي الذي قضي أكثر أوقاته مع جالا حبيبته في القطار وكتب خلال ذلك أعذب رسائل الحب، وكتبت آجاثا كريستي قصتها الشهيرة "جريمة في قطار الشرق"، أخذ القطار لدى كبلنغ وفورستر، كما في روايتي الفرنسي جول فيرن "حول العالم في ثمانين يومًا" وميشال ستروغوف "دلالتين": فهو موضوع مباشر من ناحية كونه أداة انتقال وسفر،

    

وأمضى غاندي ليلة شتوية باردة في غرفة الانتظار الصغيرة من المحطة دون تدفئة بعد ان انزلوه من القطار بسبب التمييز العنصري، وكتب غاندي في سيرة حياته "قصة تجاربي مع الحقيقة": "لم أجرؤ على طلب معطفي من الحقيبة خشية أن أتعرض للإهانة مرة أخرى، فجلست أرتجف من البرد، كما كان للقطار تأثير كبير فى حياة الكاتب الألمانى الشهير فرانز كافكا فيقول إن العديد من قصصه ورواياته قد ولدت أفكارها لديه إما داخل القطار، وإما بإيحاء منه،

     

و تولستوي في روايته "آنا كارنينا"، وذاك إيميل زولا في روايته "الحيوان البشري"، ومعهما الشاعر الرومانسي أخيم فون أرنيم يواجهونا بالقطار في هذه الأعمال كمحرك للتطورات الاجتماعية والنفسية وعلى سبيل المثال يقول اخيم فون في رباعيته "طرق حديدية" كأول قصيدة كتبت في الأدب العالمي عن القطار، اذا القطار ثقافة جديدة فرضت نفسها على مختلف أنواع الفنون، سينما، موسيقى، مسرحًا، فنًا تشكيليًا، أدبًا.
في لغتنا العربية تسمى الإبل التي تسير في طابور طويل بالقِطاروجمعه قطر أو قطرات بضم القاف والطاء، والجمل الذي يقود هذا القطار يسمى بالقَاطِرة وجمعها قَاطِرا، ولهذا لمّا أنشئت السكك الحديدية في مصر في القرن التاسع عشر اختار علماء اللغة العربية كلمة (قطار) لوصف وتعريب اسم تلك الوسيلة من المواصلات، وكلمة (قاطرة) لتعريب اسم العربة الجرار.

         

مصر أقدم دولة عربية تستخدم السكك الحديدية، منذ عهد الخديوي عباس الأول في عام 1851م، حيث تم توقيع عقد بين البريطاني روبرت ستيفنسون، نجل المهندس "ستيفنسون" مع الخديوي، وشهد عام 1854 تسيير أول قاطرة على أول خط حديدي في مصر بين القاهرة ومدينة كفر الزيات في منطقة الدلتا، واكتمل الخط الحديدي الأول بين القاهرة والإسكندرية عام 1856،

    

وبعد عامين تم افتتاح الخط الثاني بين القاهرة والسويس ، ثم بدأ إنشاء خط القاهرة بورسعيد بعد عامين آخرين، ولم يشرع في إنشاء خط حديدي في صعيد مصر إلا في عام 1887.

      

تبلورت فكرة ادخال أولى مشاريع سكك الحديد الى العراق حينما دعا والي بغداد المصلح مدحت باشا سنة 1869 الى تأسيس شركة أهلية يساهم فيها عدد من الموسرين، وكلهم من البغداديين لتقوم بإنشاء مشروع جديد لم تكن بغداد، بل العراق، تعرفه من قبل، يتمثل بمد سكة حديد بين الكرخ والكاظمية تسير عليه عربات للركاب، وعرف في يومها باسم الترامواي وسماه البغداديون الكاري، وكان هذا المشروع على تواضعه يمثل تجربة مهمة من أكثر من وجه، أولها أنها علمت العراقيين قيمة اختزال الوقت عن طريق تحسين طرق المواصلات، وثانيها أنها كانت التجربة الاولى في مجال الاستثمار عن طريق إنشاء شركات خاصة ذات نفع عام كالتي تولت إنشاء وادارة خط الترامواي المذكور، وثالثها أنها نجحت في الاستفادة من تجارب دول أخرى تقدمت في هذا المجال، وذلك في طريقة إدارة المشروع بتفاصيله العديدة، عرباته، محطاته، ومظهره، وتذاكره، وجُباته، وموظفيه، وغير ذلك، وانشأ فيما بعد خط مشابه يربط مدينة النجف الاشرف بمدينة الكوفة، في ذلك الحين إذ لم تعرف البلاد وسيلة برية للانتقال، حتى ذلك الوقت غير ركوب الدواب، بل حتى العربة التي تجرها الدواب لم تكن مستعملة إلا في نطاق محدود، في حينها لم يفكر القائمون على المشروع باستعمال الماكنة البخارية لجر مركبات الترامواي بسبب الكلفة العالية، مفضلين استعمال الخيل للقيام بهذه المهمة، وبعد نجاح الترامواي في بغداد، قدم بعض من التجار وهم السادة عبد الرحمن سليم الباججي واحمد سليم الباججي ومحمود سليم ومصطفى كبة وحسن كبة وحسن السيد يحي ويوسف عزرا قوجي ومناحيم سلمان دانيل لتوسيع استخدامه من بغداد الى كربلاء، قد وافقت الحكومة العثمانية على طلبهم، وجرى توقيع الامتياز في عام 1889 م، الا ان المشروع لم يكتب له النجاح، حينما اتفقت الحكومة العثمانية مع الحكومة الألمانية على إنشاء خط حديد بين يخترق العراق طولا حتى يصل إلى البصرة جنوباً، وكان مقرراً ان يمر هذا الخط بكربلاء، توقف العمل قبل أن تمتد السكة الى جنوب العراق، وذلك بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى.

     

منح السلطان عبد الحميد الثاني إحدى الشركات الألمانية إمتيازا لإنشاء سكة حديد تمتد من برلين إلى بغداد سنة 1899وإمتيازاً آخر لشركة بريطانية لمد السكة من البصرة الى الكويت، يقول السلطان عبد الحميد الثاني الذي حكم مدة 33 عامًا، معلقًا على السكك الحديدية: "أسرعت في إنشاء السكك الحديدية في اﻷناضول بكل قوتي، هدف هذا الطريق هو ربط بلاد ما بين النهرين وبغداد باﻷناضول، والوصول إلى خليج البصرة، وقد نجح هذا في ظل مساعدة الألمان، فإن أهمية السكك الحديدية ليست فقط اقتصادية و إنما هي أيضا سياسية".
انجز قطاع صغير من المشروع والممتد بين العراق وجبال طوروس خلال عام 1911، توقف العمل بالمشروع بسبب عدم استقرار الظروف السياسية والاقتصادية التي سادت العالم بأكمله في تلك الفترة والتي أدت الى اندلاع الحرب العالمية الاولى، كانت البدايات الفعلية المتمثلة بإنشاء خطوط السكك العراقية في السابع والعشرين من تموز عام 1912 عندما احتفل الالمان بوضع حجر الاساس لمشروع سكة حديد في جانب الكرخ من بغداد و انجز قسم منه بين بغداد وسميكة ( الاسحاقي حاليا )، واصبح العراق ثاني بلد عربي بعد مصر يستخدم القطارات في عام 1914، وبهذ فان القطار الذي يسميه العراقيون في حينه الشمندفر وهي كلمة فرنسية، يعتبر من أول وسائط النقل الآلية التي دخلت اليه، مفتتحاً عصراً جديداً لقطاع النقل، فكان إنشاء السكك الحديدية في العراق عاملاً هاماً في تطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية فيه، تم افتتاح الخط الأول من بغداد – سامراء، وكان طول المسارات 123 كم وتم تسيير اول قطار على ذلك الخط في حزيران عام 1914، وفي عام 1916 قامت القوات العسكرية البريطانية بإنشاء عدة خطوط للسكك الحديد في مناطق البصرة والزبير والمعسكرات البريطانية في البصرة.

           

يمثل العراق نقطة عبور عالمية للسكك الحديدية مما يجعله يمتلك شبكة سكك حديد تربط البلاد بغرب ووسط أوروبا إضافة إلى الخليج العربي
ان مشروع خط سكك حديد بغداد - برلين كان يمثل نقطة عبور عالمية للسكك الحديدية مما يجعل العراق يمتلك شبكة سكك حديد تربط البلاد بغرب ووسط أوروبا إضافة إلى الخليج العربي، ولهذا نظرت بريطانيا إلى هذا المشروع الذي كانت الحكومة الألمانية تقف وراءه بقوة كحلقة في مسلسل ألمانيا وتركيا وروسيا لكسر سيطرة بريطانيا على حركة التجارة في بحار العالم، وقد كان مشروع الخط الحديدي طموحا للغاية حيث يربط العاصمة الألمانية برلين بموانئ العراق على الخليج العربي ليصبح طريق ألمانيا إلى التجارة الآسيوية مفتوحا، وقد بدأ العمل في هذا المشروع حقوق استكشاف وإنتاج البترول في بلاد الرافدين الذي تمر به سكة حديد برلين بغداد وعلى مساحة تمتد 20 كيلومترا على جانبي سكة الحديد، كان ذلك سيكسر تبعية ألمانيا وهي القوة الاقتصادية الناشئة في أوروبا لنفط شركة روكفيلر ستاندارد اويل الأميركية، لم تكن بريطانيا منتجا كبيرا لنفط الخليج في إيران لكنها كانت مصرة على حرمان منافسيها وخاصة ألمانيا من الثروة الكامنة هناك، وبالرغم من المحاولات الالمانية لإشراك بعض الشركات الاوروبية المرتبطة بعضها مع بريطانيا أو فرنسا للاستثمار المشترك مع مشروع سكك حديد بغداد / برلين، فإن القلق البريطاني كان أقوى تاريخيا من الصفقات المؤقتة، بل إن روسيا القيصرية دخلت اللعبة بالقول إن خط سكك الحديد الذي يمر بالموصل، سيهدد ممتلكاتها في القوقاز ويؤثر على حدودها الأرمنية مع السلطنة، وسارعت الى مطالبة السلطنة بتعويضات مباشرة، كان مؤتمر برلين سابقا قد أقرها، واضطرت السلطنة الى تغيير مرور الخط الى طريق قونية، وكانت فرنسا تنظر الى المشروع من خلال منظار آخر يختلف نوعيا عن العدسات البريطانية، واعتقدت أن تجارتها الواسعة مع الامبراطورية العثمانية وتحديدا في بلاد الشام قد تجلب لها الأرباح العالمية في استثماراتها المصرفية الجديدة، وكانت تهتم بخطوط التجارة التي تربط الموانئ البحرية العثمانية ولا سيما أزمير والاسكندرونة مع خط حلب الموصل الحيوي، وقادت المعركة البريطانية شركاتُ الملاحة والخطوط التجارية التي تربط الشمال الاوروبي مع الهند عبر الموصل والبصرة، وعندما قامت الحرب العالمية الأولى لم يكتب لهذا المشروع الطموح أن يكتمل وإن كانت الأجزاء التي أقيمت منه داخل العراق دخلت حيز التشغيل وأصبحت نواة لشبكة السكك الحديدية في العراق،

     

تم تسيير اول قطار بين بغداد والبصرة عام 1920 وبين بغداد وكركوك عام 1925 وبين بغداد والموصل عام 1940 وبين العراق واسطنبول في 15 /7 /1940.
تشكلت اول ادارة للسكك في العراق في ايلول عام 1916 باشراف القوات العسكرية البريطانية، في حين تشكل اول مجلس ادارة للسكك الحديد في تموز عام 1936 وتألف من وزير الاقتصاد ورئيس اركان الجيش ومدير البلديات العام ومدير البناء والملاحة والسكك ومستشار وزارة المالية ومدير الحركات ومدير التجارة، في عام 1952 صدر قانون السكك الحديد المرقم 24 وفي عام 1965 صدر قانون سكك حديد الجمهورية العراقية المرقم 33 كما صدر قانون المؤسسة العامة للسكك الحديد العراقية في 20 /5 /1987، صُمّمت محطة قطارات بغداد الرئيسية، التي تعرف بـ"جوهرة" شبكة السكك الحديدية في العراق، على يد مهندسين معماريين بريطانيين، صُمّمت محطة قطارات بغداد الرئيسية، التي تعرف بـ"جوهرة" شبكة السكك الحديدية في العراق، على يد مهندسين معماريين بريطانيين، واكتمل تشييدها في عام 1952، وفي عام 1950 شهد هذا العام والاعوام التي تليه تطور قطاع السكك بفضل مجلس الاعمار.

           

شهد عقد السبعينات التطور والازدهار خطتها لتطوير مرفق السكك الحديدية علي رفع كفاءة البنية الأساسية لشبكة السكك الحديدية، والتي تتمثل في تجديد وصيانة خطوط السكك الحديدية وتطوير ودعم أسطول الوحدات المتحركة، ورفع كفاءة الأداء كذلك تطوير خدمة النقل باستحداث قطارات جديدة من فرنسا ورفع درجات وسائل الأمان بتطوير الإشارات الكهربائية ووسائل التحكم المركزي، والتعليم واعداد الكوادر، بالإضافة إلي تطوير مجموعة من الورش للوفاء بالتزامات الصيانة الدورية للوحدات المتحركة لنقل الركاب والبضائع عبر السكك الحديدية، وبذلت جهودًا كبيرًة لمدها في المنطقة الغربية لربط مدن بغداد بالرمادي ومنطقة عكاشات المنتجة للفوسفات وحتى الحدود السورية عند مدينة حصيبة، من قلب الصحراء الشاسعة حيث يمتد الأفق وتغيب المعالم، بدأ عمال عكاشات والتابع للشركة العامة لاستخراج الفوسفات والمخصص لنقل الفوسفات من مناجم استخراجه إلى البصرة حيث تبدأ إجراءات تصديره إلى الخارج، وذلك لنشر العمران، شبكة السكك العراقية كانت تشمل معظم المناطق، وذلك لنشر العمران، ولتسهيل حركة التجارة والانتقال بين المناطق المختلفة، وعبر محور البصرة الذي يغطي مناطق الفرات الأوسط والجنوب، ومحوري الموصل وكركوك، ويغطي مناطق الوسط والشمال، ومحور القائم الذي يغطي جميع المناطق الغربية،

      

واصبح الكثير يفضل النقل بالقطارات على الوسائط الاخرى لدقة المواعيد في المغادرة والوصول، وتوفر عوامل السلامة والأمان في نقل المسافرين والبضائع، اضافة الى رخص الأجور، ، واعتبر النقل بواسطة السكك الحديد سواء للمسافرين او البضائع يمثل على القدرة لللنقل لمسافات طويلة، واصبحت السكك تنقل المنتجات النفطية والنفط الخام والفوسفات والكبريت والمنتجات الزراعية الى المنافذ الحدودية، فكان عمل السكك الحديدية في العراق عاملاً هاماً في تطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

       

كان هدير القطار بمساراته المضيئة، متعة واسترخاء وتامل، ولقاء مع شرائح اجتماعية واعراق وديانات، يعكسون أنماطًا من السلوك، ومستويات من التفكير، الرحلة قد لا تدوم طويلا حسب زمنها الرحلة وهي كفيلة بمعرفة التعايش او الانطواء فاللقاءات مرآة لطبائع الناس ولهجاتهم في القطار، مشاهد من خلال زجاج النافذة وكأنك امام شاشة السينما لحقول وبيوت ومناظر واهوار وآثار وصحارى ونخيل ووديان وسهول ومرتفعات، اما ركاب الدرجة الثالثة فانهم والنوافذ شبه المفتوحة يطلون برؤسهم، ومنهم يعيش كأنه في بيته غناء وجلسة طعام تتخللها الاحاديث والقصص، وما أجمل هدير القطار عندما تسكت الاصوات المتداخلة وتجعل الجميع ينصتون إليها، أن السفر في القطارات كان يناسب الكثيرين ويستهويهم تمامًا، فهو آمن بشكل أكبر من غيره من المواصلات العامة، ومتوفر في جميع الظروف، وفي مواعيد محددة، وتكون أسعاره شبه رمزية، وتتوفر فيه سبل الراحة من تكييف ومطعم، في النهاية حلم الوصول يراود الجميع فى كل لحظة، ولكل منا حكاية لا بد أن تروى مع القطار.

     

السفر بالقطار احيانا تغدو الهاما عند بعض الشعراء والادباء عند اللقاءات مناسبة يمكن تحويلها الى خيال ادبي وهذا ما حصل عندما أعطى الشاعر مظفر النواب القطار موضعًا في قصيدته المشهورة «الريل»، كاشفًا عن معنى الحب في قصة امرأة في القطار، و كان الشاعر مظفر النواب مسافراً في قطار الدرجة الثالثة وتجلس أمامه امرأة أربعينية جميلة الملامح متعبة جافى عيونها النوم رغم مشقة وطول الطريق فتحدث معها وحكت له قصتها والقطار يمر بقرية أم الشامات نحو الجنوب ببطئ دون ان يتوقف فيها، كانت لها علاقة حب بابن عمها اشتهر أمرها بين الناس وبما أن العادات والتقاليد لا تسمح بزواج من ينتشر أمره كان عليها الهرب الى بغداد والمرور بين فترة وأخرى بأم الشامات حيث منزل حبيبها فتعود لها الذكريات، كتب على اثرها:
مرينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل
وسمعنا دق قهوه وشمينه ريحة هيل
ياريل صيح بقهر صيحة عشق ياريل
هودر هواهم ولك حدر السنابل قطا

تأثرقطاع السكك والقاطرات كثيراً إبان الحصار الاقتصادي في تسعينات القرن الماضي، وما فرض من فقدان قطع الغيار اللازمة لإدامة تلك الخطوط واعتماد مواد محلية الصنع كبدائل اضطرارية، ومع ذلك فقد كانت صامدة ومتواصلة.
وبعد احتلال العراق عام 2003 تضررت السكك الحديد العراقية التي كانت الشريان الاهم في قطاع النقل داخل العراق بفعل الضربات الجوية و ما أعقبها من عمليات النهب والتخريب، فلم يعد صالحاً للإستخدام من قاطرات الشركة سوى ما مجمله 158 قاطرة من أصل 410، وقسم من القاطرات سرقت لتكون بيوتا او مخازن، كما انها تعرضت الى اذى كبير من خلال التدمير والنهب معظم مرافقها ومحطاتها وآلياتها، مما أدى إلى توقف الشركة عن تسيير رحلات بشكل نهائي خاصة في مجال نقل المسافرين ولم تعد الى الخدمة الا في عام 2009 سوى خط واحد وهو: بغداد – البصرة، يتعرض هذا الخط الوحيد بصفة شبه يومياً للرشق بالحجارة وكأنها عادة ترافقهم في يومياتهم في ثقافة مستمدة من ثقافة التخريب التي شجعها المحتل بل هو من ارادها، تستهدف تكسير زجاج نوافذ القطارات اثناء مرورها بالمدن يقوم بها بعض الشبان والاولاد، ملحقين خسائر كبيرة مادية تخص القطارات، و في بعض الأوقات يتعرض السائقين، والمسافرين، لشضايا الزجاج، ناهيك عن التوقف الاضطراري، وهي اعتداءات لا يمكن وصفها بالمخجلة وغير الواعية ولا يرتكبها الاانعدام التربية والاخلاق، دون ان تتخذ الاجهزة المعنية بالتوعية والمحاسبة واصبحت هذه العادة ترافقهم، وهذه التصرفات ادت الى عزوف الكثير من السفر بالقطارات، ولا زال الكثير يتذكر الحكايات الجميلة والمواقف مازال صداها يتردد بين جدران مباني المحطات المتروكة للنسيان. ذكريات خطها القطار الذي انطلق من بغداد عبر محطات المدن و الريف ...، انها مأساة وحزن يضاف الى ماحل بكل اوجه الحياة في بلدنا، ومنها ما آلت إليه السكة الحديدية بالآونة الأخيرة إلى ما بعد ذلك من إهمال وتفكك ذهب بهيبتها ومكانتها المرموقة التي كانت عليه في السابق.
مضت اكثر من مائة عام على انشاء السكك الحديدية في العراق ومايقارب ال18 عاما على تدميرها بايدي المحتل والطبقة السياسية الحاكمة المرتهنة والمنفذة لإرادته وخططه والتي تفتقد الى مشاريع وطنية الى اصلاح البلاد الاجتماعية والاقتصادية وبنيته التحتية، بل وتفتقد الى الغيرة الوطنية والكرامة الشخصية، ويبقى السؤال:
اين نحن من ذاك الماضي الجميل، وهل يمكن إعادة تشغيل سكك الحديد في العراق، التي تشكل أرضية صالحة لحل المشاكل المتفاقمة لأزماته؟
الجواب من غير المتوقع ان تؤدي السياسات الحالية الى احداث تطور في اداء منظومة القطارات في العراق، انما هو مطلوب هو اجراءات وسياسات تحدث تطورا نوعيا في هيكل السياسات الخاصة بتطوير الخدمة، ومساواة فلسفة تقديم الطابع الخدمي مع الطابع الاقتصادي، فعندما يمتلك إرادته الوطنية واخلاصه وحبه لبلده وشعبه، يمكنه أن يواجه الاشكالات الكبرى التي يعاني منها، في مختلف جوانب الحياة التي يعيشه ومنها السكك الحديدية والقطارات، فقد استطاع العراق من خلال تاريخه بامتلاكه الامكانات البشرية المؤهلة وموارده الطبيعية والمادية والاجتماعية والاقتصادية أن يلعب أدواراً عظيمة في المعرفة والثقافة والاقتصاد وأن يؤثر في مجرياته سواء بشكل أحادي أو جماعي أو عبر مؤسساته، وسيكون أكثر قدرة وطموحا وتأثيرًا في المستقبل وسيتوفق على غيره، ففي عالم اليوم المتميز بالقطارات فائقة السرعة والمعابر الآلية ، فان انشاء وتحديث خطوط للسكك الحديدية والقطارات ادوات مثالية للنهوض بواقع النقل، الذي يعطي دافع قوي للنشاط الاقتصادي، فانشاء ميناء الفاو حلم العراقيين يربط العراق بطريق الحرير، هي الربط السككي، بين آسيا وأوروبا عبر طريق بري سككي بين العراق وتركيا وسوريا، وصولاً إلى أوروبا ومرور طريق الحرير البري من الصين عبر العراق بربط سككي سريع يقطع حوالى ألفين كيلومتر بشبكة سكك قطار سريعة تؤمن وصول البضائع والسلع من موانئ بحر العرب والخليج العربي نحو الأرض اليابسة في البصرة وصولاً لتركيا وأوروبا، هذا الطريق الحلم الذي يذّكرنا بـ"قطار الشرق السريع بغداد - برلين"، ، هذا الربط الذي يختزل الزمن والمسافات والكلفة ، نحو عالم جديد يقوم على المصالح الاقتصادية، فانشاء ميناء الفاو الربط السككي سيستوعب اعداداً ضخمة من العمالة،

         

كما يساهم بالنقل الاجتماعي والسياحي، تمر بين المدن والانهار والاهوار والبحيرات، وبين الأراضي الزراعية وما يتبعها من سفوح أو سهول تارة أخرىى، وفي الوقت نفسه، انشاء مشروع السكة المحوري حول بغداد لحل ازمة الاختناقات المرورية في بغداد وباقي المحافظات لتسهيل نقل البضائع داخل العراق ومن والى دول الجوار، احياء خط الموصل - حلب، فتح خطوط القطارات السياحية إلى مناطق عديدة مما يوفر تسهيلات أكبر لسفر الزوار، ويساهم في تنسيق الموارد السياحية في تلك المناطق ودفع تنمية الاقتصاد السياحي هناك، هذه المسارات تعد الاقل ضررا على البيئة من بقية الوسائل، كما سيتيح للمسافرين خلال فترات مختلفة من السنة للاستمتاع بجولة طويلة في القطار وما تحويه من مفاجآت وأحاديث عديدة وتجربة لاعادة الذكريات الجميلة التي كانت تحدث في القطارات ومحطات الانتظار، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود

   

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1782 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع