نوري السعيد وحلف بغداد

         

                         نوري السعيد وحلف بغداد

     


فكــرة حلف بغــداد

بدأت قضية حلف بغداد في ربيع سنة 1953 عندما قام جون فوستر دالاس وزير خارجية الولايات المتحدة برفقة هارولد سفاسن برحلة إستطلاع في الشرق الأدنى وأجرى محادثات في أنقرة مع عدنان مندريس رئيس وزراء تركيا. وعقب المحادثات خطر في بالهما إنشاء جبهة شرقية بمثابة( درع) يقي المنطقة الشرقية الشمالية من هجوم سوفياتي محتمل، فكان من الضروري لتقوية هذا الدرع أن يصار الى جمع أكثر عدد ممكن من الدول المتاخمة لتركيا فيكون همزة وصل بين حلف الأطلسي وحلف جنوب شرق اسيا.

                


وفي كانون الثاني/ يناير 1954 دعي الرئيس التركي جلال بايار الي واشنطن وتدارس الأمر مع الرئيس آيزنهاور . وفي نهاية المحادثات صرح بايار في مؤتمر صحفي عقد في واشنطن بأنه لم يعد ثمة مجال أمام الحياد بل يجب الاختيار أما بالتعاون مع دعوة الحرية أو بالسير في طريق العبودية.
وفي 19 شباط/فبراير 1954 أعلنت حكومة تركيا وحكومة باكستان بأنهما قررتا إنشاء معاهدة تعاون متبادل بين البلدين فبرزت نواة حلف بغداد الي الوجود وتم توقيع الحلف التركي الباكستاني في 2 نيسان/ ابريل 1954. وفي كراتشي كان هذا الحلف يتسم بالصفة العسكرية دون أن يحمل إسمها في ظل المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. فرحبت بريطانيا وأمريكا بالحلف وإعتبرتاه إنتصارا للعالم للحر.
ولما كان العراق جغرافيا يفصل بين تركيا وباكستان لابد أن تكون الخطوة الدبلوماسية الثانية إشراك العراق بالحلف.
وإذا كانت فكرة الحلف التركي الباكستاني وليدة الدبلوماسية الأمريكية، فقد كانت التكملة من صنع بريطانيا. أو بالأحرى من صنع نوري السعيد . هذا الرجل على حد تعبير أحد الدبلوماسيين لم يدع مجالا لقطع دابر الصلة بين لندن وبغداد حتى في أحرج الظروف إبان الحرب العالمية الثانية .

              

إذ كان نوري السعيد يؤمن بأن مصلحة العرب تكمن في إستمرار العلاقات بينهم وبين الغرب لاسيما بريطانيا.وكان نوري السعيد من دعاة ( الدرع الشرقي) لا بل كان أكثرهم تحمسا له ولم يَرَ في هذا الدرع كما كان يقول لأقرب المقربين اليه دفاعا عن العراق ضد الشيوعية وحسب، بل كان يرى فيه وقاية من هجوم تركي محتمل ضد العراق، وربما كان يهدف من وراء ذلك الى بعث فكرة الهلال الخصيب في المنطقة.
إقتنع نوري بضرورة التعاون مع بريطانيا، وإعتبر ذلك أمرا لابد منه ولم يَرَ فيه تعارضا أساسيا مع مصالح العراق، في ظل ظروف دولية كانت القوى الكبرى هي التي تقرر مسار الأحداث، وتحسم نتائجها. ولو لم يكن الأمر هكذا لما أعلن نوري السعيد على رؤوس الاشهاد وفي مؤتمر دولي وأمام مجموعة كبيرة من كبار المسؤولين العرب أن البريطانيين( أصدقاء حميميون) وكما قال في نص برقية جوابية على برقية رئيس الوزراء تشرشل ، نشرتها الصحف المحلية والأجنبية في أواخرآب/ أغسطس 1942 ما نصه (إننا نعتبر أن ما يقوم به العراق من عضد قضية بريطانيا العظمى، والأمم المتحدة، إنما هو عضد لقضية العرب أنفسهم، لأننا نعلم أن إنتصار الأمم المتحدة في هذا النضال الذي هو أخْطرْ نضال عرفه التاريخ من أجل توفير الحرية والعدل لجميع الأمم، سيكون إنتصارا للعرب أيضا وأن الأمل في تحقيق رغبات العرب في الوحدة إنما نجده في ذلك النصر..
ويؤكد معظم مؤرخي العراق على إختلاف ميولهم السياسية أن نوري السعيد كان يتعاون مع البريطانيين عن عقيدة ، وكان يرى مصلحة العراق أولا والعرب ثانيا ولذلك فهو لم ير تعارضا بين المصالح البريطانية ومصالح العرب.
إن خضوع نوري السعيد وإرتباطه بالبريطانيين قد زاد بعد إنقلاب 1936 لاسيما بعد إنفجار حركة رشيد عالي الكيلاني في مايو 1941 والقضاء عليها. لقد كانت التجربتان قاسيتين عليه، فقد أظهرتا له مدى إرتباطه بالوجود البريطاني في المنطقة بصفة عامة والعراق بصفة خاصة
بداية فكرة حلف بغداد.
في وزارته الثانية عشرة راح نوري السعيد يبحث عن وسيلة ينهي بها معاهدة 1930 ويضمن في الوقت نفسه أن لا ينعزل العراق عن المعسكر الغربي لئلا تبقى حدوده الشرقية والشمالية مفتوحة لمخاطر النشاط والتدخل الشيوعي أو مداخلات الدول المجاورة – تركيا وإيران- المرتبطة بالمعسكر الغربي. الا أن نوري السعيد في الوقت نفسه كان يبذل الجهود لانجاز الميثاق العراقي – التركي ويفاوض في الفترة ذاتها الجانب البريطاني لانهاء معاهدة 1930 بعد إنضمام بريطانيا الى الميثاق الذي إنضمت اليه الباكستان وإيران .وموقف نوري السعيد هذا أكده هو نفسه في تصريحه أمام مجلس النواب في جلسته يوم 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1930 بقوله" انني لو كنت رئيس حكومة دولة مستقلة لما قبلت هذه المعاهدة".
بل أن إصرار نوري السعيد على عقد الميثاق العراقي التركي عام 1954 على الرغم من المعارضة العنيفة التي تعرض لها من جانب الدول العربية التي رفضت بأجمعها الانضمام اليه. إنما كان يقصد منه إنهاء معاهدة 30 حزيران/يونيو 1930 التي أبرمتها وزارة نوري السعيد الأولى مع بريطانيا ولقيت في حينها معارضة من جانب الشعب العراقي على الرغم من أنها كانت الوسيلة الوحيدة التي أتاحت للعراق أن يحظى بعضوية عصبة الأمم بإعتباره أول دولة عربية تدخل في تلك العصبة عام 1932 .
في 4 آب /أغسطس 1954عاد نوري السعيد للحكم وكان يتابع عن كثب الاتفاقية التركية الباكستانية المعقودة يوم 2 نيسان/ابريل والاتفاق التمهيدي الذي عقد بين مصر وبريطانيا حول الجلاء عن قاعدة قناة السويس.

      

وإذا بوزارة الخارجية في بغداد تعلن بأن الصاغ صلاح سالم وزير الاشاد القومي مع وفد مكون من عشرين شخصا سيزورون الملك فيصل وولي العهد الأمير عبد الاله في مقرهم الصيفي بسرسنك. ويبدو أن الاتفاق التمهيدي الذي عقدته مصر مع بريطانيا حول قناة السويس كان هو الدافع الذي جعل مصر تقترح عقد إجتماع لبحث العلاقات العربية.

         

وفي سرسنك تحدث نوري السعيد مع صلاح سالم قائلا" أن العراق حريص على إستقلاله غير أنه في حاجة الى صداقة تركيا خوفا على الموصل ونفطها وعلى صداقة إيران كذلك إتقاءا لمطامعها في بعض المناطق على الحدود بين البلدين. ثم طالب نوري السعيد توسيع نطاق ميثاق الضمان الجماعي ليشمل باكستان وأن تعقد دول الميثاق إتفاقا عسكريا مع بريطانيا لكي تمده بالأسلحة وتتعاون معه، وأن ينشأ إتحاد بين دمشق وبغداد يتيح للعراق بلوغ البحر الأبيض الموسط . وإقترح نوري السعيد إستشارة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا في المشروع قبل البت فيه تعزيزا لميثاق الضمان الجماعي العربي.
ورد صلاح سالم بأن مصر لا تعارض الاتحاد بين سوريا والعراق ولكنها ترى إستحالة إنضمام باكستان الى الميثاق لأن الدول العربية هي المخصوصة به وكذلك الاتفاق مع بريطانيا هو مستحيل لأنه يجعل العرب تابعين لها. أما إستشارة واشنطن ولندن فمعناها طلب موافقتهما مما لا ترضاه مصر ولا الدول العربية الأخرى..

       

  وفي نهاية سنة 1954 زار عدنان مندريس بغداد وكان يرافقه وزير الخارجية ( كربولو) وجرت محادثات مع كل من نوري السعيد والأمير عبد الاله . وصدر بلاغ إثر الزيارة يؤكد ضرورة عقد حلف للدفاع المشترك بين العراق وتركيا ضد أي إعتداء داخلي أو خارجي.
وكانت القوة المهيمنة على السلطة آنذاك قد سعت الى إعادة نوري السعيد الى رئاسة الحكومة لاعتقادها بأنه الوحيد القادر على تنفيذ المخططات السياسية لتلك المرحلة..
ويشير السفير البريطاني ج. تروتبيك في إستعراضه لأحداث العراق السياسية لعام 1953 الى نوري السعيد فيقول" بدونه وهو على قمة السلم الاداري سيتدهور الحال.
وَجد نوري السعيد في المادة 51 من ميثاق الامم المتحدة ما يسمح للدول المتجاورة أن تتحالف في تنظيم دفاع إقليمي يغنيها عن المعاهدات الثنائية . لقد رحب كل رجال السياسة في العراق بهذا المشروع ، ولكن قبل الدخول في تنفيذه أراد نوري السعيد أن يتأكد من نوع الحياد الذي تستطيع أن تعتمد عليه الأمم المتحالفة لضمان إستقلالها.
كان نوري السعيد قلقا من إحتمال قيام السوفييت بالهجوم على العراق فوجد نوري السعيد الجواب لهذه المسألة ولموضوع المعاهدة البريطانية العراقية في التوقيع على معاهدة جديدة يدعمها الغرب لحماية منطقة الشرق الاوسط ترتبط فيه الدول العربية ( بالحزام الشمالي) الذي تسعى الى تحقيقه الولايات المتحدة..
وقد شهدت سنوات الخمسينات من القرن الماضي بدء سياسة الأحلاف في المنطقة ومن خلال عقد إتفاقيات ثنائية خاصة مع دولها تمهيدا لربطها في سلسلة من الأحلاف العسكرية وكانت هذه الخطة هي الأساس الذي قام عليه حلف بغداد بجهود بريطانية أمريكية مشتركة، وإتخذت أول خطوة في سبيل إنشائه في أوائل شباط/فبراير 1954 عندما عقدت تركيا وباكستان حلفا دفاعيا ثم عقدت إتفاقية للتعاون المشترك بين العراق وتركيا في شباط 1955 وبدفع من بريطانيا والولايات المتحدة بهدف عقد حلف جماعي وظهر هذا الحلف الى حيز الوجود بانضمام بريطانيا اليه أواخر اذار/مارس 1955 ثم تبعتها باكستان في أيلول/سبتمبر ثم إيران في تشرين الثاني./نوفمبر. ..
فقد وَجَدَ نوري السعيد في ميثاق النطاق الشمالي الذي إبتدعته الولايات المتحدة بإيحاء من جون فوستر دالاس وزير خارجيتها مثلا يحتذى به إذ كان الهدف من هذا المشروع حماية دول تخشى الاعتداء بتسرب النشاط السوفييتي الى بلادها وكان في مقدمة الدول المذكورة باكستان وتركيا وإيران. فبعد الاطلاع على تفاصيل ميثاق دفاع النطاق الشمالي والاتفاقية التي أبرمت بين تركيا وباكستان، فَكَرَ نوري السعيد بتشكيل ميثاق دفاعي أوسع نطاقا يضم البلاد الآسيوية والدول العربية على حد سواء بشرط أن يكون مستندا الى المادة( 51 ) من ميثاق الأمم المتحدة التي تفرض التكامل بين أعضاء في حالات الاعتداءات الخارجية.

                               

أما في بريطانيا فقد أعلن أنتوني إيدن رئيس الوزراء البريطاني إعتزام بريطانيا الانضمام الى الحلف العراقي – التركي ، حتى يمكن المحافظة على مصالحها بطريقة تتفق والظروف القائمة، كما أعلن إيدن في 30 آذار/مارس أن الحكومة البريطانية إتفقت مع الحكومة العراقية على إنهاء المعاهدة المعقودة بينهما عام 1930 وإنضمام بريطانيا الى الحلف التركي – العراقي
كان البريطانيون يريدون إجبار الولايات المتحدة العضوية الكاملة في حلف بغداد، وقد حرضوا اعضاء الحلف المسلمين للدعوة الى عقد إجتماع طارىء في 14 تموز 1958 في أنقرة وعلى أساس أن يجري هناك التصويت على حل الحلف ما لم تكسب الولايات المتحدة العضوية الكاملة. وقد أعد سلوين لويد وزير الخارجية البريطانية العدة لتقديم إنذار نهائي من قبل أعضاء الحلف الى الولايات المتحدة للانضمام أو لمواجهة تمزق الحلف، وأن هذا سيرغم الولايات المتحدة على القبول بالعضوية الكاملة لانقاذ التحالف من الانهيار.

مباحثات سرسنك
كان هدف نوري السعيد من عقد ميثاق التعاون المتبادل بين العراق وتركيا الذي تحول في النهاية الى ( ميثاق بغداد) بعد إنضام باكستان وإيران وبريطانيا اليه أن يكون بمثابة خطوة متممة لخطوة مصر مع بريطانيا والتي نصّت على أن لبريطانيا الاحتفاظ بفنيين من ضباطها وعسكرييها في قواعد السويس لصيانتها وإستخدامها من جانب القوات البريطانية في حالة تعرض تركيا لاعتداء خارجي عليها.
من جانبه فقد إستقبل نوري السعيد ولمدة إسبوع كامل نظيره التركي عدنان مندريس في 6 كانون الثاني من عام 1955 وإتفق معه من حيث المبدأ على معاهدة دفاع مشترك بين البلدين وإتفقا على أن تكون هذه المعاهدة مفتوحة لبقية الدول الصديقة، وأن تكون المعاهدة نواة لتشكيل منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط وقد نشط نوري السعيد في الأشهر اللاحقة لتنفيذ بنود الاتفاق وتوسيعه ليشمل بلدانا أخرى وكان ينظر الى بريطانيا كعضو مهم يجب أن تكون تحت مظلة الاتفاق وعضوا فعالا فيها.
وحاول نوري السعيد أن يشرك الزعماء المصريين في هذا الاتفاق والتقى مع موفد جمال عبد الناصر الى الحكومة العراقية صلاح سالم الذي زار العراق يوم 14 آب/اغسطس 1954 والتقى نوري السعيد ومعه شاكر الوادي وزير الخارجية بالوكالة ورفيق عارف رئيس هيئة الأركان العامة العراقية في مصيف سرسنك في شمال العراق في إلا أن عبد الناصر لم يتجاوب مع إتفاق نوري وسالم مما دفع نوري للذهاب الى القاهرة في15 أيلول/ سبتمبر من العام نفسه ومناقشة عبد الناصر وبقية العرب للانضمام الى الحلف الجديد فلم يوفق فقرر المضي وحده في هذا المشروع فأجرى مفاوضات مع الأتراك حيث وقع معها في 24 شباط إتفاقا مشتركا ثم إنضمت بريطانيا الى الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في بغداد بعد أن إستجابت إيران وباكستان للانضمام اليه وهو ما سمي بحلف بغداد، وكان نوري السعيد يأمل أن تنضم الولايات المتحدة اليه التي إكتفت بالانضمام اليه بصفة مراقب حيث أبدت إهتماما بأمن دول حلف بغداد وإستقلالها ورغم أنها لم تشترك في هذا الحلف رسميا فقد إنضمت الى لجنته العسكرية 1957 كما كانت قد إنضمت الى لجنته الاقتصادية.
وقضى صلاح سالم أربعة أيام ثم عاد الى بغداد أسفرت مباحثاته مع نوري السعيد عن الاتفاق على محضر من خمس مواد جاء في المادة الأولى منه ( إتفق الطرفان على ضرورة إعادة النظر في ميثاق الضمان الجماعي وذلك للعمل على تقويته وجعله إدارة قوية فعالة، تمّكن الأقطار العربية من مواجهة أي خطر يتهددها ويجعلها تستطيع الدفاع عن بلادها بقوة وكفاءة، على أن يقوم كل طرف بدراسة هذا الموضوع والقيام بالاتصالات اللازمة مع الولايات المتحدة وبريطانيا بهذا الشأن. ومنها الى القاهرة. وكان في كل لقاء لي معه يتندر عن الصحفي هيكل ويسألني في تهكم: ترى ما هورأي صديقك هيكل في معاهدة الدفاع العربي المشترك؟ ثم يسأل: ترى ما هي شروط هيكل لانضمام مصر الى نظام دفاع إنكلو- أمريكي؟ ثم يضحك ويرفع نظارته السميكة السوداء لكي يمسحها ثم يعيدها الى عينيه ويقول: نحن في واد وهذا العراق في واد آخر
ويواصل النشاشيبي ذكرياته مع صلاح سالم ومباحثات سرسنك فيقول: وأذكر أنني سألته أي لصلاح سالم : كيف ترى نتيجة مباحثاتك مع العراقيين ؟
وأجاب على الفور: لو كانت أمريكا أطلقت إسم( القاهرة) أو إسم مصر على الحلف العسكري القائم بحيث يصبح إسمه ( حلف مصر) أو ( حلف القاهرة) لاحلف بغداد – كما هو الآن لما تردد عبد الناصر في إعلان القبول به والانضمام اليه.
وأدهشني التعليق فسألته : الى هذا الحد يكون التعصب للاسم ويكون التجاهل لحقائق الأمور ؟
وأجابني لقد بقي عبد الناصر مأخوذا بمظاهر الأمور على جوهر القضايا وعلى مضمونها ألا تسمعه يكثر في خطابات من تكرار عبارات ( الاستعمار) و( أذناب الاستعمار) و( حلف بغداد)..

                                         


وعن إجتماعات سرسنك يتحدث عبد الله بكر رئيس الديوان فيقول" حضر صلاح سالم الى سرسنك والتقى الملك فيصل الثاني والأمير عبد الاله ونوري السعيد. وحضرت جانبا من هذه اللقاءات وكان الحديث يدور حول علاقات مصر بالوطن العربي وضرورة الاتحاد والتكاتف . وقد لمست يومها إعجابا وتأثرا من صلاح سالم بالسياسة العراقية خاصة بعد أن شرح له نوري السعيد السياسة الخارجية للعراق.
ويضيف بكر" وأستطيع أن اأؤكد حين عاد صلاح سالم الى مصر إختلف مع عبد الناصر في الموقف من العراق.( صحيفة البلاد، كندا لصاحبها الزميل ليث الحمداني.)
شهادة ناصر الدين النشاشيبي.
وعن مباحثات سرسنك يتحدث ناصر الدين النشاشيبي يقول في كتابه ( ماذا يجري في الشرق الاوسط)" جاء صلاح سالم مندوب الثورة المصرية الى العراق في طريقه الى مصيف سرسنك وجئت معه. وسألني سالم ضاحكا ونحن في الطائرة التي حملتنا من بغداد الى مصيف سرسنك في شمال العراق حيث عقدت الاجتماعات مع الوصي ونوري السعيد وصلاح سالم: قال لي أن الرئيس عبد الناصر قد أرسل الينا الزعيم اللبناني السيد صائب سلام لكي يحضر المباحثات وينقل تفاصيلها – سرا – الى عبد الناصر. وأضاف صلاح سالم قل لي يا أخ ناصر هل أنت معي أم مع العراق أم مع جمال عبد الناصر؟
وأسقط كما يقول النشاشيبي في يدي ولم أكن أدري أن الأصابع الخفية قد نجحت في خلق شرخ واسع بين عبد الناصر من جهة والصاغ الذكي النشط – صلاح سالم – من جهة أخرى..

       

والتقى جميع الأطراف في مصيف سرسنك البعيد المعزول عن العالم بسكانه الأكراد والذين لا يزيد عددهم عن مائة انسان. وقد تصلح أجواء سرسنك لأي عمل أو لأي إنتاج أو لأي لقاء في العالم ولكنها لا تصلح لاجراء مباحثات السياسة وسط أكراد يزهون بالبستهم الملونة وعماماتهم الخاصة ويقضون المساء في الغناء والرقص ويقضون النهار في النوم أو المشي أو السباحة في أحواض القصر الملكي.

      

من اليمين:السيدة نعيمة العسكري(ام صباح) ، صباح ، الدكتورة عصمت السعيد ، الباشا نوري السعيد

الدكتورة عصمت السعيد زوجة صباح نوري السعيد تتحدث عن مفاوضات سرسنك فتقول" بدأت المفاوضات في سرسنك بحضور جلالة الملك فيصل الثاني وسموالأمير عبد الاله ولي العهد ، وحضر من الجانب المصري صلاح سالم وتوفيق قطامش ومحمود رياض ، وفي تلك الجلسة إعتذر صلاح سالم عن ما قامت به الجرائد والاذاعة المصرية في حينه من هجوم على الحكومة العراقية، كما إعتذر عن تصريحاته الشخصية في حينه مدعيا بأن الصدف أرادت أن تكون زيارة الملك لباكستان في نفس الوقت الذي كانت تفكر فيه مصر في توقيع المعاهدة الثنائية التي تخول الجيش البريطاني الرجوع الى قواعده السابقة في السويس إذا حدث أي إعتداء على تركيا. وبناءا على ذلك تصّور الجانب المصري أن مؤامرة تحاك في باكستان لعزل مصر عن العالم العربي- لكن عندما تم التوقيع بين مصر وبريطانيا تبيّن للمسؤولين في القاهرة أن تصوراتهم من نسيج الخيال، وأعلن صلاح سالم بأن مصر على إستعداد لفتح صفحة جديدة من شأنها توثيق العلاقات الودية وتحقيق الآمال المشتركة في المستقبل.".
ولما إنتهى صلاح سالم من الكلام بدأ نوري السعيد بتوضيح موقف العراق فبيّن للحاضرين جليا بأن صلات إجتماعية وإقتصادية وتاريخية ودينية تربط العراق بمن يجاورها ، وأن علاقات مماثلة تربطه بالبلاد العربية ، وبدأ نوري يعدد بعد ذلك الخدمات التي قدمها العراق للبلاد العربية، إذ كان معقلا لأحرار العرب أثناء نضالهم للتحرر. فعلى سوريا أن تذكر ما فعله العراق عندما أخلى الفرنسيون ديارهم. ولتذكر فلسطين المساعدات الدائمة التي قدمها العراق لها في كافة المناسبات، أما الآن فقد وصل العراق الى مرحلة حساسة بانتهاء تاريخ معاهدة 1930 الثنائية فهو يأبى أن يربط مصيره بمعاهدة ثنائية أخرى بل في نيته أن يكون التعاون بينه وبين البلاد الأجنبية مبنيا على المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة( د. عصمت السعيد ، المصدر نفسه، ص 267 ).
وهنا خرج نوري السعيد عن حديثه حول العراق ليتطرق الى المعاهدة الثنائية التي أجرتها مصر في قضية إخلاء قنال السويس وقال أنه كان من الأفضل تقسيم الاتفاقية المذكورة الى قسمين:
فالاتفاقية الأولى تقتصر على إنهاء الاحتلال فقط، على أن تستند الاتفاقية الثانية الخاصة بمواجهة الاعتداء على تركيا على إبرام معاهدة جماعية تستند على المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، وعند سماع ذلك سأله صلاح سالم عن الطريقة التي يجب إتباعها للوصول الى هذه النتيجة. فأجابه نوري السعيد قائلا: إن الدول العربية مرتبطة بميثاق الضمان الجماعي فاذا إستطعنا أن نقول أن هذا الميثاق باضافة الدول المجاورة التي تربطنا بها مصالح إجتماعية وإقتصادية وجغرافية كميثاق إقليمي بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لأستطاع العراق ومصر بِجَرَة قلم التخلص من المعاهدات الثنائية، وذلك بعد الاتفاق مع إنكلترا وأمريكا للحصول على مساندة عسكرية قوية. وإنتهت تلك الاجتماعات في جو ودي وتم الاتفاق على النقاط التالية.
أولا- على الطرفين مراجعة ميثاق الضمان الجماعي لجعله أداة قوية للدفاع عند مواجهة الخطر. ويحتم ذلك دراسة الموضوع عن كثب مع إجراء الاتصالات الضرورية بأمريكا وإنكلترا، ثم يعقب ذلك إجتماع آخر في شهر أيلول/ سبتمبر في مصر لمناقشة كافة الأمور المعروضة وتؤخذ أثناء ذلك آراء ممثلي بريطانيا وأمريكا قبل عرض المشروع على البلاد العربية وذلك للحصول على موافقة عامة.
ثانيا- إتفق الطرفان أيضا على مكافحة التيارات الهدامة بكافة الطرق على أن ترسل مصر الى العراق بعض الاخصائيين في هذا الشأن لتبادل المعلومات والتعاون على مكافحة تلك التيارات في كافة البلاد العربية(د. عصمت السعيد ، المصدر نفسه، ص 268 ).
والجدير بالذكر أن صلاح سالم ذهب بعد ذلك لسفارتي بريطانيا وأمريكا قبل الرجوع الى مصر للتشاور مع المسؤولين فيها وأخبرهم بأنه سيتصل بسفراء بريطانيا وأمريكا في القاهرة عند وصوله.
رفضت الحكومة المصرية مقترحات نوري السعيد وصلاح سالم التي توصلا اليها في سرسنك بخصوص موضوع الدفاع عن المنطقة بالتعاون مع الغرب، ولقد غضب نوري السعيد لرفض مصر وتردد في زيارة القاهرة حسب الموعد المحدد لاستكمال المحادثات مع الحكومة المصرية إلا أنه قرر القيام بمحاولة أخيرة لاقناع عبد الناصر.(د.محسن محمد المتولي العربي ، المصدر نفسه، ص 219).
يقول نوري السعيد بأن أخبارا تشير الى وجود خلافات بين أعضاء القيادة في مصر وصلت الى بغداد على أثر رجوع صلاح سالم الى القاهرة. وأيدت ذلك الخبر مصادر إعلامية أخرى، ولكن بعد مرور عدة أيام إتصل جمال سالم- عضو مجلس قيادة الثورة المصري وشقيق صلاح سالم – تلفونيا بنوري السعيد في الصباح المبكر في بغداد يخبره ويؤكد له بأن لا أساس قط لكل ما أشيع عن خلافات قائمة بين أعضاء القيادة في مصر. وبعد السؤال عن صحته وباقي المجاملات الاعتيادية أخبره بأن الرئيس عبد الناصر وسائر الأخوان ينتظرونه في القاهرة لمناقشة المقترحات المعروضة.(د.عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 269 ).

              


وعن محادثات سرسنك يتحدث محمود رياض وزير خارجية مصر وأمين عام جامعة الدول العربية الأسبق في مذكراته فيقول" عندما إستقرت الأوضاع في القاهرة في منتصف عام 1954 وبعد الصدام الذي حدث بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر ، رأى عبد الناصر الأخذ بفكرة إرسال وفد مصري لزيارة الدول العربية . ووقتها كان فاضل الجمالي قد إستقال من رئاسة الحكومة العراقية وجاء نوري السعيد بسياسته المبنية على التعاون مع بريطانيا في المنطقة والقبول بالأحلاف الغربية ... وقرر عبد الناصر إيفاد صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة لزيارة الدول العربية، وطلب مني أن أنضم اليه في جولته . وكانت هذه الزيارة أول إتصال مباشر بين مصر الثورة والقادة العرب. لذا كان الهدف منها واضحا ، التعرف عن قرب على مواقف القادة العرب وتصوراتهم لمستقبل المنطقة ومستقبل العلاقات العربية ثم محاولة تحقيق التفاهم كاملا حول العمل العربي الموحد لمواجهة الأخطار الخارجية وتحديد الموقف العربي بالنسبة لسياسة الأحلاف.وقمنا بزيارة للسعودية فلبنان فأليمن. وبعد إسبوع عدنا لاستئناف جولتنا فتوجهنا الى العراق، وكان الملك فيصل الثاني ملك العراق في مصيفه بسرسنك شمال العراق فتوجهنا بالطائرة الى الموصل ثم الى سرسنك بالسيارات.

     

وفي 16 آب/أغسطس عقدنا أول إجتماع مع الملك وولي العهد الأمير عبد الاله ورئيس الوزراء نوري السعيد . كان الملك قليل الكلام وترك دفة الحديث لولي العهد الذي كانت شخصيته طاغية على شخصية الملك فهو خاله وأكبر منه سنا. ثم ترك الأمير عبد الاله الحديث لنوري السعيد لمناقشة من الجانب العراقي في الموضوعات السياسية.( مذكرات محمود رياض، دار المستقبل العربي – بيروت ، الجزء الثاني ص 54 ).
ونوري السعيد ينتمي الى جيل شاهد قوة الأمبراطورية البريطانية وإنتصاراتها في الحرب العالمية الأولى، وكان هو نفسه من الذين شاركوا في الثورة العربية بقيادة الشريف حسين حاكم الحجاز ضد الأتراك.
وشهد نوري السعيد كيف إجتمع موظف من وزارة الخارجية البريطانية وآخر من فرنسا في نهاية الحرب العالمية الأولى ليرسما حدود الدول العربية التي إعتزموا إقتسامها عندما يتم لهم النصر وينتهي التواجد التركي فيها. ووقعوا الاتفاقية المعروفة بإسم إتفاقية سايكس – بيكو . وبقيت هذه الحدود هي نفس الحدود الدولية للدول العربية حتى الآن. وعاش نوري سعيد الأحداث عندما دخل الملك فيصل إبن الشريف الحسين دمشق ونُصِّبَ ملكا على سوريا في مارس/آذار 1920 وأنشأ أول حكومة برئاسة هاشم الأتاسي . وعندما إنسحبت القوات البريطانية من سوريا بالاتفاق مع فرنسا ودخلت القوات الفرنسية دمشق في تموز/يوليو 1920 أرغمت الملك فيصل على ترك سوريا فتوجه الى العراق حيث تم تنصيبه ملكا بموافقة بريطانيا. وشهد نوري السعيد نقض بريطانيا لتعهداتها للشريف حسين باقامة دولة عربية موحدة تضم فلسطين ورفضت تنصيب إبنه الأمير عبد الله ملكا على فلسطين وأعطته بدلا من ذلك إمارة شرق الأردن. ولهذا كان نوري السعيد يستبعد تماما أن يكون بمقدور العرب مقاومة السياسة البريطانية ويؤمن إيمانا راسخا بضرورة الاعتماد على بريطانيا .( مذكرات محمود رياض، المصدر السابق، ص 55)
ولم يكن نوري السعيد يتصور بطبيعة الحال أنه بعد بضع سنوات من لقاء سرسنك سوف تفقد بريطانيا وجودها في منطقة القناة. كما فقدت مستعمراتها في آسيا وأفريقيا وتصبح مجرد دولة أوروبية صناعية تجاهد للاحتفاظ بمستوى معيشة قريب من المستوى السائد في الدول الأوروبية الأخرى.
ولتأكيد وجهة نظره تقدم لنا نوري السعيد بمعادلة حسابية فذكر أن قوة كل دولة عربية تعادل الصفر، وأن مجموع أي عدد من الأصفار هو الصفر، وبالتالي فان قوة الدول العربية مجتمعة حصيلتها هو الصفر. وذكر بعد ذلك أن التعاون مع بريطانيا والدخول في أحلاف مع الدول الأسلامية مثل تركيا وأيران وباكستان يؤدي الى حصولنا على السلاح. وأكد أن هذه الدول سوف تنضّم الى العرب في نزاعها مع إسرائيل.( مذكرات محمود رياض، المصدر نفسه، ص 55)
وقد خرجت من الحديث الطويل الذي جاء على لسان نوري السعيد باقتناع أكيد بأن الموضوع أكبر بكثير من إختلاف في الاجتهاد السياسي وإنما تصادم بين عقليتين، فتفكير نوري السعيد يقوده الى إستحالة القدرة على مقاومة السياسة البريطانية وأنه لا بديل عن التحالف مع بريطانيا . وجمال عبد الناصر يرى ضرورة مقاومة وإنهاء السيطرة البريطانية في المنطقة، وأن إنجاز هذه المهمة ضرورة أساسية للتحرر والتقدم العربي.
وكان نوري السعيد ذكيا عندما إقترح في نهاية الحوار معنا ترك الباب مفتوحا لمباحثات مقبلة. وصدر بيان مشترك أشرنا فيه الى ضرورة تذليل العقبات التي حالت دون التعاون الكامل بين الدول العربية، وقد إتفقت مع صلاح سالم على أنه ليس من الحكمة أن نغلق باب التفاهم في الوقت الذي كانت فيه الدول العربية تنادي بوحدة الصف العربي. ولذا إتفقنا على أن يزور نوري السعيد القاهرة ويستأنف الحديث مع عبد الناصر.( مذكرات محمود رياض، المصدر نفسه، ص 56)
وقد إختلفت الأقوال حول زيارة الوفد المصري لسرسنك فقد أعلن نوري السعيد فيما بعد أن صلاح سالم وافق أثناء الزيارة على مبدأ التحالف مع تركيا. وحقيقة الأمر أن نوري السعيد أشار الى مشروع إتفاقية الجلاء والتي تقضي بعودة القوات البريطانية الى قناة السويس في حالة هجوم سوفييتي على تركيا، ثم تساءل عن الموانع من تحول دون فتح حوار مع تركيا وبريطانيا.
وقد أرسل نوري السعيد مع صلاح سالم رسالة الى الرئيس جمال عبد الناصر إثر إنفضاض إجتماع سرسنك جاء فيها" أن العراق على إستعداد لأن يعلن تجميد عضويته في حلف بغداد إذا تقدمت القاهرة بمشروع معاهدة عسكرية جديدة قادرة على أن تضمن للعرب من القوة والأسلحة والجنود المدربين ما يمكنهم من التصدي للأخطار الصهيونية والشيوعية على حد سواء، وأن تكون هذه المعاهدة جادة في أن يحمل العرب مسؤوليتهم على الصعيد العسكري بحيث تتوحد القيادات والتدريب على كافة المستويات"( د. عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 139 )
لقد ظن صلاح سالم عند تسلم هذا الكتاب بأنه نجح في مهمته نجاحا ملموسا وأعلن عن تفاؤله نتيجة إجتماع سرسنك. ولكن يبدو أن الرئيس عبد الناصر لم يوافق على تصريحاته العلنية في هذا الشأن فكانت النتيجة أن السلطات في مصر أوقفته في المطار. إذ اشيع في الأوساط السياسية بأن توقيفه تم فور وصوله الى المطار، كما تم التحقيق معه حول التصريحات التي أدلى بها أثناء محادثات سرسنك .( د. عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 140 ).
وبالرغم من أن صلاح سالم كان واضحا في رفض الأحلاف إلا أنه لم يرفض قيام حوار مع تركيا أو بريطانيا على أساس أن مصر في أي إتصالات تجريها تتمسك بحقوقها وبموقفها المعادي للأحلاف.
ولم يعلن نوري السعيد أثناء مباحثاتنا معه عن نيته في المضي بتوقيع الحلف، بل خرجنا بانطباع أن الموضوع لم يعد قائما خاصة وأننا إتفقنا فعلا على العمل على تقوية معاهدة الدفاع المشترك ودعم الجامعة العربية وتبادل البعثات العسكرية.
وعندما إطلعنا عبد الناصر بعد عودتنا على ما تم التوصل اليه رفض مبدأ الحوار مع تركيا أو بريطانيا باعتبار أن موقف مصر قد تحدد تماما بهذا الشأن ولا جدوى من الحوار مع أي منهما. وكادت تنشب مشكلة بين عبد الناصر وصلاح سالم بسبب قبوله لمبدأ الحوار مع تركيا وبريطانيا. ( مذكرات محمود رياض، المصدر نفسه، ص 56)

نوري السعيد وعبد الناصر
--------------
وإنتهت المشكلة إلا أن نوري السعيد حاول إستغلالها عندما حضر الى القاهرة في 15 أيلول/سبتمبر فقد إستقبله صلاح سالم في المطار . وروى لي صلاح بعد ذلك أن نوري السعيد قال له أنه يعلم بوجود مشكلة بينه وبين عبد الناصر، وأنه على إستعداد لمعاونته، إلا أن صلاح أكد له أنه لا توجد مشكلة على الأطلاق.
وأقام عبد الناصر مأدبة عشاء لنوري السعيد الذي ظل يدور ويلف حول موضوع الأحلاف دون أن يحدد موقفه بوضوح. وتحدد موعد في صباح اليوم التالي لمواصلة البحث وطلب مني عبد الناصر أن أحضر المقابلة. وكان لقاءا طريفا جمع النقيضين ومثّل مواجهة مثيرة بين العقليتين ، عقلية نوري السعيد وعقلية الثورة المصرية.( مذكرات محمود رياض، المصدر نفسه، ص 57)
تقول الدكتورة عصمت السعيد في كتابها عن نوري السعيد في صباح أحد الأيام رنّ الهاتف في منزل نوري السعيد في بغداد وإذا بالصاغ جمال سالم يطلب نوري السعيد زيارة مصر بناءا على دعوة موجهة من قبل الرئيس جمال عبد الناصر للتشاور، ثم أكد له الى جانب ذلك بأن لا أساس قط لما أشيع بعد مقابلات سرسنك عن وجود خلاف بين أعضاء القيادة . وأضاف جمال سالم بأن الكل يرحب بقدومه.وعندما وصل الى القاهرة يوم 14 أيلول /سبتمبر قوبل من أعضاء مجلس قيادة الثورة بكثير من الرعايا والاحترام فخاطبوه باستاذنا نظرا لتاريخ حياته السياسية الحافلة وشكروه على الجهود المتواصلة التي كان يبذلها في سبيل خدمة مصر والعروبة سواء أكان ذلك عند تأسيس الجامعة العربية أو في التظافر مع السيد ظفر الله خان الباكستاني لدعم قضية الجلاء عن قاعدة السويس.( د.عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 146 ).
كانت إقامته في القاهرة محاطة بتحفظات مشددة ومقابلات محدودة بحجة أنها إجراءات أمن إعتيادية نظرا للظروف الحرجة التي تمر بها مصر ولاحظ نوري السعيد أيضا أن النقاش في الاجتماعات التي توالت بعد ذلك كان يدور على الدوام بينه وبين عبد الناصر فقط فاقتنع إقتناعا كاملا بعد تلك الجلسات بأن جمال عبد الناصر هو الحاكم بأمره في الدولة وأنه مصدر الحل والربط في القيادة.( د.عصمت السعيد، ص 147 ).
وفي 14 أيلول/سبتمبر 1954 وصل نوري السعيد الى القاهرة في محاولة لاقناع عبد الناصر بضرورة إقامة ترتيبات دفاعية بين العراق وتركيا وإيران بحجة أن هناك أخطارا تهدد العراق والمنطقة بكاملها بسبب الأطماع الشيوعية التوسعية.
وقد أوضح نوري لعبد الناصر أنه لا يستطيع الاعتماد على العرب في الدفاع عن العراق، وأن السبيل الوحيد للدفاع عن العراق لا يكون إلا بالتحالف مع الغرب.
وخلال اللقاء إقترح نوري السعيد على عبد الناصر ضرورة تقوية ميثاق الضمان الجماعي العربي، وذلك بالتعاون مع الولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا وباكستان وإيران ، بأن تنضم الدول الثلاثة الأخيرة الى ميثاق الضمان الجماعي العربي على أساس أن تتلقى هذه الدول المساعدات من بريطانيا والولايات المتحدة. لكن عبد الناصر رفض مقترحات نوري السعيد ، وأصر على معارضة سياسة الأحلاف ، وأوضح لنوري أن ميثاق الضمان الجماعي العربي كفيل بالدفاع عن الأقطار العربية دون المساس باستقلالها أولا، لأنها بحاجة الى عامين على الأقل لتقرير السياسة التي يمكن أن تسير عليها في علاقاتها مع الدول الغربية.(د.محسن المتولي العربي ، المصدر نفسه ، 219-220 ).
ودارت المحادثات حول أمور هامة في الاجتماع الذي ضم الرئيس جمال عبد الناصر والسادة محمود فوزي ومحمود رياض وصلاح سالم وكان البحث مستفيضا فشرح لهم نوري السعيد أولا وضع العراق الجغرافي وعلاقاته التاريخية بالبلاد المتاخمة . ثم بيّن لهم طموح السوفييت في التوسع ورغبتهم في الوصول عبر الشرق الأوسط الى البحر الأبيض المتوسط للتسلط على منابع النفط الوافرة في المنطقة. وتطرق بعد ذلك الى المزايا التي يستطيع أن يجنيها العالم العربي من التضامن مع البلاد الاسلامية لدفع الخطر الصهيوني وتأمين الاستقرار في تلك البقعة الحساسة. ولاشك أن إنشاء ميثاق دفاعي شامل بين البلاد المعنية سيكون بمثابة سد منيع لصد حركات التوسع التي تضمرها روسيا من جهة وإسرائيل من جهة أخرى على حد سواء .
لقد فاتح نوري السعيد عبد الناصر في هذا الموضوع أثناء زيارته لمصر ونصحه قائلا بأنه كان من الأفضل أن لا تورط مصر نفسها بمعاهدات ثنائية مع حكومات إستعمارية فمن الصعب فك القيود التي يفرضونها بل يستحسن الدخول كما سيفعل العراق. في ميثاق دفاعي مشترك مع بلاد حرة مجاورة. وعلى قدم المساواة بينها. حتى يتم تأمين التعاون الكامل المنظم بينهم وقت الحاجة. لم يعلق عبد الناصر على هذا الاقتراح ولكن الجدير بالذكر هو أن تلك الفترة التي أجريت فيها تلك الاتفاقية التمهيدية الثنائية مع بريطانيا كانت فترة مودة بينه وبين تركيا ويثبت ذلك في خطابات عبد الناصر الى جانب ما كانت تنشره الجرائد المصرية حينذاك من ثناء عاطر على بلاد تجمعه بشعب وادي النيل صلات الرحم والدين والتاريخ التي لا تنفصم .( د. عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 160 ).
وعندما إنتهى نوري السعيد من شرح فكرته أكد له الرئيس المصري بأن المشروع سيدرس جديا فور إستقرار الأمور في مصر نظرا لنشاط بعض العناصر الهدامة في أنحاء البلاد. فأجابه نوري السعيد أن من الحكمة أخذ الاحتياطات اللازمة بسرعة لتأمين الاستقرار في هذه المنطقة الحساسة. وأن لابد من القيام فورا بمشاورات حاسمة مع كافة الدول التي تهتم برخاء وسلامة الشرق الأوسط لتدارك الأمر قبل فوات الأوان. وهكذا إنتهت جميع المقابلات في جو ودي وأظهر الحاضرون إقتناعهم بما قاله نوري السعيد ، فوعد الرئيس عبد الناصر خيرا عندما يتم لهم تنظيم الأوضاع الداخلية في مصر. وإهتم عبد الناصر بالحضور شخصيا الى المطار لتوديع ضيفه عند السفر.( د.عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 108 ).
وهنا إقتنع نوري السعيد بأن الرئيس عبد الناصر وأعضاء القيادة الذين حضروا الاجتماع تفهموا ظروف العراق والاسباب السياسية المهمة التي حملته الى التشاور معهم في تنظيم أساليب تأمين الاستقرار في الشرق الأوسط. قرر التوجه الى تركيا في شهر تشرين الاول/ اكتوبر لاستكمال مباحثاته مع رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس في شأن الميثاق الذي عقده بين الدول المعنية. فصدر على أثر ذلك بيان رسمي مشترك وزعته الوكالات والجهات المختصة الى السفارات العربية في تركيا كافة لارسالها الى حكوماتها على جناح السرعة. كما طلب نوري السعيد من مندريس مقابلة عبد الناصر رأسا عند زيارته للقاهرة حتى لا يخالجه الشعور بأن العراق يرغب في أخذ الصدارة لمعالجة موضوع الميثاق المنتظر.( د.عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 109 ).
في شهر تشرين الثاني /نوفمبر إضطر عبد الناصر تحت ضغط المتاعب والمشاغل الداخلية لارجاء موعد زيارة رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس لمصر من جهة وتأجيل الدعوة الموجهة للملك فيصل الثاني من جهة أخرى .نظرا لتفاقم الاضطرابات الداخلية التي أدت الى شنق بعض أقطاب الأخوان المسلمين.
لقد أظهر عبد الناصر في حينه تفهمه الكامل للاوضاع التي شرحها نوري السعيد ولكنه طلب التريث في الأمر حتى تنتهي مصر من مشاكلها المعلقة في الداخل والخارج وعلى الأخص مشكلة إتفاقية الجلاء عن قاعدة السويس إذ تجاوزت مماطلات بريطانيا سبعين عاما دون الوصول الى نتيجة نهائية.
وعندما طلب منه نوري السعيد تحديد مدة الانتظار في تأسيس الميثاق المشار اليه لم يستطع عبد الناصر تعيين تاريخ ثابت ولكنه وعد بدرس المشروع فور إنتهاء المشاكل التي تحيط به. وحينئذ أجابه نوري السعيد بأن العراق يرجو أن يتم البت في هذا الموضوع بسرعة حتى يتم الغاء المعاهدة الثنائية التي تربطه ببريطانيا لاستكمال سيادته في التاريخ المحدد. وأضاف الى ذلك بأن البلاد المجاورة التي حبذت المشروع تشعر أيضا باتساع نطاق الفتن وأخطارها في المنطقة وتأمل أن يكمل التآزر لتدارك الأمر بسرعة.
ولكن عندما تردد عبد الناصر في تحديد فترة الانتظار سأله نوري السعيد عن الخطوات التي يجب للعراق أن يتخذها في هذا الصدد بالنسبة للظروف السياسية القائمة ، فكان جواب الرئيس المصري كجواب الرئيس الهندي نهرو عندما طرح عليه نوري السعيد السؤال نفسه أثناء زيارة مماثلة للهند أجابه عبد الناصر مبتسما ( إنك خير من يدرك مشاكل وطنك ولك الحرية المطلقة في إتخاذ الخطوات التي ستدفع الأخطار عنها في الوقت المناسب).
ظن نوري السعيد عند سماع هذا الجواب أن عبد الناصر تفهم بوضوح مشاكل العراق فأبدى إرتياحه ثم أخبره بأنه سيمر على تركيا بعد عودته من لندن لاجراء بعض المشاورات مع مندريس فتمنى له عبد الناصر كامل التوفيق . وهكذا إنتهت المقابلات في مصر دون حصول ما يعكر صفو المباحثات وإهتم عبد الناصر بالحضور الى المطار شخصيا لتوديع نوري السعيد عند السفر.( د.عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 148 ).
فبعد تبادل التحية والمشاعر الودية في المطار قبل السفر الى بغداد إنتهز نوري السعيد فرصة سانحة نصح فيها عبد الناصر مخلصا نظرا لشعوره بالتوتر العلاقات بين أعضاء القيادة بوجوب المحافظة على وحدة الصف حتى لا تتزعزع ثقة العالم في تضامن الضباط الأحرار وهم في مستهل حياتهم السياسية. ثم أشار برفق الى وجوب إعادة المياه الى مجاريها وعدم إستعمال القسوة مع محمد نجيب زميلهم السابق.لقد شعر نوري السعيد مباشرة في تلك اللحظة بأن النصيحة لم ترق لعبد الناصر فلم يكترث بالتعليق عليها بل تطرق الى موضوع آخر في الحال ، فمن يدري؟ فربما إعتبر عبد الناصر تلك النصيحة تدخلا في شؤون الدولة أو تآمرا على سلامة الحكم وليس من المستبعد أن يكون هذا الحادث بداية الأسباب التي عكّرت صفو علاقاتهما فيما بعد.(د. عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 149 ).
هذا إضافة الى الملاحظة التي أبداها نوري السعيد عند التشاور مع صلاح سالم أثناء محادثات سرسنك . إذ قال له أنه كان من الأفضل لمصر أن تأخذ رأي الجامعة العربية قبل المبادرة بعقد الاتفاقية التمهيدية الثنائية مع بريطانيا في موضوع الجلاء إذ لا يجوز لها أن تسمح للفرق البريطانية بالرجوع الى قاعدة السويس والمرور عبر الأراضي العربية في حالة حدوث الاعتداء على تركيا دون إستشارة أصحاب الرأي فيها مقدما – لم يكن نوري السعيد يرمي عند إبداء تلك الملاحظة الى إنتقاد تصرفات الحكام في مصر بل أراد مخلصا أن يشير الى نواحي الضعف في الاتفاقية المذكورة. وقد وافقه صلاح سالم في هذا الرأي حينذاك.( د. عصمت السعيد، المصدر نفسه، ص 149 ).
يتحدث الدكتور محمود فوزي وزير خارجية مصر الأسبق عن رأي عبد الناصر أثناء مفاوضات الجلاء مع البريطانيين فيقول" أن عبد الناصر تناول مسألة الدفاع عن منطقة الشرق الأوسط فأكد بأن أهل المنطقة هم المعّول عليهم في الدفاع عنها وبأنه يحق لهم بعد أن يحددوا ضرورات أمنهم أن يستعينوا في ذلك بمن يشاءون . وأضاف عبد الناصر بأن العرب في هذه المرحلة لا يرون أمامهم خطرا على أمنهم غير الخطرالاستعمار الذي سيطر على أراضيهم منذ القرن التاسع عشر وقبله وفي حالة مصر فان الاستعمار البريطاني فرض سيطرته المطلقة لأكثر من سبعين عاما ، وليس من المعقول أن نقفز فجأة فنقول لشعبنا إننا إكتشفنا له عدوا جديدا هو الاتحاد السوفياتي في حين أنه لم يتخلص بعد من عدوه القديم وهو الاحتلال البريطاني. وإنتهى عبد الناصر الى القول أن وسيلة الدفاع الحقيقية موجودة في ميثاق الضمان الجماعي العربي وكل ما يحتاج اليه هذا الميثاق هو إعادة تنظيمه وإعادة تسليحه ليكون بعد ذلك هو الكفيل بالدفاع عن المنطقة وأهلها.( وليد محمد سعيد الاعظمي، نوري السعيد والصراع مع عبد الناصر،المكتبة العالمية – بغدادالطبعة الاولى 1988 ،ص 15 ).
يتحدث صلاح الشاهد مدير المراسم في عهد الرئيس المصري عبد الناصر عن نوري السعيد فيقول" حضر نوري السعيد الى القاهرة يوم 15 أيلول/سبتمبر 1954 وإجتمع بالرئيس عبد الناصر والدكتور محمود فوزي وزير الخارجية وقبل مجيء رئيس وزراء العراق كان الرئيس عبد الناصر قد أوفد المرحوم الصاغ صلاح سالم الى العراق لاجراء محادثات تمهيدية مع نوري السعيد حول حلف بغداد والتي عرفت بمحادثات سرسنك
ويضيف الشاهد " وحضر نوري باشا الى دار الرئاسة يصحبه السيد صلاح سالم وأستقبلتهما على سلم مجلس الوزراء مرحبا ولكني لاحظت أن دولة نوري السعيد يحمل مسدسا بجيبه الخلفي وتعمد إبرازه فأوقفته وقلت له يا دولة الرئيس أرجوك أن تترك المسدس مع ياورك ( مرافقك).فنظر الي قائلا لماذا ؟ قلت قد جرى العرف الدولي على ألا يدخل أحد لمقابلة رئيس دولة مسلحا ولكنه أصر على أن يظل محتفظا بالمسدس بل بالعكس رفع الجاكتة من الخلف ليجعل المسدس بارزا ظاهرا مما أثار إنتباه المصورين وأخذت له عدة صور وهو يصافح الرئيس عبد الناصر وسلاحه ظاهر فيها".
وعن محادثات نوري السعيد مع عبد الناصر يقول فيصل حسون نقيب الصحفيين العراقيين الأسبق في مذكراته " في أيلول /سبتمبر 1954 قام نوري السعيد بزيارة الى القاهرة والالتقاء بالرئيس المصري جمال عبد الناصر للتباحث حول ميثاق بغداد وذلك عقب الزيارة التي قام بها الى العراق الصاغ صلاح سالم عضو مجلس قيادة الثورة المصرية وزير الأرشاد القومي آنذاك حول الموضوع نفسه
وفي شهر آب/أغسطس من العام نفسه أدلى السعيد بتصريحات عقب لقائه سالم في مصيف سرسنك شمال العراق تمنى فيها لو أن رجال ثورة 23 يوليو المصرية قاموا بحركتهم قبل موعدها ببضع سنين إذن لتغير على حد قوله وجه التاريخ العربي لأنهم بما يقومون به الآن يجددون شباب الثورة العربية. وقد لقي السعيد ترحيبا لدى زيارته القاهرة من الصحافة المصرية لم يعرفه من قبل إذ دأبت على مهاجمته دائما، وكان نوري السعيد سعيدا بتلك الزيارة حيث التقى عبد اللطيف البغدادي عضو مجلس قيادة الثورة وتحدث معه لمدة أربع ساعات بشأن السياسة الدفاعية في الشرق الأوسط والموقف العربي من الشيوعية ومن التحالف مع الغرب.

شهادة الملحق العسكري العراقي في القاهرة
------------------
وينقل فيصل حسون في كتابه عن محسن محمد علي الملحق العسكري العراقي في القاهرة آنذاك والذي حضر مع السعيد جميع لقاءاته بالمسؤولين المصريين قوله" أن عبد اللطيف البغدادي كان يؤمن بالآراء التي يبديها نوري السعيد ويعلن إقتناعه بها وموافقته على خطوطها الكبرى بحيث أنهما إنتهيا من الاجتماع في منتهى الصفاء وبدا نوري السعيد مبتهجا لأنه إستطاع أن يقنع البغدادي بوجهات نظره وبتحليلاته للموقف العام ظانا أنه بذلك سيتوصل الى إقناع مجلس قيادة الثورة حتى تناول غداءه في ذلك اليوم بشهية منفتحة وبدا مرحا الى أقصى الحدود" .
ويضيف محسن محمد علي" وتحدد موعد الاجتماع الرسمي والختامي مع مجلس قيادة الثورة وذهب نوري السعيد الى الاجتماع مطمئنا وفي يقينه أن البغدادي قد أقنع رفاقه بوجهات نظر السعيد ولهذا فلن تطول الجلسة ولن تكون هناك حاجة الى مزيد من الجدل والنقاش.وبدأ الاجتماع فطلب جمال عبد الناصر من نوري السعيد أن يطرح أفكاره ووجهات نظره فرد السعيد والرواية ما تزال على لسان وذمة محسن محمد علي بأنه يعتقد أنه أفضى بكل ما عنده للأخ البغدادي الذي وافقه على آرئه ولا بد أنه قد نقل الى مجلس قيادة الثورة تفصيلات ما دار بينهما.والتفت عبد الناصر الى البغدادي يسأله رأيه فكان جوابه مفاجأة ضخمة بل صدمة لنوري السعيد اذ قال: أنني إستمعت الى الباشا ولكنني لم أوافقه على أي شيء مما قاله. وإنفعل نوري السعيد فتوجه بكلامه والزبد يتطاير من فمه الى البغدادي قائلا: ولكنك بالأمس كنت تؤيد كل ما تحدثت به اليك. وبكل هدوء أجاب البغدادي : آسف لم يحصل. وهنا أخذ الغضب بأعصاب نوري السعيد كل مأخذ وإسودت الدنيا في عينيه وقبل أن يتفوه بأية كلمة أخرى عاجلته نوبة أغماء من شدة التأثر ثم تم نقله الى غرفة آخرى بقصد المعالجة والأسعاف.( فيصل حسون، المصدر نفسه، ص 62-63)

شهادة فاضل الجمالي
---------------------
يقول الدكتور فاضل الجمالي والذي كان يشغل منصب رئيس وزراء سابق ووزير خارجية وممثل العراق في الأمم المتحدة بأن نوري السعيد قد أخبره بموافقة الرئيس عبد الناصر بالدخول في الترتيبات الدفاعية بعد إفصاح العراق عن نواياه بشكل تام لمصر وباقي الحكومات العربية بهذا الصدد وبما أن مصر لم تكن مستعدة آنذاك بالدخول في هذه الترتيبات فقد أبلغه عبد الناصر بامكانية المضي قدما في العملية . ثم يقول الجمالي بأن الرئيس عبد الناصر قد أنكر ذلك فيما بعد وبأنه لم يقصد ما قصده وذهب نوري السعيد ويبدو أن سوء الفهم قد حصل بين الطرفين، ولا شك أن نوري السعيد كان يبرر ويدافع عن نهج سياسته الخارجية في البرلمان وفي محادثاته الخاصة أو في مقابلاته الصحفية وحساس كثيرا تجاه النقد، فالبنسبة لنوري السعيد كان الحياد يعني عدم القدرة على إسماع صوت العرب في العالم. وكان نوري كذلك يؤمن بقيام جامعة دول عربية تقوم على أساس التعاون مع الغرب بشرط إمكانية التوصل الى إتفاق حول إنسحاب بريطانيا من السويس وحل القضية الفلسطينية التي ستشجع العرب على التعاون مع الغرب.( د.وليد الاعظمي، المصدر نفسه، ص 23 ).
وغادر نوري السعيد القاهرة الى لندن بعد أن قال لعبد الناصر أنني مضطر في سبيل تأمين حدود العراق الشمالية من الخطر الشيوعي للاتفاق مع تركيا وإيران . فرد عليه عبد الناصر قائلا ) أنت حر). أما نحن فلا نستطيع الآن الالتزام بسياسة الأحلاف.حيث عرض على الحكومة البريطانية بعض المقترحات للتعاون مع الغرب تضمنت تكوين حلف من خمس دول هي العراق وتركيا وسوريا وإيران وبريطانيا على أن يقوم العراق بعرض الأمر على سوريا أولا، وعند رفضها تأخذ بريطانيا على عاتقها عقد ميثاق مع الدول الأخرى مع إحتمال دعوة باكستان الى الانضمام للتشكيل الجديد ، وفي حالة عدم إستعداد إيران نظرا لظروفها الداخلية طرح نوري فكرة عقد ميثاق ثلاثي بين العراق وباكستان وبريطانيا. كما طلب من سلوين لويد وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية إقراره ويتلخص في:
أولا- ربط ميثاق الضمان الجماعي العربي ربطا وثيقا بالدول الغربية.
ثانيا-تزويد الحكومات العربية بالأسلحة والمعدات الكافية.
ثالثا- تتولي تلك الدول تدريب الجيوش العربية .
هللت بريطانيا للمشروع العراقي وإستكملته باتفاق مع نوري السعيد يفضي للاسراع في عقد ميثاق بين تركيا والعراق تنضّم اليه إيران فيما بعد وباكستان وإنكلترا نفسها.
وقد أكد ذلك نوري السعيد في خطابه الذي أذاعه مساء يوم 25 كانون الأول / ديسمبر 1956 أن عبد الناصر إستمع الى أفكاره وأبدى تأييده لها لكنه أبلغه أن مصر وهي لم تكن تطمئن بعد الى الخلاص من أغلال معاهدة 1936 بعقدها إتفاقية الجلاء مع بريطانيا لا تستطيع في الوقت الحاضر الاشتراك في تحالفات جديدة وقد تفعل ذلك في المستقبل.
ولما قال له نوري السعيد أن أوضاع العراق لا تحتمل الانتظار في إتخاذ الخطوات الدفاعية والرغبة في التخلص من معاهدة 1930 التي عقدها نوري السعيد نفسه . أجابه عبد الناصر " أنت أدرى بمصلحة بلدك، وأنت حر فيما تفعل من أجل هذه المصلحة".( فيصل حسون، المصدر نفسه ص 62 –63 )
ويقول عبد الله بكر رئيس الديوان الملكي آنذاك أن الأمريكيين كانوا يريدون حلفا لاغراضهم بينما كان العراق يحاول أن يستفيد من حلف بغداد لكسب التأييد للقضية الفلسطينية

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

706 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع