" حمامات السوق في بغداد وحمام الطفولة، ذكريات لا تنسى وحنين للماضي لا ينقطع"
عاشت المقاهي الثقافية عصرًا ذهبيًا منذ نهاية القرن التاسع عشر وطوال القرن العشرين، وأصبحت أحد محاور صناعة الثقافة العربية انطلاقًا من القاهرة وبيروت ثم دمشق وبغداد وتونس والمغرب والجزائر..، فقد لعبت المقاهي دورًا كبيرًا في تشكيل الحركة الأدبية العربية وبث وترجمة نشاطات الواقع الاجتماعي والادبي والسياسي والاقتصادي، وهو ما تجلّى في حياة الكثير من الكتاب والشعراء والرواة، كما انها كانت المكان المفتوح للقاء الأصدقاء وعقد الندوات والجلسات الثقافية الموسعة،
صدرت المقاهي، إلى العالم حالات فكرية متنوعة وغنية، كانت طاولات المكان وكراسيه من الشهود عليها أصلا، ما طرأ على الزمان والمكان من تغيرات، كان لا بد له أن يطرأ أيضا على تلك المقاهي شكلا ومضمونا، فالمقاهي اليوم تحتفظ بذكرى سطحية لعالم المقاهي الثقافية، وهي مجرّد لقاء مع أصدقاء وليس عقد ندوة ثقافية، او مقرا لاجتماع الشعراء والفنانين يتبادلون انتاجاتهم ويسردون حكاياتهم الشعبية في قالب يمزج بين الضحك والحزن والهزل المطرزة بقيم الجمال والأخلاق النبيلة المفقودة اليوم، في عالم اليوم كثرت المقاهي وأصبح روادها يتكاثرون يوما بعد يوم ليقظون ساعات أمام مشاهدة مباراة كرة القدم بعد أن حلت شاشات البلازما لنقل الحدث على الحيطان، ومع ذلك تبقى المقاهي هي ملاذ الغرباء، وسلوى، وطمأنينة المحبين، وصديقة الأدباء والمثقفين، وحكايا الأزمنة والعابرين، فناجين قهوتها تحمل من الأخبار والأسرار، والقصص والعبر، تنبئك عن الألم والأمل، الفرح والحزن، النجاح والفشل، في أحدى الصباحات الجميلة المشمسة، كان لنا لقاء مع بعض الأصدقاء، في مقهى الاونديجي المطل على بحيرة خالد الذي اشتهر بتقديمه المعجنات والمشروبات المختلفة كالشاي والقهوة وغيرها، فكل لقاء هو إضافة شيء آخر في دفتر الذكريات، وذلك لأن الذكريات وصور الماضي حاضرة عند كل لقاء، ونحن ننظر الى الجو الجميل البارد عبر نافذة المقهى سرح بذكر احد أصدقائنا الحديث عن جمالية الذهاب الى حمامات السوق أيام الشتاء والاستمتاع بطبيعة تلك الحمامات وجمال مكانتها، كذلك سرحت بنا الذكريات عن الحمامات، البيتية وقسوتها ورعبها عند الأطفال كل جمعة، وبهذا الحديث وتشعباته، بدأنا رحلة مشوقة بالكتابة عن الحمامات الشعبية (حمام السوگ)التي كانت تزدهر بها بلاد الرافدين وبغداد، رغم أن أجيال هذا الزمان لا تعرف الكثير عن تلك الحمامات الشعبية، إلى أن قصصها وحكاياتها لم تغفلها كتب التاريخ ولا أفلام السينما القديمة فحسب، سنحاول في مقالتنا توثيق ذلك وبكل حنين وشوق لتلك الأيام.
مارس الإنسان الاغتسال تحت الشلالات وفي الأنهار والوديان والبحار، وجميع مجاري المياه الصافية، فكر بوسيلة أكثر عملية وحضارية تمكنه من ذلك كلما أراد أن يستحم، ومهما اختلفت ظروفه المكانية أو الزمانية أو المناخية، ومن هنا خلقت فكرة تشييد عمارة للاستحمام والاغتسال تسمح بتخزين المياه والتحكم في درجة حرارتها، اذ إن البشرية عرفت نوعين من الاغتسال، الاغتسال الذي يقصد به العناية بالجسد، والاغتسال الذي يقصد به التعبد وطقوس العبور الديني، وكلاهما مختلف من حيث الشكل والوظيفة والتقنيات، فمثلاً الحضارات القديمة غالبها يحتوي على فضاء للاغتسال الطقوسي الذي يكون بغطس الجسد كاملاً في الماء، ذلك الغطس المقترن والمستوحى من خروج الإنسان إلى الحياة كيوم ولدته أمه بعد أن كان مغموراً بماء رحمها، يقول الباحث العراقي خزعل الماجدي في كتابه "متون سومر"، "كان حوض الغطس أو الطقسي، يسمى في الحضارة السومرية (أبسو) وكان متصلاً بقنوات مياه جارية خارج المعبد، حيث كان السومريون يمارسون طقس الوضوء قبل ممارسة الصلاة"، ويتابع الماجدي الحديث عن طقوس السومريين ويتحدث عن التطهير عندهم وعند البابليين والآشوريين، فقال إنه "يجري بطرق عدة وهي إحراق البخور وسكب السوائل كالماء والزيت والحرق والدفن والاغتسال، فقد كان التطهر شرطاً أساسياً لكل من يدخل المعبد سواء كان ملكاً أو كاهناً أو من عامة الشعب، ولهذا فقد ارتبطت ظاهرة الاستحمام والطهارة بالإنسان منذ القدم، اذاً فالحمّام في بلاد الرافدين هو في الأصل موروث قديم عرفته البلاد في الحضارات القديمة بدءا بالفترة البابلية حيث برزت ظاهرة الاستحمام وخصصت لها طبيعة بناء مستقلة تشهد عليها الآثار الباقية، وفي الفترة الرومانية تطورت هذه البنى من خلال ما يسمى بـ"الحمامات الرومانية" التي اشتهرت كثيرا في عصرها وبقي ذكرها خالدا إلى اليوم ، ولم تخل حضارة من هذه الظاهرة بما في ذلك حضارات العرب، أقتصر وجود الحمامات في وادي الرافدين فقط على القصور ولم يُثبت وجودها في البيوت الخاصة...
بُلطت غالبية أرضيات الحمامات بالآجر وبعضها بالحجر والكسر الفخارية وقد جُعلت الأرضية منحدرة قليلاً من أجل السماح للماء بالتدفق إلى زاوية محددة ثم إلى نظام صرف صحي فعال خدم المدينة عبر أنابيب صرف فخارية أو مزالق الصرف الصحي، وكانت مجاري الصرف التي في الطابق العلوي عبارة عن أنابيب فخارية بُنيت داخل جدران البيوت تقوم بصرف المياه إلى مجاري البيت الخاصة ثم إلى مجاري الصرف العامة في الشارع.
تعود فكرة حمامات السوق إلى الإغريق في القرن الخامس ق.م، اذ اعتبروا النظافة شكلاً من أشكال فن الصحة، وفقاً لمدرسة "أبو الطب أبقراط"، كما يرجح بعض المؤرخين نشأة حمامات السوق إلى زمن الإمبراطورية الرومانية في القرن الثاني قبل الميلاد، والبعض الآخر إلى الفراعنة،
استخدمت الديانات طقس الوضوء والاغتسال فالديانة المندائية كانت معروفة بديانة التعميد أي تغطيس الجسد بالمياه، وهي الممارسة التي استمرت كذلك في المسيحية، إضافة إلى الاغتسال في اليهودية والوضوء في الإسلام، معتمدين دائماً على مفهومي الطهارة والنجاسة، ثم أصبحت تلك الحمامات مبان مستقلة تديرها المدينة، وقد شكلت ما يشبه الصالونات الأدبية بصيغة اجتماعية وضمت الحمامات في ذاك العهد أحواضاً صغيرة فيها إما مياه حارة أو باردة، وكانت مفتوحة للعامة، واعتنت بتشييدها وزخرفتها، كما اعتنت بتسيير مجاري مياهها، وإتقان أحواضها وصهاريجها.
ظهر التطور والازدهار الحقيقي في بناء الحمامات العامة مع الحقبة الإسلامية، حيث انتشرت في جميع أنحاء البلاد، وأبدع في بنائها الحكام، في بغداد أنشأت الحمامات في عصر الخلافة العباسية، وأصبحت جزأً من حياة المجتمع البغدادي، فكانت تمثل المنتدى الذي يقضي فيه الناس وقتا طيباً سواء للرجال او النساء ويتساوى فيه الأغنياء والفقراء، كما كانت تمثل عنصراً رئيسياً في تقاليد الزواج والختان الكبيرة لتصبح جزءاً من الحضارة الشرقية التي يغفل الكثيرون اليوم فضلها على حضارة الغرب، وأحسن ما كانت في أيام الرشيد، فإلى جانب عددها الكبير، فقد تميزت بطريقة خاصة في بنائها وإبراز مظهرها الخارجي للناس، إذ كانت تطلى بالقار فيتبادر الى ذهن الرائي أنه رخام أسود، وهذا القار يجلب من عين بين الكوفة والبصرة، تنبع به ولا تنقطع حتى يصير في جوانبها كالصلصال، فيجرف منها ويجلب إلى بغداد، وكان الحمام الذي أنشأه المنصور إلى جانب المسجد الجامع والسوق، يشتمل على مدخل صغير يؤدي إلى ممر منكسر، ينتهي إلى المشلح الذي يشتمل على مواضع لخلع الملابس وحفظها وبه مجلس معلم الحمّام الذي يأخذ الأجور ويشرف على العمل بالحمام، ويتصل المشلح بالحجرة الأولى من الحمام، وهي التي تسمى الحجرة الباردة أو بيت أول، وهي مزودة بأحواض الماء أو الهواء الساخن الذي يمر عبر أنابيب فخارية بحيطان القاعة، آتية من جهة المستوقد، وتتصل هذه الحجرة بحجرة ثالثة هي بيت النار أو الحجرة الساخنة، وهي مزودة بمغطس يبلغ فيه الماء الساخن أقصى درجة الحرارة التي يمكن أن يتحملها جسم الإنسان، وغالباً ما يستخدم في بناء الحمامات الآجر والحجر والرخام، وهي مواد تتحمل الماء وهذا ما جعل هندسة الحمام تتناسب مع مواد بنائه في أداء وظيفة الحمام التي تعتمد على الماء.
ان طاقم العاملين في الحمام يتألف من خمسة أو ستة رجال، وهم حمامي، وقيم، وزبال، ووقاد، وسقاء، وذكر هلال الصابئ ان العاملين في الحمام هم:
صاحب الصندوق، والقيم، والوقاد، والزبال، والمزين، والحجام، وقد فرض المحتسب شروطاً على طاقم الحمام، ففرض على قامة الحمامات العامة من اللذين يديرونها واجب غسلها وكنسها وتنظيفها بالماء الطاهر، ودلك البلاط بالأشياء الخشنة. حيث كان وقود الحمام يتألف من الزبل والشوك اليابس، كما فرض شروطاً صحية أخرى، ومنع دخول المجذوم، والأبرص، ويظهر ان الحمامات كانت تترك الأوساخ التي تجري في الطرقات العامة وتسبب أذى للناس مما حمل حاكم بغداد، سنة (467 ه) على ان يأمر المحتسب بمنع الحمامين من إجراء مياه الحمامات إلى نهر دجلة وان يلزمهم بحفر آبار تجتمع فيها المياه.
عثر العلماء على موقع المستوقد خلف حمام في بغداد، حيث كان يتم فيه، تسخين الماء في قدور نحاسية كبيرة، وكان الماء والبخار يمران عبر أنابيب فخارية إلى وحدات الحمام المختلفة، كما عثروا على الباب الخلفي للمستوقد، حيث كان يزود بالوقود من حطب وأزبال ونفط، ولقد كثرت الحمامات في بغداد بعد توسعها، كثرة بالغة، فمع نمو مدينة السلام، كانت تزداد الحمامات فيها زيادة عظيمة، وتكشف روايات المؤرخين عن احصاءات عديدة لهذه الحمامات توضح ذلك، اليعقوبي في كتابه (معجم البلدان )في عام 284 هجريه، 897 م ان عدد الحمامات في الجانب الغربي ( الكرخ ) 10 الاف حمام وفي الجانب الشرقي (الرصافه) 5 الاف حمام وفي كل حمام يعمل خمسة افراد (حمامي ، قيم، زبال، وقاد، سقا ) وتناقص عددها الى 150 حمام في عام 1258 م وكانت اهم الحمامات في تلك الفتره وأحصاها الصابي (ت 448ه) بستين ألفاً، ويكشف الفارق بين الاحصائين عن الزيادة في عددها انعكاساً لنمو المدينة في ذلك الزمن، فإنها تدل أيضاً على أن الحمامات البغدادية، كانت من المنشآت البارزة بين التكوينات المعمارية لمدينة السلام، خصوصاً إذا قورنت بالكشوف الأثرية للحمامات في بعض المدن الإسلامية الأخرى مثل القاهرة وفاس، وتحدث بعض المؤرخين عن حكايات طريفة عن تلك الحمامات التي أصبحت جزأً من الفولكلور البغدادي، اما الف ليلة وليلة فقد زخرت بحكايات، كانت احداثها تمر على حمامات بغداد، فيها المؤانسة وقصائد أبي نواس وغناء جواري العصور الذهبية، ومن الحمامات الشهيرة في بغداد على شاطئء دجلة الشرقي، والتي وصلتنا تفاصيل بنائها وتصميمها الحمام الذي أنشأه شرف الدين هارون بن شمس الدين محمد الجويني، ، وحسب ما أورده بدر الدين الحسن بن زفير الإربلي في وصف أحد الحمامات البغدادية قائلا:
رأيت ببغداد في دار الملك شرف الدين هارون ابن الوزير الصاحب شمس الدين محمد الجويني حماما متقن الصنعة حسن البناء كثير الأضواء قد احتفت به الأزهار والأشجار فأدخلني إليه سائسه وذلك بشفاعة الصاحب بهاء الدين بن الفخر عيسى المنشئ الإربلي وكان سائس هذا الحمام خادما حبشيا كبير السن والقدر، فطاف بي عليه وأبصرت مياهه وشبابيكه وأنابيبه المتخذ بعضها من فضة مطلية بالذهب وغير مطلية وبعضها على هيئة طائر إذا خرج منها الماء صوّت بأصوات طيبة، ومنها أحواض رخام بديعة الصنعة، والمياه تخرج من سائر الأنابيب إلى الأحواض ومن الأحواض إلى بركة حسنة الإتقان، ثم منها إلى البستان،
ثم أراني نحو عشر خلوات كل خلوة منها صنعتها أحسن من صنعة أختها، ثم انتهى بي إلى خلوة عليها باب مقفل بقفل حديد، ففتحه ودخل بي إلى دهليز طويل كله مرخّم بالرّخام الأبيض الساذج، وفي صدر الدهليز خلوة مربعة تسع بالتقريب نحو أربعة أنفس إذا كانوا قعودا، وتسع اثنين إذا كانوا نياما ورأيت من العجائب في هذه الخلوة أن حيطانها الأربعة مصقولة صقالا لا فرق بينه وبين صقال المرآة، يرى الإنسان سائر بشرته في أي حائط شاء منها، ورأيت أرضها مصورة بفصوص حمر وصفر وخضر ومذهبة وكلها متخذة من بلور مصبوغ بعضه أصفر وبعضه أحمر فأما الأخضر فيقال إنه حجارة تأتي من الروم وأما المذهب فزجاج ملبس بالذهب، وتلك الصورة في غاية الحسن والجمال على هيئات مختلفة في اللون وغيره من هنا ندرك بأن الحمامات الشعبية العربية وخاصة ببغداد كانت على درجة عالية من الإتقان وإبراز الناحية الجمالية، وحسب ما روي أيضا عن بعض الحمامات البغدادية، أنه وجد في صدر إحدى الخلوات حوض رخام مضلع وعليه أنبوب مركب في صدره، وأنبوب آخر برسم الماء البارد والأنبوب الأول برسم الماء الفاتر، وعن يمين الحوض ويساره عمدان صغار منحوتة من البلور يوضع عليها مباخر الند والعود، و قد أنفق عليها أموال كثيرة من هنا تتجلى لنا التقنية الإسلامية في الحمامات في وقت كانت غائبة عن البلاد غير الإسلامية التي كانت تئن تحت نير الجهل والظلام، فهم أي العرب أول من أنشأ شبكة مياه في مواسير من المعدن توصل الماء بانتظام الى الحمامات الشعبية والى البيوت أيضاً، ويتجلى في تلك المرحلة انبهار المستشرقين بأجواء عمارة الحمامات واعتبارها جزءاً من حياة المجتمعات.
تعتبر الحمامات البغدادية حسب ابن بطوطة الذي زار بغداد س عام 727هـ في القرن13م التي كانت خاضعة لحكم السلطان أبي سعيد بهادر خان تاسع حكام الدولة المغولية الإيل خانية، من أبدع وأبهى الحمامات التي زارها في البلاد التي طاف بها، سواء من حيث طريقة بنائها أو طريقة عملها وتنظيمها، حتى أن بغداد أخذت شهرتها من حماماتها يصف الرحالة ابن بطوطة ، الحمامات البغدادية بقوله: "النصف الأسفل من جدرانها مطلي بالقار والأعلى بالجص الأبيض. وفي الحمام خلوات (غرف) وداخل كل خلوة حوض من الرخام عليه أنبوبان أحدهما يجري بالماء الحار والآخر بالماء البارد، ويـدخـل الإنـسـان الـخـلـوة مـنـهـا مـنـفـرداً لا يـشـاركـه أحـد إلّا إذا أراد ذلـك. وفي زاويـة كـلّ خـلـوة أيـضـاً حـوض لـلاغـتسـال فـيـه أيـضـاً أنـبـوبـان يـجـريـان بـالـحـارّ والـبـارد. وكـلّ داخـل يُـعـطى ثـلاثـاً مـن الـفـوط : إحـداهـا يـتّـزر بـهـا عـنـد دخـولـه، والأخـرى يـتّـزر بـهـا عـنـد خـروجـه، والأخـرى يـنـشّـف بـهـا الـمـاء عـن جـسـده. ولـم أرَ هـذا الإتـقـان كـلّـه في مـديـنـة سـوى بـغـداد"، وضرب بها المثل في الروعة وحُسن البناء!، فقال ايضاً:”حتى يظن الرائي أن القار التي تطلى به رخاما أسود”، وكلما زاد عدد الحمامات في مدينة ما علا شأنها، وكانت الحمامات تزين بالصور وتزدحم أيام الجمع وكان العيارون يأوون إليها وينامون فيها، و لاقى دخول المرأة الحمام في أيام خاصة بها التشجيع وكانت المرأة تتفنن في تبرجها في الحمام، هذا العدد الكبير من الحمامات ودورها الكبير في النظافة البدنية، وفي الصحة العامة لسكان بغداد، وأيضاً في نظافة بيئتها الداخلية.
ظلّت الحمامات العامة الفاخرة إحدى العلامات الأساسية لمدينة بغداد حتى باغتها المغول إبان اكتساحهم المدينة فاختبأ الناس في أفرانها هرباً من المذابح التي كانت تجري في الشوارع وكانت إيذاناً بانتهاء مجد المدينة،
ومنذ أواخر العهد العثماني وبداية نشوء الدولة العراقية والى وقت غير بعيد، فان حمام الحي كان جزأً من الحياة البغدادية يأخذون اليه حكاياتهم، وقصصاً تدخل تحت تدفق المياه الساخنة والتكييس والتدليك للاستمتاع بأجوائه، ومن الطقوس الجميلة التي تنعش الذاكرة مع الأصدقاء ومع غيرهم من الزوار في جلسات تملؤها مظاهر المسرة من احاديث وغناء ونكات، فارتياد الحمام مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية وعادة متوارثة من الإباء والاجداد، الذين كانوا يؤمنون بالمعتقدات والعادات والقصص المروية،
وتميزت الحمامات الشعبية جميعها بالطراز البغدادي ذي الأقواس والقباب والدهاليز، وكانت توقد ممرات الحمامات المظلمة بـ(القناديل والشموع) قبل إشاعة الإنارة (الكهرباء)، وكان لكل حمام بغدادي في سقفه فتحات زجاجية ملونة بالأخضر، والاصفر، والاحمر بغية تسرب الضوء الى داخل الحمام ، ومن أشهر وأقدم الحمامات الشعبية في بغداد بعضها ما زال يشاهد والبعض الآخر انقرض لطول عمره، اذ حلت محله العمارات والمخازن التجارية ومن هذه الحمامات:
"حمام شامي" ويطلق عليه ايضاً "حمام الشامي" من أقدم حمّامات الكرخ وأوسعها، إن لم يكن أقدم حمامات بغداد وأوسعها، ويعود تاريخ بنائه إلى أوائل القرن السادس عشر، ويقع في علاوي الشيخ صندل وهو دون مستوى الأرض والنزول إليه يتم بسلم من ست درجات، وهذا ما جعل بعضهم يتحمس ويدّعي ان الإمام موسى الكاظم قد إغتسل فيه ذات يوم، على ان من الثابت ان عمره يتجاوز (400) عام، وقد حاولت جاهدة دائرة الآثار وقف تهديمه حين استملاك وفتح شارع حيفا لكونه تراثياً ولكن جهودها باءت بالفشل فهدم ضمن استقامة الشارع.
في جانب الكرخ كان هناك عدد ضئيل من الحمامات ذكرنا حمام شامي أعلاه كأقدم حمام، والبقية هي: "حمام أيوب" او (حمام اليتيم) وهو عائد الى أيوب اليتيم، والذي كان ملتقى اجتماعي لأهالي الزقاق وكبار الشخصيات في المجتمع مثل بهجت العطية وتوفيق السويدي وعمو بابا، وهذا الحمام لا يختلف عن حمام شامي من حيث البناء لكنه يخالفه في الحوض الكبير الذي يرتفع عن قاعة (التعرق)، هذا الحمام التراثي اصبح ورشة للاخشاب!، و"حمام الجسر" مقابل التقاعد العامة، ويقع في مدخل جسر المأمون من جهة الكرخ بجوار مشهد بنات الحسن، وكان يديره الحمامجي، وحمام "الفحامة" في محلة الفحامة، وحمام "الحاج إبراهيم بن محمد" وحمام "التميمي" في محلة علاوي الحله، وحمام "الجعيفر".
في جانب الرصافة هناك من الحمامات الكثير لكون الرصافة اكبر من الكرخ، ومن اشهر هذه الحمامات "حمام حيدر" ويقع بجوار ساحة الغريري وكان يسمى حمام المملكة، وهو من الحمامات القديمة والمشهورة بقسمه الرجالي والنسائي نسبة الى حيدر الجلبي الثري المعروف، ذكره المؤرخ العثماني اوليا جلبي سنة 1665م، أيام الوالي العثماني آق محمد باشا، وهو ذو نموذج بنائي نادر الا انه مهجور ومهدم، و"حمام الشورجة" في محلة الفراشة في (سوق الشورجة) يعتقد انه حمام "البقال خانة" و "وحمام بنجة علي" مقابل سوق الصفافير المطل على شارع الرشيد قرب جامع مرجان وتم هدمه وبناء عماره محله، و"حمام كجو" في باب الأغا، في اول شارع المأمون وقد تم هدمه وبني محله البنك اللبناني، و"حمام الكهيه" الذي يقع في محلة دكان شناوه وقد زال بدخوله شارع الجمهوريه بعد افتتاحه، و"حمام عويد" في محلة المربعة، و"حمام كيجة جية" في محلة العاقولية، و"حمام الباشا" قرب سوق هرج في محلة جديد حسن باشا ونهاية محلة الميدان مقابل مقر شرطة بغداد غير بعيد عن قشلة بغداد وبعد ازالته تم بناء المصرف العقاري وهو حمام واسع المساحة، وكان الحمام الوحيد الذي يقبل استحمام بنات الهوى عندما كان القانون يبيح البغاء ولا يمنعه حتى منعه سنة 1958حيث كان يقبل النساء يومين في الاسبوع ويوماً ثالثاً يخصصه لاستحمام بنات الهوى، وهذا الصرح مهدم ولم يبق منه الا القبة التي بنيت من الاجر والجص ، و"حمام المالح" الذي سميت المحلة باسمه، وتقع هذه المحله بين محلات المهديه والقراغول وقنبر علي تنسب الى الحمام هذه واشارت وقفيه الى هذا الحمام بحكم محكمة بغداد سنة 1858، وكان القائمون على هذا الحمام يسمون بالحمامي وكان عميدهم "سلمان افندي الحمامي"، و "حمام الجلبي"، "حمام الراعي" في محلة كهوة شكر، و حمام "السيد يحيى" في محلة سوق الغزل، و حمام"آل جميل"، و حمام "آل المفتي"، و حمام "الحاج رسول" في محلة جديد حسن باشا، و حمام "الحيدر خانة"، و"حمام "تاجه" ويقع في عقد جاموس، وحمام "قنبر علي" في محلة قنبر علي"، وحمام "النقيب" في شارع النهر، وحمام "السيد رووءف" في محلة المربعه، و"حمام جسومة" الخاص بالنساء في محلة دكان شناوة، وحمام "التليخانة" قرب التليخانة عند سوق الهرج، و حمام "الخستخانة" في محلة الخستخانة، وحمام "الخيزرانة في محلة الحيدر خانة، وحمام "السيد" في محلة الصدرية، وحمام "الشفاء" في محلة جديد حسن باشا، وحمام "رأس الكنيسة" في محلة البارودية، وحمام "الشيخ شكر" وحمام "عيفان" في محلة الفضل، و حمام "فضوة عرب"، وحمام "حميدي" في شارع الكفاح في باب الشيخ..
وحمام "المهدي" و"حمام العقيل" في محلة باب الشيخ، وهو الحمام الخاص برياضي المحلة و حمام "الكمرك" في محلة المصبغة، و حمام "الكريمات" وحمام"السراي"، وحمام "الميدان" في منطقة الميدانوحمام "الشرطة" في الميدان، وحمام "الرافدين" في شارع المتنبي، و"حمّام كيجه جيلر" و"حمّام "بكتاش خان" وغيرها من الحمّامات التي اختفت من بغداد الان، وحمام "الحاج مهدي" في "الكرادة" والذي يقع في الازقة القديمة، فقد أنشأه عام 1936 الحاج مهدي، يعتبر حمام الحاج مهدي من الحمامات التي تعمل الى يومنا هذا، فهو نموذجيا من وجهة نظر تنظيم وهيكلة الحمامات الشعبية في الشرق، ففيه الصالة العامة التي تشبه المقهى الشعبي أو البهو حيث يتناول الزوار المشروبات الساخنة تحت قبته وثمة منازع اشتراكية وأخرى لمن يحجز غرفة خاصة به. وفيه ما يسمونه «الصحن» الذي يعتبر المحطة الثانية بعد الحمام الساخن ومسبح صغير للماء البارد لمن يرغب، وثمة مكان يطلقون عليه "الحارة" يعالجون فيه آلام الظهر بمساعدة "خبراء" في العظام والتجبير بالإضافة الى غرفة المساج التقليدي.
أن أشهر حمامات الرجال في بغداد كان حمام يونس في باب المعظم، والذي كان يغتسل فيه أبناء المحلات المجاورة للميدان وبعض البغداديين الذين يقصدونه من أماكن قريب، وحمام القاضي بحانب المحكمة الشرعية، هذا الحمام كان رواده من تجار بغداد المعروفين، لذا كانت الخدمة فيه ممتازة، كما كان فيه ايضاً لكل تاجر معروف" مدلكه الخاص"، الذي يعرف كيف يتعامل معه، ومما يؤسف له ان هذا الحمام قد ازيل وانشأ بدله سوقا للأقمشة وبهذا فقد هذا البناء التراثي.
في الكاظمية فان اول حمام يرجع بناءه الى العهد العثماني هو "حمام الجرموقه" الذي بناه الشيخ العلامه مهدي الجرموقي و"حمام الملوكي" الواقع مقابل مدرسة الخالصي والذي تم بناءه سنة 1930م وحمّام الميرزا هادي سمي حمام الجوادين لاحقاً، وهو من أقدم حمامات بغداد العامة يقع في الجانب الغربي من بغداد بمدينة الكاظمية في محلة الأنباريين جادة قريش بالقرب من باب الأنباريين.والمجاور لجامع الترك، تم هدمه كذلك جامع الترك لتوسعة مرآب للسيارات مجاوراً له وحمام "الأمير" في محلة القطانه وحمام "الدروازه" الواقع في محلة الدروازه، ومن أشهر الحمامات التي مازالت شاخصة حمام "الجوادين" الذي شيد في مطلع الستينيات من القرن الماضي والمزود ب 30 غرفة مجهزة بماء ساخن وبارد ويعمل فيه تسعة عمال ولم يستغن الناس عنه حتى بوجود حمامات حديثة في منازلهم.
في الاعظمية فان اول حمام وهو حمام الحارة التراثي قرب مسجد بشر الحافي يرجع بناءه الى السلطان العثماني سليمان القانوني عند فتحه بغداد سنة 1534 م وتم تجديده سنة 1870م في عهد الوالي العثماني مدحت باشا وجدد مرة اخرى زمن الوالي ناظم باشا سنة 1910م ازيل هذا الحمام بسبب بناء جسر الائمة وإقامة منتزه بمكانه وبعدها تم بناء حمام واحد تابع للبلديه يستخدم للرجال ليلاً وللنساء نهاراً ومن أشهر الحمامچيه في الاعظميه عبد الرحمن وأشهر المدلكچيه مجيد المزين وحيدر الكردي.
وزراء مرموقين وباشوات وأغوات ومطربين واشقياء ورياضيين كانوا زبائنه كما الناس العاديون وكانت "وزرة" واحدة تلفهم وينسكب على أجسادهم ماء من مصدر واحد. يقول إنهم كانوا بسطاء للغاية يتسامرون مع بعض ويتبادلون قطع الحلوى ويشربون "الدارسين" من كأس واحدة. فلهذا الشراب حسب عبدالله الصفار فوائد كبيرة لاسيما بعد الحمام الساخن أوجزها بأنه يجنب الإصابة بنزلات البرد ويعتبر منشطا للكبد ويقوي مناعة الجسم وخاصة ضد أعراض الفلونزا.
كان الباشا نوري السعيد من رواد احد حمّامات بغداد في منطقة الحيدرخانة، حسب قول الحاج رجب رشيد الذي كان يسكن في بيت العائلة قرب الحمّام، ويشير الى ان (الباشا) كان يصحب مرافقه (الشرطي)الذي يحمل (بقجة) ملابس اشهر رئيس وزراء عراقي وهما يدخلان الى الحمّام!!.
حمّام النساء الذي اشتهر في الامثال البغدادية الشعبية كمكان يضج بالاحاديث الصاخبة للمستحمات ولايفهم من احاديثهن شيئا هو نفسه حمام الرجال إلا أن ذلك الحمام يترك نهاراً لاستحمام النساء ويعمل ليلاً في خدمة الرجال المستحمين،
تعودت النساء ان تصطحب معها (الركية) وهي اناء دائري مضلع على شكل (اشياف) الرقي مصنوع من (الصفر) أي النحاس، وله غطاء وتستخدمه لحفظ التجهيزات الخاصة بها مثل (الديرم وسبداج الوجه وكيس الحمام والليفة والصابونة ومشط الخشب والحجارة السوداء)،
احبت النساء البغداديات للقاء جاراتهن حيث يتمكنّ من الحديث بشكل جماعي في القيل والقال، وتبادل الأخبار، والترويح عن النفس، كما ان بعض النسوة المستحمات يقضين معظم النهار في الحمّام، لذلك تراهن يستحضرن جميع ما يلزمهن من الطعام مثل الكباب والكبة وخبز العروك والفواكه، وخصوصا البرتقال لما يمنحه من رطوبة وانتعاش بعد جولات الاستحمام بالماء الساخن، وكانت هنالك مناسبات اخرى مكانها الحمام منها، "حمام العروس" من أبرز طقوس الأعراس؛ إذ تتم فيه دعوة الأقارب والجيران وصاحبات العروس وأهل العريس من النساء، من جانب أم العروس، إلى الحمام للاحتفاء بابنتها المقبلة على الزواج؛ فتستحم النساء وسط أجواء من الاحتفال، تتعالى فيه الزغاريد والاغاني والرقص حيث تكون (طاسات الصفر)، في مقدمة آلات العزف المصاحبة للغناء!، وتختتم بمائدة غداء تتحلّق حولها النساء في الحمام ذاته، كثيراً من البغداديين يتذكرون قصصا طريفة عن ايام طفولتهم وهم في سن الخامسة أو السادسة من العمر حين كانت امهاتهم يصطحبنهم الى 'حمامات النسوان' وبعضهم لايسمح له بالدخول رغم ان عمره كان دون السابعة. حيث كان يمنع من دخول حمام النساء من هو في سن السابعة، اعتقادا بان الولد في هذه السن يبدأ بمعرفة اشياء عن المرأة، وقبل أن تجتاز الأم عتبة الحمام مع أطفالها تكون المراقبة قد تفحصتهم جيدا واستخدمت خبرتها ودقة حساباتها في تقدير عمر الولد قبل ان تسمح له بالدخول. وتحصل الكثير من المشاكل تتطلب عادة تدخل المسؤولة:
المراقبة: عيوني أم حمودي، أوليدج هذا حمودي مايدخل الحمام، ممنوع، ماشاء الله وليدج صاير رجال، الله يخليه!
ام حمودي: دادة أم حسون، وليدي حمودي العام فطمته، السنة الفاتت بعده يرضع، بعده مامكمل الست اسنين، اليسمعج ايقول وليدي حمودي رجال وعايزله زوجة؟
المراقبة: ام حمودي قلت لج حمودي مايدخل، هذا أخوه جمولي الله يخليه يدخل وياج، لأن أمبين بعده وليد زغير، بس هذا حمودي اكبر من سبع سنين، وليدج ماشاء الله راح تطلع له شوارب.
ام حمودي: وين اخليه دادة؟ مو معقولة أنا أدخل الحمام ووليدي يبقى بالدرب؟؟ أخاف عليه دادة أم حسون، يمكن ينباق، يمكن أتسحقه عربانه أو يرفسه زمال.
المراقبة: ابكيفج عاد، أرجعي خليه بالبيت وبعدين تعالي للحمام.
ام حمودي (زعلانة): مالازم الحمام اليوم، ولا الأحسن اروح لحمام ثاني وبعد ما أجي لحمامكم، اوي عشتو على هيج حمام عبالك مخفر شرطة مو حمام!!
يعد ألم العضلات من الظواهر الشائعة لدى الرياضيين، للتخفيف من حدة ألم العضلات، ولذلك فحمام السوق والساونا والتدليك كان الملجأ على إرخاء العضلات والتخفيف من حدة الألم ولتنزيل الوزن، ولهذا كانت حمامات السوق المشهورة تستقبل الرياضيين من لاعبي كرة القدم والسلة والطائرة والساحة والميدان والملاكمة والمصارعة وكمال الاجسام.
الحمام البغدادي يعتبر محلاً للتكريم يذهب اليه العريس قبل زفافه بساعات، حيث يأتي العريس وبصحبته مجموعة من أصدقائه المقربين وبعد أن يتم غسله وتشجيعه، يخرجون به الى الزّفة وطبعا مع اغتسال الجميع على نفقة المعرس، وكذلك يذهب اليه من لديه مجلس فاتحه في اليوم السابع اذ يذهب للحمام لإزالة اثر الفاتحه والعزاء.
الحمام البغدادي كان موضع صياغة النكتة البغدادية فعلى مايروى أن أحد ظرفاء بغداد أراد التخلص من اجرة الحمام، وحالما انتهى من الاستحمام في حمام الباشا ذات يوم واتجه خارجا وكان عليه ان يدفع اجرة الحمام لصاحبه الذي يجلس في المدخل، ادعى سرقة ماله. ادخل يديه في جيبوبه وراح يردد 'اويلاخ يابه انسرقت'!، وبعد أخذ ورد مع صاحب الحمام، اعفاه الأخير من الأجرة، وبعد ان كرر هذا الصعلوك الظريف فعلته في الحمام. اضطر صاحب الحمام الى سرقة ملابسه هذه المرة واخفائها عنه. وحين خرج من الحمام في المرة الثالثة لم يجد من ملابسه سوى الحزام والحذاء وغطاء الرأس فشد الحزام على وسطه وهو عار واحتذى حذاءه ولف (الجراوية) حول رأسه وتقدم وسط الحضور وامام صاحب الحمام وهو يسألهم بصوت عال: ابربكم ياجماعة أنا دخلت الحمام هالشكل؟؟!.
عالم الطفولة وطقوس الحمام عادة تبدا يوم الجمعة، فالأم هي بطلة الساحة واحيانا المربية عند بعض العوائل وفي محلتنا كانت اكثر المربيات حبشيات ولا أزال أتذكر احد الأصدقاء كان يقول لنا : "انا كرهت الحمام من ورا غسل الحبشية وهي مشمرة عن يديها، وداسة طرف ثوبها في حزامها العريض لي ولاخوتي"، فلا أظن أن أحدًا من الكثيرين ينسى كيف كانت أمه تجره كأنه اقترف إثمًا إلى غرفة الحمام، ولهذا فالكثير كان يتهرب من الاستحمام ولكن بالنهاية نستحم سواء باللين او بالراشدي!، وتبدأ عملية فترة الاستحمام كأنها يوم القيامة، حيث طشت واسع بالقرب منه دكة صغيرة للجلوس، ووعاء فيه الماء الساخن وأدوات الاستحمام: ليفة خشنة، وصابون ركي، الحمام بالدور واحد وراء الاخر، تستغرق العملية ربع ساعة او اكثر، فالماء حار جداُ "يسمط سمط" ، فرك الرأس كانه فرك لمصباح علاء الدين عبر رغوة الصابون الكثيفة وعينكم ما تشوف الصراخ من حرقة العيون من صابون الركي "الغار" ، ثم تأتي فقرة التليف، فالليفة خشنة من شجرة الليف كأنها سكين تغس بالجسم تستعمل في فركِ الجسد لتزيح الاوساخ وتنضفه من السموم المتراكمة والخلايا الميتة ولتصفي البشرة لتزيح الاوساخ وتنضفه من الجلد الميت لتصفي البشرة، وكنا نخرج بجلود قرمزية اللون كَديكٍ تم نتف ريشه، لا نترك من غسل الام او المربية الا وقد اصبحنا قادرين على الاستحمام لوحدنا، ومع ذلك فصوت الام ينادينا بين وقت واخر للأطمئنان وعدم هدر المياه، فرغم قسوة تلك الأيام ورغم العناء والصعوبات ما يسودها من مظاهر القسوة والخشونة بطقوس الاستحمام المتصل بعالم الطفولة الجميل، فان ذكريات الأم لا تنسى، فتلك الذكريات تبعث في الإنسان الحنين إلى حضنها الدافئ، المُخضَّب بأنفاس من رحلوا وذكريات من تلك الايام المليئة بالبراءة والبساطة.
بدأت الحمامات بالتلاشي تدريجياً، ومن أصل 67 حماماً في بغداد، لم يبق سوى تسعة منها فقط، إن الحمّامات الشعبية مثّلت منذ ظهورها والى يومنا هذا مقصدا شعبيا له مزاياه الخاصة، يجد فيه قاصده ملاذا للتخلص من متاعبه الجسدية وضغوطاته النفسية ومكانا للاغتسال والتطهر، بل تعدت ذلك لتتحول الى مقراً البعض للشفاء من الكثير من الأمراض، كما مثلث ناديا مصغرا يلتقي فيه الأحبّة لتجاذب أطراف الحديث والترفيه عن الذات، رغم ظهور الحمامات المنزلية أو حمامات البخار العصرية التي يطلق عليها اسم «الساونا» الحرارية والملحية والجاكوزي والحجامة وحتى الحلاقة، التي صممت لتعوضها أو تقوم بنفس دورها، ومع ذلك تبقى حمامات السوق عراقة الماضي ونكهة التاريخ ورائحته، وبما تستحضره من عادات وتقاليد وممارسات الاقدمين، وانطلاقا من الحرص على إنقاذ ما يمكن إنقاذه منها، يطالب الكثيرون ممن يؤمنون بقيم التراث بصيانتها وحمايتها من الإندثار باعتبارها موروثا إنسانيا ساهم في نحت خيال تراثي يميز بغداد بقصصها وأساطيرها الكثيرة، ومن الله التوفيق.
سرور ميرزا محمود
566 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع