سألني هذا الصحفي العراقي، قبل ان اتناول فنجان القهوة العراقية الذي ارتشفنته مع الاديبة الكبيرة ايمان البستاني في مجلنها الثقافية الگاردينيا التي تحررها مع الاستاذ جلال چرمگا، والذي اعده تتمة لهذا القسم من ذكرياتي:
1) هل بالإمكان المقارنة بين بغداد أمس واليوم بعد الذي جرى للعراق منذ ثلاثينات القرن الماضي وحتى غزو العراق؟
- لا يمكن المقارنة أبدا، فشتان بين الأمس واليوم، في الأمس أعني حتى مغادرة يهود العراق عام 1951، كان الحكم ملكيا دستوريا برلمانياً، وإن لم يكن الحكم برلمانياً دستوريا بكل معنى الكلمة الأوروبية، لكن الحقوق كانت محترمة، وخاصة قبل اندلاع الحرب العربية - الإسرائيلية في فلسطين عام 1947، وكان التعايش بسلام بين الطوائف والمذاهب والأديان على ما يرام، وكان للصحافة بعض الحرية في النقد وحرية التعبير، ولكن عدم تمييز الحكام والسياسيين والصحفيين وبعض أفراد الشعب بين الانتماء الديني والانتماء القومي، أدى إلى اضطهاد الأقليات الدينية والعرقية في العراق وتدهور الوضع إلى حد نشوب الحروب مع الدول المجاورة واضطهاد الأقليات تحت حكم البعث العراقي الذي رفع شعار: حرية، عدالة، اشتراكية، وكانت النتيجة وخيمة على جميع أفراد الشعب العراقي وخاصة المثقفين منهم ممن لم ينتمِ إلى الحزب الحاكم ولم يتملق زعيم الحزب.
2) ماذا بقي من ذاكرتكم عن بغداد ومكان تواجدكم في هذه المدينة؟
معظم ما بقي من ذاكرتي عن العراق وبغداد ومحلة البتاويين التي عشت فيها طفولتي وصبايا، دونتها بحلوها ومرّها في سلسلة ذكرياتي التي نشرتها في مجلة "إيلاف" الألكترونية الحرة الغراء، تحت زاوية كتاب إيلاف، تحرير الأستاذ الشاعر عبد القادر الجنابي، تحت عنوان: "يهود العراق، ذكريات وشجون"، الحلقات 1-50، وقد قامت جريدة "الأخبار" العراقية الغراء التي يحررها الأستاذ علي نوري بنقلها على صفحات جريدته الخضراء. فهذه الذكريات انطلقت بصورة عفوية بعد المقابلة التي أجرتها مجلة "إيلاف" بمبادرة ميمونة من الشاعر والاديب عبد القادر الجنابي لعقد مقابلة ادبية معي، فأطلقتُ عقال ذاكرتي ولقلمي العنان ليكتب على سجيته، وليرصع ذكرياتي بلآلئ الأشعار العربية وجواهر الأمثال العراقية وتعابيرها الجميلة المغروسة في ذاكرتي فتنطلق من أعماقها كالجواد الجامح، وأنا نائم ملء جفوني عن شواردها. فذكريات الطفولة تغلفها الذاكرة بنعيم نفحات جنات عدن، إلى أن جاء الفرهود (المذبحة التي جرت في بغداد يومي 1-2 يونيو، 1941)، ثم قيام دولة إسرائيل (1948) فجعلوا حياة اليهود في العراق جحيما لا يطاق بعد أن سال لعاب الحكام لفكرة الاستيلاء على أموالنا المنقولة وغير المنقولة انتقاما لحرب 1948. وبعد هجرة اليهود من العراق في عام 1951 بقي حوالي خمسة آلاف يهودي مخلص لوطنيته العراقية وتعلقوا بالعهد الملكي إلى أن أطيح به عام 1958، وأعيدت إليهم مكانتهم في عهد عبد الكريم قاسم "ابو المساكين"، وبعد أن أطيح بحكمه عام 1962 وجاء حكم البعث فشـرّد من بقي من اليهود أيدي سبأ. وأنا أرى أن أهم الأخطاء الكبرى نحو اليهود في الحكم الملكي هي مذبحة الفرهود 1941 ورفض صالح جبر اقتراح السيد داود باشا الحيدري تعيين الأستاذ مير بصري وزيرا للمالية عام 1948 وشنق شفيق عدس أمام قصره في البصرة في نهاية نفس العام. فلو تم تعيين الأستاذ بصري وزيرا للمالية وامتنع الوصي عن المصادقة على حكم إعدام المرحوم شفيق عدس، وانتهاج الديموقراطية وحرية الفكر، وامتناع الحكومة العراقية من اضطهاد الموظفين اليهود وتجارهم، لامتنع معظم يهود العراق عن الهجرة إلى إسرائيل، ولم يجنِ القاء القنابل على محلات اليهود التي ساهمت فيها الشرطة العراقية لطرد اليهود وحث عملية الهجرة ثمراته، ولما حدث ما كان، "وكلمة يا ريت، ما كانتش اتعمر بيت!". ولكن الحكومات العراقية المتتالية كانت تحسن دائما ارتكاب أعظم الأخطاء في انتهاج المبدأ القرآني في العدل والمساواة والإمام العادل، ودولة الظلم ساعة ودولة العدل حتى قيام الساعة، وانصاف الشعب دون تمييز بين الأقليات الدينية والمذهبية والعنصرية والقومية للشعب العراقي عامة، واضطهدت وشردت مثقفيه الشرفاء وكل من عارض سياساتها الرعناء تحت كل كوكب.
أما فخامة السيد محمود عباس أبو مازن رئيس السلطة الفلسطينية، فقد ردّ في مقالته التاريخية عن "يهود العراق"، أسباب هجرة يهود العراق إلى فلسطين "إلى "تواطؤ ثلاثي صهيوني- بريطاني- عراقي"، وخاصة "التنظيم السري الصهيوني ... (و) سلسلة عمــ[ـلـ]ـيات إلقاء القنابل على البيوت والمقاهي والمتاجر والكنس اليهودية"، وهي اتهامات أنكرتها المحاكم الإسرائيلية في دعوى أقامها الوزير السابق مردخاي بن فورات على من افترى عليه. ولا أريد أن أدخل هنا في جدل عن الأسباب الحقيقية، ولكن بعض المثقفين من الصهاينة في إسرائيل يشير إلى ما حدث فيما بعد في العراق وإلى الحروب والدمار التي ألحقها حزب البعث بالعراق وبجاراته وبالأقليات ويحللها بقوله "أن الحركة الصهيونية في العراق أثبتت بعدَ نظرها في مساعدة يهودها على الهجرة إلى إسرائيل وإنقاذهم في الوقت المناسب من الكوارث الهائلة التي حلت بالعراق"، وذلك بغض النظر عن المعاناة التي لاقاها يهود العراق بعد هجرتهم، والتي اقتبسها سيادة الرئيس أبو مازن من كتاب "الخروج من العراق"، للأديب اسحق بار- موشيه الذي كان من كبار مؤرخي هذه الفترة الحرجة من حياة المهاجرين اليهود، وهو كتاب كتب بقلم موظف يهودي إسرائيلي فيها، ومع ذلك لم يطرد من وظيفته ولم يلقِِ في غياهب السجن بسببها بل عين فيما بعد ملحقا ثقافيا لسفارة إسرائيل في القاهرة، ونشر كتابه "مصر في قلبي" ولم يتهم بالخيانة. نعم، إن كل ما قاله حول ما رآه اضطهادا ليهود العراق في إسرائيل هو صحيح، وهو من باب التنفيس والتخلص من الضغط النفسي الهائل لكي لا يحدث الانفجار. وهذا النقد اللاذع لسياسة الحكومة الإسرائيلية وموقف المجتمع الإسرائيلي تجاه يهود العراق ويهود البلاد العربية والذي كتب وطبع باللغتين العربية والعبرية في إسرائيل، فإن دل على شيء فإنما يدل بصورة لا تقبل الشك على ديموقراطية إسرائيل وحرية النقد والرأي والتعبير والتفكير فيها لأجل اصلاح الأخطاء التي وقعت فيها، وهذا هو السر في بقاء اليهود في إسرائيل بالرغم من الحروب المتوالية ضدها. فبعد السكنى في الخيام مثل اللاجئين الفلسطينيين، وتعاطفنا مع اللاجئين الفلسطينيين وأدبهم، بل وانعكاس مصائبنا في شعر النكبة الفلسطيني، انتقلنا من الخيام إلى دور ثابتة لا تطوحها الرياح ولا تغرقها الأمطار بسهولة، شاركنا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعلمية ونجحنا في اجتياز المحنة بشرف، "فعند الصباح"، يا سيدي الرئيس، " يحمَـد القومُ السُـرى". أما اللاجئون الفلسطينيون فما زالوا ينتظرون الفرج رغم مرور أكثر من نصف قرن من الزمن. فقد رفض الزعماء العرب جملةً، قرار التقسيم، ورفعوا شعار "خلي السيف يقول"، ثم شعار "الحل الإسلامي" وقد حاول السيد مردخاي بن فورات عندما كان وزيرا في وزارة الليكود توطين اللاجئين في دور ومجمعات سكنية جديدة حديثة تمهيدا لحل مشكلة اللاجئين، ولكن السلطات الفلسطينية رفضت ذلك وفضلت بقاءهم على حالتهم المزرية، بدعوى أن العراة الجياع الحفاة يحسنون الانتقام واسترجاع حقوقهم، وتبجح ابو عمار بان ارحام النساء الفلسطينيات هي القنبلة الذرية للعرب. برافو على هذا المنطق السليم القويم. أما ما فعلت السلطات الفلسطينية والدول العربية باللاجئين الفلسطينيين أينما حلوا، فحدث ولا حرج عن المأساة الإنسانية المحزنة والمخزية، وتركهم يستَجْدون مسحوق الحليب والطحين والزيت من وكالة الغوث الدولية بينما تتدفق أموال النفط على بناء القصور وتشجيع التطرف الديني، ولم تشأ توفير السكن والعمل لهم لأجل حياة كريمة بمبلغ يساوي ثمن ملء براميل النفط العربي وتصديرها إلى أوروبا خلال أسبوع واحد فقط. رحم الله سميي السموأل بن عادياء اليهودي الذي قال بيته الخالد:
وما ضرنا أنّا قليل عديدنا وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل
قالت لي مستشرقة ألمانية، "أخذونا في رحلة منظمة لزيارة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الضفة والقطاع وهالنا وضعهم المزري، وبؤسهم وشقاؤهم. طردتموهم من ديارهم وسكنتم في بيوتهم!" قلت لها "ولكن يهود البلاد العربية ينظرون الى هذه المأساة بمنظار آخر، وهو أنهم طردوا من ديارهم واقتلعوا من جذورهم، وصودرت أموالهم، وقيل لهم اذهبوا إلى فلسطين مكان اللاجئين الذين طردتموهم!. ولا شك أنك تعلمين أنه لولا الاستعمار الأوربي، ولولا هتلر والنازية واللاسامية في أوروبا، لما كانت هذه المأساة المريعة التي عانى ويعاني منها الفلسطينيون واليهود على حد سواء. فمتى يدرك زعماء العالم والمسؤولون الفلسطينيون والإسرائيليون أن حان الأوان للتوصل إلى حل نهائي لهذه المعاناة المريعة والحروب المتوالية ومتى ينتهي هذا الاستخفاف بحياة الإنسان وكرامته وحقوقه في العيش بسلام في بلاد الأنبياء وفي هذه المنطقة من العالم؟".
كتب سيادة الرئيس محمود عباس – أبو مازن، في مقاله "يهود العراق" الذي لم أستطع الوقوف على تاريخ ننشره وأورد حديث الشاعر الراحل إبراهيم عوبديا في الإذاعة الإسرائيلية عن أسباب هجرة الشاعر إلى إسرائيل وكيف "اقتلعته الحركة الصهيونية في العراق من جذوره رغم أنفه"، وأورد ما قاله الشاعر معتبرا إياه "كشاهد من أهلها". ولكن علينا أن ننتبه إلى حقيقة أن هذا النقد العنيف أذيع من محطة إسرائيل وباللغة العربية، وإنه إن دلّ على شيء فعلى حرية التعبير وإبداء الآراء بصراحة مطلقة والى ديموقراطية هذه الدولة التي تتيح لناقديها منبرا مفتوحا على الدنيا. ويردف سيادة الرئيس أبو مازن بقوله "أي دافع صهيوني أو عقائدي وراء هجرته (أي إبراهيم عوبديا) إلى فلسطين، بل أن هجرته إليها كانت قهرية وقسرية استهدفت اقتلاعه من جذوره رغم أنفه".نعم، كان المرحوم إبراهيم عوبديا من أنصار الوطنية العراقية وتبرأ من الصهيونية في نشراته وقصائده التي أعلن فيها عن ولائه للعراق ولمليكه وشعبه وترابه، فقد كان يؤمن بأن الجالية اليهودية هي إحدى العناصر الأصيلة في نسيج البناء الاقتصادي والاجتماعي والأدبي والتاريخي في العراق، ولكن الحكومة العراقية طاردته بسبب نقده لاضطهادها للوطنيين المخلصين، فأصدرت الأمر بالقبض عليه فهرب إلى إيران، ولما عاد إلى العراق بعد سنة من مغامرة عاطفية مؤلمة في طهران وجد أن عائلته قد هاجرت إلى إسرائيل، فالتحق بها بعد أن أدرك ألا جدوى من نقده الإصلاحي للعراق وانتظار إنصافه شاعر وطني عراقي يهودي، فقد صدق وها هي العراق كما ترى اليوم أعانه الله على الخروح منها. ويا سيادة الرئيس، من مثلكم يعلم ان اصرار القادة الفلسطينيين على ابادة اسرائيل واثارت الدول العربية والاسلامية ضدها كم كلف الدول العربية من ألاف من خيرة الشباب العربي ومن ملياردات الدولارات ذهبت هباءا في الحروب، لو كانت قد انفقت في سبيل اعمار واستقرار اللاجئين، كما اقترح الرئيس الاسرائيلي السيد شمعون بيرس، لاصبح قطاع غزة والضفة واسرائيل مراكز تجارية ومالية وصناعية وطبية وعلمية من افضل البقاع في العالم. ولكن حب الانتقام والثأر ومقولة "علي وعلى اعدائي يا رب" التي صدرت من شمشون الغزاوي، جنت المصائب على الشعب الفلسطيني الذي فقد ارضه وانعزل في رقعة محاطة بالاسيجة والحصار البحري، بصورة يرثى لها وتثير ضمائر الاحرار ضد اسرائيل وضد تعنت القادة الفلسطينيين الذين يرفضون قبول الامر الواقع، لا مبالين بمصالح الشعب الفلسطيني الأبي المظلوم الذي قدم الغالي والنفيس لاجل قيادته التي تظن ان ابادة الآخر هو الحل السليم والعدل لمشكلته التي خلقها لنفسه.
فيا سيادة الرئيس محمود عباس "أبو مازن" لولا حبي للعرب الذين ارتويت من ثقافتهم واخلاقهم النبيلة لما كتبت هذا العتاب بمثل هذه الصراحة.
(يتبع، 3)
مبسيريت يروشلايم، أكتوبر، 2012
379 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع