بقلم: الدكتور عبدالرزاق محمد جعفر
أعـمـى بطـريق مـظـلـم !المسلسل التلفزيوني لقصة واقعية تنقصها الصراحة تـسـرد جانباً من الحياة الأجتماعية في العراق وليبيا وتونس منذ1932 ولغاية 2003
الحلقة الثالثة
في صبيحة الرابع عشر من تموز سنة 1958،.. وبينما كان "صابر" يغط فـي نوم عميق في مـسقط رأسه" الشطرة " سمع أصواتاً غريبة من جهة سوق المدينة،.. فنهض مفزوعاً،.. ثم جاءه أحد أبناء عمومته, وأخبره عن مظاهرات تعم أسـواق المدينة بسبباندلاع ثورة في بغداد,.. ومقتل الملك وسيطرة الجيش على الحكم !
قائد ثورة 14 تموز(يوليو) 1958 الزعيم عبدالكريم قاسم
لم يستوعب" صابر" ما سمع، فقد كانت الثورة مفاجأة هزته هزاً، فهرع مذعوراً نحورفاقه وشاركهم فوراً في تلك المسيرة المؤيدة للثورة , ثم قرر ورفاقه السفر الى بغداد, و بعد ساعات, سـمعوا وهم في السيارة المتجهة نحو العاصمة, صوت الموسيقى والأناشيد الوطنية من الأذاعة العراقية و هي تحرض جماهير بغداد للتوجه الى قصر الـرحـاب الذي تسكنه العائلة المالكة ، وما ان وصلوا بغداد حتى سـمعوا الأنباء المحـزنـة , فقد استسلم الملك وكل عائلته ورفعوا الراية البيضاء ، ..إلا أن أحد الضباط المتواجدين امام القصر سـمع اطلاقاً للنار,... واعتقد بوجود مكيدة من حراس القصر الملكي , فأطلق النارعلى من كانوا يرفعون..
قصر الرحاب قبل الهجوم عليه صباح 14 تموز 1958
الراية البيضاء في شرفة القصـر,..وقـُتـلَ وجُرحَ الكثير, ومنهم (الملك فيصل الثاني)، حيث نقل فوراً إلى المستشفى, وفارق الحياة في اليوم التالي، وحزن عليه مُعظم أبناء الشعب ، فقد كان صغيراً ولم يمض على حكمه إلا سنتان، وكان خاله عبد الإله (الوصي), هو الذي يحكم بعد مقتل الملك غازي بحادث سيارة مزعوم!
الوصي على العرش عبدالآله خال الملك فيصل الثاني
حزن الناس على الملك فيصل الثاني رحمه الله ، وفرحوا لـما آل إليه مصير خاله الوصَّي وأعوانه، وانهار الحكم الملكي ليحل محله النظام الجمهوري، وبدأت أسـماء قادة الثورة تعلن على الجماهير, تدريجياً,اضافة الى الأناشيد الوطنية وتكرار البيانات الثورية, ومنها:
" ايها المواطنون, ياجماهير بغداد, لقد انتهى العهد الملكي وانبثق العهد الجمهوري.."
وهكذا احتــشـدت الجماهير الثائرة, مبتهجة بـســقوط النظام الملكيي , ولم تشــاهد اية قطعات عســكرية تفرض نفســها للفصــل بين النظام الســابق وبين ضــباط الثورة .
لـجأ نوري السعيد, (السياسي المخضرم), الى اصدقائه مـن عائلة الأستربادي الغنية والتي تسكن مدينة الكاظمية، الا انه لم يتقن المخطط وراح يتخبط في تنقله وعبر نهر دجلة لجانب الرصافة بواسطة عبارة صغيرة تدعى (البلًم), ولما شعر بوجود جمهور من الناس في الشريعة أمر صاحب (البلم) بالعودة, وحاول التنقل من مكان الى آخر,.. ليجد الملجأ عند أحد اصدقاءه , الا انه توجس من تسريب اخبارية بوجوده, وخرج متخفياً باللباس الشعبي للمرأة, العراقية, ( العباءة السـوداء والبوشية),..الا انه لم يحسبها جيداً, وظلً مـحتذياً حذائه الرجالي ولهذا لفت نظراحد جنود الأنضباط العسكري من المتواجدين في الشارع ,.. فأرتاب الجندي من المنظر غير المألوف , وبعد ان حدس هويته, ايقن ان هذا هو الشخص المطلوب فاطلق عليه النار من مسدسه وارداه قتيلاً !,..ولا أريد الأسهاب في المصير الذي آل أليه الباشا نوري السعيد, عندما علم الجمهور بحقيقة المقتول, فمنهم من يؤكد على سحله والسير به بأتجاه شارع الرشيد لعدة ساعات إلى أن تمزق إرباً إرباً !
بدأت بعد أيام تتضح سياسة زعماء الثورة والتفتْ الجماهير حولها، إلا أنها انقسمت بعد اشهر الى مؤيد لسياسة الأتحاد الفدرالي والصداقة مع الأتحاد السوفيتي (روسيا حالياً ) ,وفئة
أخرى مؤيدة للوحدة الفورية مع مصر،... وقد تزعم الفئة الأولى رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم والتف حوله الشيوعيون وكافة القوى التقدمية،..إما الفئة الثانية, فقد رفعت شعار الوحدة الفورية , معلنة ولائها لعبد السلام عارف نائب رئيس الوزراء و اول من دخل بغداد, و أذاع البيان الأول , طالباً من الجماهير التوجه الى قـصر الرحاب, وهو القصر الذي يسكنه عبد الأله, خال الملك فيصل الثاني .
أسرة الملك فيصل الثاني في قصر الرحاب
التف حول عبدالسلام عارف قوى اليمين, و كل المطالبين بالوحدة الفورية، إضافة لكل القوى المـعـارضـة للحركات التقدمية أو ما يسمى بقوى اليسار.
تكونت الحكومة العراقية الجديدة برآسة الزعيم عبدالكريم قاســم ووزيراً للدفاع, والعقيد عبدالسـلام عارف , نائب رئيــس الوزراء ووزيرا للداخلية.
اللواء عبدالكريم قاسم والعقيد عبدالسلام عارف
صـار جلياً ولاء قاســم الى العراق اولاً, ...وليــس الى الوحدة تحت قيادة جمال عبدالناصــر, قائد ثورة 23 تموز(يوليو), 1952 في مصــر, الا ان عارف اســتقطب الجماهيرالعراقية المتحمسـة للوحدة العربية الفورية مع مـصـر.
وبعد اقل من شــهرين من نجاح ثورة الرابع عـشـر من تموز 1958 اختفى عبدالســلام من مركزه القيادي في ثورة تموز, بســبب الأختلاف الفكري مع عبدالكريم حول هوية العراق, والأكثر من هذا فقد عمل قاســم على منع القاهرة لتكون عاصـمة الدول العربية المتحدة, وبتلك الوســيلة اثارغضـب عبدالناصــر, وقام بتهديده بواســطة الناصــريين و العديد من ضــباط الجيــش العراقي , ولذا استعان قاســم بالشــيوعيين لحماية نظامه !
انقســم العراقيون الى قــسمين , القــسم الأول يتكون من الأصــوات التي تحرض العراقيين العرب للولاء الى جمال عبدالناصــر, ضــد عبدالكريم قاســم, وقســم آخر, يتكون من اعضاء الحزب الشــيوعي , الذين تربعوا على المراكز المـرمـوقـة في وزارات الأقتصـاد, والتعليم , واالحقوق!
**
فجرت تلك الظروف, مجموعة من الضــباط للمحاولة بأنقلاب ضــد عبدالكريم قاســم , في مدينة الموصــل, ســنة 1959, ..حيث بدأ بكشـف المؤيدين القوميون العرب الموالين لجمل عبد الناصــر, وبين الموالين لثورة تموز بقيادة الزعيم عبدالكريم قاســم , والذي بدأ بســماع هتافات في المظاهرات التي كانت تجوب شــوارع بغداد كل يوم تقريباً,.. وقد كان بعضـهم يردد :
" وحـده,...وحده ,.... يا ســلام ", اي اننا نطالب عبدالســلام عارف بأعلان الوحدة الفورية مع مصـرالعربية.
اما الفئة الأخرى, فأنها تنادي :
" اتحاد فدرالي ,صـداقه ســوفتيه ", و يعني, انهم يطالبون عبدالكريم قاســم بالفدرالية والصـداقة مع الأتحاد الــسوفيتي, آنذاك, " روســيا الأتحادية في الوقت الحاضــر".
ان تلك الهتافات في اعلاه, وســعت مـن الخلافات بين قطبي قادة الثورة, عبدالكريم قاسـم وعبدالسلام عارف, فقد بدأ الصــراع ســرياً وبعد ذلك, تطور وصـارعلنياً,.. وقد حدثت المواجه العلنية عند اعلان قـانـون الأصــلاح الزراعي , واســتنادا الى ذلك القانون فأن شــيوخ العشــائر, فقدوا مراكزقـوتـهـم الأجتماعية, حيث قسمت اراضيهم بموجب هذا القانون الى اجزاء صـغيرة وزعت على الفلاحين.
احدث ذلك القانون هزة عنيفة بين كبارالأقطاعين, ولذا توجه العديد منهم صــوب بغداد, والمدن العراقية الكبرى, مكونين جبهة معارضـة واسـعة ضــد قاسم قائد الثورة .
ونتيجة لتلك الظروف, تعرض الزعيم قاســم الى محاولة اغتيال, في تشــرين الثاني (اكتوبر), 1959.
**
كان العقيد عبدالســلام عارف من اشــد المعجبين بالرئيــس جمال عبدالناصــر, وتراءى له امكانية ربط العراق بالمســيرة القومية ووحدة العراق الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة , ( مصـر وسـوريا), معتقدا ان ذلك سـيحمي النظام الحديث في العراق ويحقق الوحدة العربية, حلم الأمة العربية الذي طال انتظاره.
وعلى اية حال, فأن الزعيم عبدالكريم قاســم, ينظر للوحدة بعين العطف, وغير نافر منها, الا انه لا يريدها فورية بنفــس رؤيا الأحزاب القومية والوطنية, ... وان بناء المصالح القومية المشــتركة مع العالم العربي, يجب ان تســبقه عدة مواثيق قبل الولوج بالوحدة الفورية.
كما ان عبدالكريم قاســم كان على علم تام بطموحات رفيقـه العقيد عبد الســلام عارف, ولهذا, وفي ايلول(ســبتمبر), 1958, اقاله مـن كل مراكزه القيادية, .. ثم نفاه الى خارج العراق كســفير للعراق في المانيا الأتحادية. ولقد كان لذلك الحدث صــداه المدوي, وســبب في انقســام العراقيين الى قســمين.
**
وبعد وقت قصــير, ضـمن قاســم عودة, الزعيم الكردي, الســيد مصـطفى البرزاني, من منفاه في الأتحاد السـوفيتي, واحياء الحزب الكردي الوطني الديمقراطي,.. كما افلح قاســم في عودة الروح للحزب الشــيوعي العراقي, ليكون بمواجهة خصـومه من القوميين العرب. وعلى اية حال, فقد ســمح للحزب الشــيوعي بأصدار صـحيفة الحزب علنياً, وعمل على تنشـيط الأحزاب الموالية لأنصـارالســلام , ورابطة حقوق المرأة, واتحاد الفلاحين والشــبيبة, واتحاد الطلبة.
**
وفي مارت (مارس), 1959, اقام الحزب الشــيوعي مهرجاناً للســلام في مدينة الموصــل (ثالث اكبر المدن العراقية في شــمال العراق), مما اثارمحاولة انقلاب لدى الضباط الأحرارمن القوميين العرب في حامية موقع الموصــل, بقيادة عبدالوهاب الشــواف,... الا انه لم يوفق وتم القضاء على تلك المحاولة بســرعة.
اصــبح الحزب الشــيوعي اكثر فعالية, وقد ثبت حضــوره في كافة الفعاليات الســياســية. وفي مايــس1959, ... خرجت جماهير غفيرة من اهالي بغداد والمحافظات المجاورة لها, في مظاهرات صــاخبة, جابت شــــوارع بغداد هاتفة بمطالبة قاســم بضـم ,.. الحزب الشــيوعي للحكومة العراقية, واجراء انتخابات مبكرة والســماح للحزب الشـيوعي الى قبة البرلمان. وقد كانت هتافاتهم واهازيجهم تردد :
" ســبع ملايين تريد حزب الشـيوعي بالحكم "
المظاهرات المؤيدة لعبد الكريم قاسم
( فقد كان تعداد النفوس في العراق في ذلك الحين ســبعة ملايين). ولذا,.... فأن هذا الموقف الجديد دفع بقاســم الى الحذر مـن الـحزب الشــيوعي.... وعلى اية حال, فأنه حاول ان يضع الحزب تحت الأختبار, وقربه من الحكومة, حيث عين عضو من الحزب الشـيوعي ,... وهي, الدكتورة " نزيهة الدليمي", كوزيرة للبلديات, اضافة الى عضــوين من الحزب الشــيوعي في مراكز حكومية مرموقة. وقد تبين لقادة الحزب الشــيوعي ان تلك المكاســب قد تســاعدهم على تغيير طريقة حكم عبد الكريم قاســم, ومن ثم تنمو لديهم القابلية لـتـحـد يه.
كما ان حزب البعث آنذاك, راح يخطط عدة وسائل للأستيلاء على السلطة ومنها أغتيال عبدالكريم قاسـم!
**
وهكذا, وبعد مرور دقائق على الســاعة الســادســة مســاءاً, ليوم الســابع مـن شهر تشــرين اول ( اكتوبر), 1959, قام البعثيون بمحاولة اغتيال رئيس الوزراء عبدالكريم
قـاسـم في " شــارع الرشــيد ", في منطقة الســنك, ولكنها فشلت ,.. الا انها ادت الى مقتل سـائقه واصابته بجروح في ذراعه.
محاولة اغتيال عبدالكريم قاسم في شارع الرشيد
وبعد معالجة الزعيم عبدالكريم قاســم مـن اصـابتة الخطيرة في ذراعه في مســتشـفى الســلام في بغداد, غادر المســتشــفى بعد ثمانية اســابيع. وقد انطلقت بعد الأعلان عن محاولة الأغتيال, مظاهرات جابت شــــوارع بغداد وهي تهتف بأهازيج حماســية, مثل " عاش تضـامن الجيـش ويً الشعب, وارواحنه, فدوًه لأبن قاســـم"
وعلى اية حال, فأن تلك المظاهرات, لم تتمكن من الغاء حقيقة قوة قاســم الســياســية المعتمدة على ثقته من مسـاندة ضباط الفيالق العســكرية له.
**
قام قاســم بمناورات متعددة لتنافــس الكتل الســياســية مع بعضـها البعض, لمنع هيمنةجمال عبدالناصر على العراق , ويبقى هو القائد الأوحد الذي يملك القوة,.... وقد كان يعمل طيلة 20 ســاعة يوميا, في مقرعمله وســكنه في وزارة الدفاع في باب المعظم ,.... ولم يمتلك ســكن خاص به او بأحد المقربين له, وعاش ومات وهو بالبدلة العسـكرية, كما كان يكرر:" انا لا املك غير هذه البدلة العسكرية احيا واموت فيها!"
للراغبين الأطلاع على الحلقة الثانية:
http://www.algardenia.com/maqalat/12050-2014-08-14-19-23-57.html
398 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع