د.محمد صالح المسفر
كنت في إسطنبول ورأيت المقاهي تعج بالعرب من كل قُطر، سمعتهم يتحاورون عن مصائب الأمة العربية التي حلت بها، مقهى آخر صغير رأيت وسمعت مجموعة من رواد ذلك المقهى يتحدثون عن موريتانيا وما أصابها في حكم العسكر، وفهمت أنهم موريتانيون، ومقهى آخر فيه عراقيون وآخر سوريون.
نقاشات محتدمة في مقهى متعددة قرب ميدان تقسيم، التقيت بحكم الصدفة في مكان واحد بثلة من الرجال، من العراق وسوريا والسعودية واليمن، لم أعرف من قبل أحدا منهم، دعوني لفنجان قهوة فقبلت، وسألوني ماذا يجري في العالم العربي وهل من نهاية؟ قلت: أنا أريد أن أسمع منكم، قال أحدهم: حدثنا، كلنا نعرفك من خلال وسائل الإعلام. قلت: أدعوكم لجولة في تجربة بعض العواصم العربية وأسباب التحولات. قلت مبتدئا:
سبحان مغير الأحوال، كانت بيروت تعج مقاهيها وأنديتها الثقافية بالمثقفين العرب من كل الأقطار العربية وحتى عام 1975، كان مقهى الدولشفيتا على الروشة في ستينيات القرن الماضي وحتى انفجار الحرب الأهلية اللبنانية ملتقى البعثيين والقوميين العرب من كل قطر، كان من بين أشهر رواد ذلك المقهى على سبيل المثال أكرم الحوراني وصلاح البيطار وغيرهما من القيادات البعثية، إنهم يتحاورون في الهواء الطلق عن حال الأمة، كان إلى مقربة مقهى الدولشفيتا مطعم فيصل المجاور للجامعة الأمريكية، وكان مقهى استراند الحمرا وأنت جالس في ذلك المقهى تسمع ما يقولون، تستطيع أن تعلم أن انقلابا سيحدث في دمشق أو بغداد، ودون أن تشترك في حوارات تلك النخبة من السياسيين العرب. إنك تستطيع أن ترصد تلك التغيرات التي قد تحدث في أي من القطرين عن طرق رصدك لارتفاع سعر الليرة السورية أو العراقية مقابل الليرة اللبنانية، فكل ما زاد الطلب على الليرة السورية أو الدينار العراقي اعلم أن حدثا سياسيا سيحدث في تلك الدولة.
في ذات الفترة مجلس آخر لا يكاد ينفض إلا ويبدأ الانعقاد من جديد في مجلس الشيخ حمد الجاسر (سعودي) ومن أشهر رواده من المثقفين السعوديين الشيخ عبد الله الطريقي والشيخ التويجري وغيرهم، وغيرهم، وكذلك حال المثقفين الأردنيين والسودانيين والعراقيين واليمنيين، اليوم تجد تلك الظاهرة في إسطنبول.
كانت صحافة لبنان صحافة يشار إليها بالبنان، تنهش كل نظام عربي، لأن الصحفي اللبناني يحصل على مادته الصحفية من مصادرها الأولية، أي من السياسيين العرب المقيمين في بيروت هروبا من أنظمة القمع في دولهم. صحافة لبنان في ذلك الزمن، كشفت أسرار تحركات روجروزير خارجية أمريكا ومن أتى من بعده وأهمهم كيسنجر، كان همّ أنور السادات إسكات الصحافة اللبنانية وإخراج القيادات السياسية العربية المهاجرة من لبنان لكي لا تعارض مشروعه السياسي تجاه إسرائيل، فكانت الحرب الأهلية اللبنانية، الأمر الذي أدى إلى هجرة الصحافة اللبنانية إلى أوروبا، إلا ما ندر، وانفضت منتديات الفكر السياسي العربي هناك ودخلت لبنان وصحافتها في دوامة مابرحت تعاني منها حتى اليوم، ونفَّذ أنور السادات مشروعه مع إسرائيل دون ضجيج من داخل الساحة العربية.
(2)
حاولت الكويت أن تحل محل بيروت على الأقل على المستوى الإعلامي، فكان لها ما أرادت في هذا المجال، لكن أيضاً لم تهدأ ساحتها السياسية من الضغوط الخارجية، البعض من تلك الضغوط يريد تعميق جذور الديمقراطية في البلاد، والبعض الآخر لا يريد حتى سماع ذلك المصطلح ويريد إلغاء كلمة البرلمان وكلمة الدستور من المصطلحات السياسية الكويتية. المهم أن محاولات انتقال الدور الإعلامي والسياسي إلى الكويت فشلت لظروف البيئة الكويتية ومحيطها الجغرافي.
(4)
وجاء الدور على الإمارات العربية المتحدة في سبعينيات القرن الماضي، عصر الشيخ زايد، رحمه الله، لتحاول سد الفراغ الذي أنتجته الحرب الأهلية في لبنان وهجرة الصحافة والمثقفين العرب من هناك إلى الكويت، في هذه الأجواء استقطبت دولة الإمارات العربية المتحدة خيرة رجال الإعلام العربي وخيرة رجال الفكر في جميع حقول المعرفة، فأسست الأندية الثقافية، وأصدرت الصحف والمجلات وأعطت هامشا كبيرا من الحرية للإعلام، الأمر الذي جعلها تنافس، إلى حد كبير، الصحافة الكويتية.
كان إلى جانب الشيخ زايد، رحمه الله، لتحقيق مشروع الدولة العصرية كوكبة من أبناء الإمارات، أذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، السيد أحمد خليفة السويدي، وسيف غباش وزير الدولة للشؤون الخارجية (اغتيل في مطار أبو ظبي وهو يودع عبد الحليم خدام وزير الخارجية السوري في ذلك العهد نتيجة للصراع القائم آنذاك بين دمشق وبغداد)، وتريم عمران وغيرهم من الشباب المتحمسين للدولة الاتحادية، والنتيجة لهذا المشروع التنافسي الحر فشلت الدولة الاتحادية في هذا المشروع الوطني المهم لأسباب وأسباب سيذكرها التاريخ ولو بعد حين.
(5)
في ظل العواصف السياسية التي هبت على الخليج العربي، بدءا بالحرب الأفغانية ضد السوفييت وكان للعرب المجاهدين تحت سمع وبصر الحكومات العربية الدور البارز في تلك الحرب ضد الشيوعية وجاء احتلال الكويت عام 1990 من قبل العراق، مرورا بحرب عاصفة الصحراء لإخراج العراق من الكويت.
دخلت قطر بكل ثقلها السياسي والمالي إلى ميدان الإعلام الحر، يرعى ذلك التحول الإعلامي والسياسي أمير دولة قطر في ذلك الحين الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ألغى وزارة الإعلام ورفع الرقابة عنه، إلا ما يتعلق بقضايا الدين والأخلاق العامة، فذلك له جهاز متخصص في حماية المجتمع والدين، فانتعشت الصحافة في عهده وتأسست محطة الجزيرة الفضائية والتي بدورها كانت الضربة القاضية للإعلام العربي الرسمي.
نعم، لقد أحدثت الجزيرة ثورة في مجال الإعلام العربي وناصبتها العداء كل الأنظمة العربية ولم تسلم من محاولة النيل منها بالقوة من قبل الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن، ورئيس وزراء بريطانيا السابق طوني بلير.
في هذا الإطار تمتعت دولة قطر بحرية صحفية منضبطة وإعلام تلفزيوني مميز، الأمر الذي جعل دولة قطر تستقطب خيرة الإعلاميين العرب على كل الصعد، ومنحهم حرية العمل الصحفي الحر والمنضبط أخلاقيا ومهنيا.
أستطيع القول: إن قطر نجحت في هذا المجال، بل تعدت حدود الوطن العربي لتكون الجزيرة الفضائية ناطقة باللغة الإنجليزية ولغات أخرى تنافس الفضاء الإعلامي العالمي في الوقت الذي عجزت الأنظمة العربية في إيجاد منبر إعلامي عالمي ليشرح قضاياهم العادلة للرأي العام العالمي..
(6)
السؤال الذي يطرح نفسه، هل تستطيع إسطنبول أن تكون ميدان هجرة المثقفين العرب والمغبونين سياسيا واجتماعيا في أوطانهم وأن تكون منبرا لهم يخاطبون شعوبهم من بعيد كما كانت القاهرة في ذلك الزمان وكما كانت بيروت؟ هل يمكن أن تكون مسؤول الإعلام العربي الحر بعيدا عن عواصم العرب؟ هل يمكن أن ينتقل الإعلام المهاجر والمعارض من أوروبا إلى إسطنبول ليكون قريبا من الساحة العربية؟.
والحق أن إسطنبول مؤهلة، لكني أريد أن تكون الدوحة هي عاصمة المثقف والسياسي العربي.
آخر القول: انفض مجلسنا في تلك الليلة لنعاود الحديث غدا عن حال الأمة العربية ونحن في إسطنبول.
758 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع