البلدان العربية مصابة بمرض فقدان المناعة الاجتماعية لغياب الديمقراطية

                                      

                          د.عزالدين عناية

البلدان العربية مصابة بمرض فقدان المناعة الاجتماعية لغياب الديمقراطية
عزالدين عناية في حوار مع عبدالسلام سكية الصحفي في جريدة الشروق الجزائرية

- كيف تنظر إلى تسابق الكثير من شباب الدول الغربية إلى الإلتحاق بصفوف الدولة الإسلامية , هل تعتقد أنّ التنشئة الإسلامية في العالم الغربي تميل إلى التشدد ورفض ما في العالم الغربي؟
ثمة حملة قذرة يتعرض لها المسلم في الغرب، سواء منه المهتدي إلى دين الإسلام أو الوليد في تلك الربوع ويعود إلى أرومة إسلامية، ولا أستبعد دوائر كنسية ويمينية وراء ذلك التشويه المتعمد بقصد محاصرته وصده، باعتباره مريضا نفسيا يتحول إلى دين عنيف وهمجي، أو باعتباره رافضا للاندماج. الإسلام يخطو خطى مهمة في الغرب، ولا سيما في أوساط الطلاب والمثقفين، حتى ليمكن الحديث عن ظاهرة اهتداء للإسلام لا تخلو منها أي دولة أوروبية، تم ابتكار أساليب مستجدة للوقوف أمامها.
ومن هذا الباب أرى أنه ليس هناك تسابق على الالتحاق بصفوف تنظيم الدولة الإسلامية، وإنما هذه حالات فردية مضخَّمة ومهوَّلة بفعل الآلة الدعائية الجبارة التي يساهم فيها الإعلام العربي التبيع، وبدون قصد ووعي. العملية تستهدف البلاد العربية، والعرب لا حول لهم ولا قوة، لا على مستوى إعلامي، ولا على مستوى معرفي، ولا على مستوى سياسي. وتنظيم الدولة الإسلامية هو تنظيم يقوم أساسا على المتوافدين من دول عربية، بعد أن فشلت الثورة السورية المصطنعة، لأنها ليست ثورة طبيعية، وكذلك بعد أن بلغت الحالة في العراق مستوى من التعفن السياسي مع رئيس الوزراء السابق نوري المالكي إلى درجة لا يطاق، وأما الأجانب في تنظيم الدولة الإسلامية فهم قلة قليلة، تُوظَّف للدعاية لا غير.
ولا ريب ان الملتحقين بتنظيم الدولة الإسلامية هم ضحية أمرين أساسيين: وَهْمُ نصرة الإسلام، وهو ناتج عن محدودية المعرفة، وقصر النظر، وتدني الإلمام بالواقع السياسي لمنطقة الشرق الأوسط؛ ومن جانب آخر هو نتاج لفشل المجتمع الدولي، أو بالأحرى إهمال المجتمع الدولي، للإنسان السوري وتركه يواجه قدره، الذي لن يخرج من ورطته إلا بالتعويل على ذاته وبناء المصالحة الداخلية بأقل التكاليف وبأسرع وقت ممكن. وبالتالي يبقى سؤال لاهب وعاجل وهو، كيف نخرج من هذه الأهوال التي تضرب البلاد العربية؟ الجواب وهو من حق الشعوب العربية أن تذهب إلى الديمقراطية وأن تطالب بها، ولكن بدون عنف وبدون رفع السلاح، وبالمثل من واجب الدول أن تنتهي فورا عن ممارسة العنف ضد شعوبها حين تكون مطالبها مشروعة. من جانب آخر لا بد أن نعيد النظر في سياساتنا التعليمية والتربوية الفاشلة بكل جدّ وحزم، وهذا يكون على مستوى بعيد.
- هل تعتقد أنّ مسألة الالتحاق بصفوف الدولة الإسلامية "نفسية" أكثر منها مسألة قناعة طبيعة الظروف التي تربوا عليها من بلدانهم التي تظلم المسلمين وتتدخل في شؤونهم ما حفّزهم إلى ركوب أي موجة للثأر؟
لا ريب أن كل مجتمع يعاني من مشاكل ذات طابع نفسي واجتماعي، ولكن أعتقد أن المشاكل النفسية والاجتماعية في العالم العربي هي أقوى وأشد مما في غيره، ففيه الإنسان متروك في العراء التام. الإنسان في الغرب أقرب إلى الشخصية السوية مما نجده في البلاد العربية، المشكلة أن الإنسان العربي يتصور نفسه في جنات علّيين، والحال أنه يعاني انهيارا بنيويا على جميع الأصعدة. فهناك مغالطات يعيشها العقل العربي الفاشل، تتصور أن الغرب يعاني من مشاكل نفسية أسرية، ومن تمزقات عائلية، ومن اضطرابات نفسية، ومن انحلال خلقي، وغيرها من التصورات المسقَطة واللاواقعية.
- كثيرا ما كانت مسألة الإسلاموفوبيا مشكلا خطيرا في العالم الغربي تعرضت دونه الأقليات المسلمة إلى أبشع أنواع الإهانات التي وصلت إلى الاعتداء الجسدي، هل ساهمت هذه في إنماء نزعة "التطرف" و "الحقد" على الغرب وفضحت حقيقة دعاويه بالحفاظ على حقوق الإنسان.
تميّز الباحثة الإيطالية مونيكا ماسّاري في مؤلفها "الإسلاموفوبيا. الخوف من الإسلام" ثلاثة أطراف مروِّجة للإسلاموفوبيا، وهي: اليمين المتطرف؛ وبعض الأطراف الكنسية؛ وطائفة من المثقفين. ويعود خوف اليمين المتطرف من الإسلام وفق عالم الاجتماع الفرنسي ألان توران إلى أن "الآخر، والعربي بالخصوص، يتم رفضه لأنه يمثل صورة منيعة، رسوخا ثقافيا تتعذّر مجابهته". ونزعم أن هناك إصرارا ضمنيا في الأوساط اليمينية على النقاء العرقي والديني في زمن شهدت فيه المجتمعات تحولات عميقة.
وجراء العداء السافر مثلا لرابطة الشمال في إيطاليا نحو الإسلام، عبّر بعض الناشطين في منطقة لودي (Lodi) في السادس من أكتوبر 2000 عن معارضتهم إنشاء فضاء لأداء الشعائر الإسلامية بصبِّ كميات من الفضلات البشرية (بول وغائط) وروث للخنازير في المكان المزمع إقامة المسجد عليه بقصد تدنيسه.
وأما الطرف الثاني المشارك في صناعة الإسلاموفوبيا، فهو شق تابع للكنيسة الكاثوليكية. فقد بدأت هواجس الكنيسة تجاه المهاجرين المسلمين منذ مطلع التسعينيات. إذ مثّل المهاجر المسلم عنصر قلق دائم للكنيسة. وفي السياق ذاته جاءت تصريحات أسقف كومو المونسنيور أليساندرو ماجوليني سنة 1998 منددة بالغزو التدريجي للبلد؛ وأيضا تصريحات رئيس أساقفة بولونيا الكردينال جاكومو بيفي، الذي عدّ الإسلام، خلال العام 2000، خصما للمسيحية، داعيا إلى إعطاء الأولوية للمهاجرين المسيحيين وغير المسلمين، باعتبار المسلمين غرباء عن "إنسانيتنا".
ودائما في نطاق التخوف من المسلمين، أصدرت رئاسة المؤتمر الأسقفي الإيطالي سنة 2005 وثيقة، أعربت فيها عن عميق انشغالها بقضية الزواج المختلط بين الكاثوليكيات والمسلمين. ناهيك عن العودة بشكل متكرر للتوصية بعدم إتاحة الفرصة للمسلمين لاستعمال فضاءات راعوية بقصد أداء الشعائر أو القيام بأنشطة.
نأتي إلى الشق الثالث في صناعة الإسلاموفوبيا، المتمثل في طائفة من المثقفين والإعلاميين يتربعون على المشهد الإعلامي. كان الباحث الفرنسي فينسن جيسي (Vincent Geisser) من أوائل الذين نبهوا للأمر حينما نشر بحثه "الإسلاموفوبيا الجديدة" سنة 2003. هذا الاتهام للمثقفين يتكرر ثانية في المؤلف المشترك لعبداللالي حجات ومروان محمد اللذين تناولا كيفية صنع النخبة الفرنسية مشكلة الإسلام. ذلك أن "صناعة الخوف من الإسلام" قد سادت في العديد من الأوساط الإعلامية الأوروبية حتى تسببت في تلويث المخيال الغربي. ففي مؤلف يرصد التأثير القوي للتلفزيون تناول "قناة الراي" الإيطالية، يورد إحالة مفردات على غرار "الإسلام" و "الله" إلى دلالات مثل "الأصولية" و"الإرهاب" و"الحجاب".
- كيف تقيّم العلاقات بين الاثنيات والطوائف والملل في العالم الغربي وهل يمكن القول بأنّ غياب ثقافة الحوار بين الثقافات ساهمت في بروز عناصر "متطرفة" من هؤلاء سواء المسلمين أو المسيحيين أو اليهود وغيرهم؟
في الحقيقة لم يتسنّ للأديان الإبراهيمية، حتى عصرنا الراهن، رسم خطّة مشتركة في التعايش والاحتضان بين بعضها البعض. تتواضع بمقتضاها على حضور أتباع الدين الآخر بين ظهرانيها، دون أن يلحقهم أذى أو ترهقهم ذلّة. وإن كانت حصلت معالجات منفردة لهذه المسألة، اختلفت تفاصيلها من دين إلى آخر، دون بلوغ أسس جامعة. فمن الأديان الثلاثة من يملك تشريعات في الشأن، غير أنها تقادمت، أو هُجرت، أو داهمتها التبدلات الاجتماعية الهائلة، دون أن يتعهدها أهلها بالتهذيب والتنقيح، على غرار مؤسسة أهل الذمة، أو مفهوم أهل الكتاب في الإسلام؛ ومن تلك الأديان من لا يزال في طور تخليق منظومة لاستيعاب الآخر، لم يحصل بشأنها إجماع داخل المواقع النافذة في المؤسسة الدينية، على غرار "لاهوت الأديان" في المسيحية.
ذلك أن مفهوم الأديان الإبراهيمية حمّال ذو وجوه، كلّ له دلالته وكلّ له تأويله؛ وما نشهده من إيلاف في الراهن داخل المجتمعات، يأتي بفعل الإطار التشريعي للدولة المدنية الحديثة لا بموجب تحريض تلك الأديان. رغم ما يلوح جليا من قواسم مشتركة، ومن تقارب عقائدي بين اليهودية والمسيحية والإسلام. وبالتالي يبقى التحدي يواجه الجميع، وهو كيف تعيش تلك الأديان شراكة الأوطان؟ وكيف تغدو حاضنة لبعضها البعض ولا تكون طاردة؟ إذْ ما برحت اليهودية والمسيحية والإسلام دون مفهوم "أهل الكتاب" الضامن للعيش المشترك، ودون مفهوم "الأديان الإبراهيمية" الجامع للتنوع المفترق، وينطبق عليها مفهوم "الأديان الثلاثة" المتجاورة والمتباعدة في الآن نفسه.
فالأديان الثلاثة تبدو مقبلة على مواسم تفوق قدراتها الهرمنوطيقية التقليدية، يفرضهما التعايش والتداخل بين المؤمنين، ما عادت المدونات الفقهية واللاهوتية الكلاسيكية كفيلة بحلها. كما أن هناك قضايا تواجه تلك الأديان تتخطى إمكانيات دين بعينه، وتتطلب تضافر الجهود، مثلإشكاليات البيئة والمناخ والفاقة والأمية، وغيرها من المشاكل العويصة. فالعالم اليوم يتغير من تحت أقدام الأديان الثلاثة -إن صح التعبير- بوتيرة متسارعة، غالبا ما توفّق التشريعات المدنية في التأقلم معها، وتتعثر الديانات الإبراهيمية عن مواكبتها، في وقت يُفترض فيه أن تكون الأقدر والأجدر لما بينها من رؤى أنطولوجية جامعة.
كان علماء الاجتماع الديني الأمريكان، أمثال رودناي ستارك ولورانس إياناكوني وروبار توليسون، من أوائل الذين نبهوا إلى أن الفضاء الديني الغربي، أو كما يطلقون عليه "السوق الدينية"، محكوم بالاحتكار من طرف متعهّد قوي يمسك بمقدرات الفضاء، يضيّق على غيره التواجد، ويحدد مقاييس الحضور وفق مراده. ومن المفارقات الكبرى في عصرنا، أن الدين المستضعَف المهاجر، بات يستجير بالعلمانية وبالدولة المدنية طلبا للمقام الآمن، ولا يجد ذلك المأمن وتلك النُّصرة عند رفيقه في رحلة الإيمان، وهو حال الإسلام الأوروبي. فهو ليس في استضافة الكاثوليكية "التقليدية" ولا البروتستانتية "التقدمية"، ولكن هو في كنف العلمانية. فقد وفقت المجتمعات الحديثة في ما خابت فيه الأديان الثلاثة، من حيث إتاحة فرص الحضور للآخر. في وقت يُفترض فيه أن يكون المؤمن "الإبراهيمي"، بين أهله وملّته، حين يكون في الحاضنة الحضارية لدين من الأديان الثلاثة، لكنه في الحقيقة لا يجد تلك السكينة، وغالبا ما يلقى حرجا، ويأخذ صورة الخصم والمنازع والمهدّد القادم من وراء البحار، ولذلك أمام دعاة الحوار اليهودي المسيحي الإسلامي، ثمة ضرورة ملحة لطرح سؤال: هل هناك فعلا أمة إبراهيمية أو تراث إبراهيمي جامع؟
- البعض يرجع مسألة التحاق الغربيين بصفوف الدولة الإسلامية إلى طبيعة النشأة التي تربوا عليها والتي تأله القوة وتعبدها سواء وافقت الحق أو خالفته فكان لظهور تنظيم يحمل هويتهم ويجابه بالقوة أعداءهم الدعاية القوية في تجنيدهم؟
إن من يعاني الانهيار الخطير حسب تصوري هو الإنسان العربي، الذي تراكمت عليه تعفنات اجتماعية وسياسية مزمنة. ليس هناك وجه للمقارنة بين الطفل الغربي والطفل العربي، من حيث الحالة السوية التي ينعم بها هذا وذاك، ليس هناك وجه مقارنة بين ظروف الطالب العربي والطالب الغربي فالبون شاسع. أنا ابن البلاد العربية ودرست في تونس ودرست في الغرب وأعرف دقائق الأمور عن الفضاءين. لا بد أن نصحح رؤانا وننظر إلى الأمور بصدق لأن الحق أحق أن يُتّبع.
فالحديث عن أزمة نفسية اجتماعية في الغرب لتبرير، أو لتفسير التحاق أنفار غربيين بتنظيم الدولة الإسلامية هو حديث مغلوط من أساسه وهروب من الجواب الصحيح. ففي الراهن الحالي هناك بلدان عربية عدة مصابة بمرض فقدان المناعة الاجتماعية، وغير قادرة على حماية حدودها وشعوبها، ولا هي أيضا قادرة على تأمين العيش الكريم لمواطنيها، مما حولها إلى مسرح لصراعات خارجية. ثمة فشل لمؤسسات البلاد العربية التعليمية والدينية والتربوية، ولّدت ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في الشام والعراق. وليست سائر المناطق الأخرى في مأمن من بروز هذه الظاهرة. فالواقع العربي الحالي هو منتج بالقوة وبالفعل لهذه الانحرافات الاجتماعية في ظل الاضطراب الكبير لبنية الاجتماع العربي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

736 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع