أعـمـى بطـريق مـظـلـم / الحلقة السادسة عشر

                                         

                         د.عبدالرزاق محمد جعفر

              

     أعمى بطريق مُظلم!الحلقة السادسة عشر

تفهم (أبو علي) محتوى البرقية التي وصلت لـ "صابر" من العراق ,.. فذهل لحظ زميله المتعثر,ولذا أراد أن يخفف عنه الصدمة,وطلب منه الخروج للتجول في مركز اسطنبول,..  ليجتران المطبات التي تعرضا لها في مسيرتهما ,.. وراح يقـص كلاً منهما للآخر(المطبات), التي أهدرَت شبابهما,.. الى أن وصلا لســوق استنبول القديم,.. فدهـش "صابر" للمعروضات من البضائع والحلويات الشرقية والمطاعم الراقية, وراحا يتسكعان,حتى انهكهما التعب, وعادا فجراً الى سكنهما وقد (فـَـشَ) كلا منهما الآلام الجاثمة على صدره منذ سنوات !    


  
            


                       أحد اسواق اسطنبول القديمة

صباح اليوم التالي مَـرً (ابو علي) على غرفة "صابر" قبل ان يستلم عمله, وتناولا الفطور معاً, وشعر"صابر" بالأستقرار,وصارتواقاً لمعرفة الحالة الأجتماعية في استنبول, ولذا سأل زميله عن أمكانية التعرف على صبية تصلح كزوجة !, فأيده (ابو علي),وقال : العديد هنا من العوائل التركية تتمنى مصاهرة العرب وبالخصوص العراقيين ففرح "صابر" بالفكرة وصمم على خوض التجربة ,.. والعودة للعراق مع زوجة تركية ليتخلص من الخطابات!

            

بعد نهاية الفطور توجه (ابو علي)الى منصة الأستعلامات, طالباً من "صابر" التعرف بـأي ( فتاة تلفت نظره) فالأمرهنا لا يختلف عن موسكو, وفي الحال توجه نحو صبية كانت تقلب بعض الصحف وتراقب كل داخل,فكلمها بالأنكليزي, فغضبت منه وامطرته بكلام لاذع,  فخجل "صابر" وعاد الى زميله (ابو علي), وقص عليه ما حدث له مع تلك الفتاة,..وقال له :
ما ان فتحت فمي لأكلمها حتى شتمتني!... فسأله (ابوعلي) عن كلمات الشتيمة,..فقال:
لم افهمها,..فضحك (ابو علي) وقال: البنت لم تشتمك,..لأن الشتائم القبيحة بالتركي هي نفسها التي ننطقها في شوارع بغداد ,.. وهون الأمرعلى زميله وشجعه على الثبات.
استمر "صابر" في ضيافة (ابو علي) لمدة عشرة ايام أعادت له  صـحته وصفاء نفسه, ولم يأبه لتصرف زوجته طالما الحياة ما زالت وردية, ..اضافة الى انه ما زال في مقتبل العمر,.. وفي مركز أجتماعي مرموق,.. وأستاذ في جامعة بغداد.
***
 عاد الدكتور "صابر" الى بغداد, وباشرعمله  في الكلية,..وبعد جهد جهيد تمكن من اقناع أمه واخته وكافة معارفه بالأسباب التي منعت عودة زوجته وطفله,.. ومنهم من صدق ومنهم من تكهن في نهاية الأرتباط ,.. وان الطلاق آت لا ريب فيه !  
أسـتمرت مشكلة "صابر" الموسومة بـ (اللازواج واللاطلاق), من زوجته الروسية, وتحمل وزرها,وقساوة حب الأستطلاع عند الناس,.. فالكل يرغب بمعرفة الحقيقة التي لا يعرفها هو!, ولقد تعب من تحليلات من كان يعتبرهم أصدقاء,.. وتقوقع مع نفسه!
***
عاش "صابر", بعد أصرار زوجته بعدم العودة الى العراق, سـواحاً لمدة ثلاثة سنوات !,.. زارخلالها موسكو سـتـّة مرات !, محاولاً اقناع زوجته بمرفاقته والعيش بكنفه مع ولدهما في بغداد,.. ولكن ما العمل ؟!, فقد أخطأ "صابر" يوم تركها وحيدة, فخنعت لأرادة والدها, الذي حطم كل مشاعرها العاطفية بزوجها !
ترك الدكتور"صابر" زوجته كدمية بيد والدها, وصارت تتحرك وفق مشيئتة, وأيقن من عدم عودة المياه الى مجاريها,..واعتبر الأمرمستحيلاً,.. الا انه اراد ان يغري زوجته المحبة  للملابس والأكسسوارات والماكياج,.. حيث تشـكل تلك الأمورنقطة ضعف عند معظم صبايا النظام السوفيتي آنذاك!
وهكذا كان في كل زيارة,.. يحمل معه الكماليات التي ترغبها زوجته, فتفرح بها وتستقبله بود وحرارة تعيد ثقته بها,ثم تطلب منه موافقت على بقاءها , لأنهاء ما تبقى لها من كورسات السنة النهائية,.. وأسـتخراج  وثائق الفيزة للألتحاق به في العراق, ولكنها لم تكن صادقة, فقد كانت تبرز له عذراً بتأخر وثائق سفرها, بأدلة مقنعة ,.. فيخيب أمله كما في كل مرة !   
وعلى أية حال,..صارت (اليمامة), تلعب على المكشوف, وبرعت في التمثيل , فأغرته بكل ما وهب الله حواء من خبرة ودهاء,.. مُعتزلاً كل الملذات ,.. ونسـى انه رجلاً !
***
وفي آخر لقاء لـ "صابر" مع (اليمامه),.. طلبت منه أن يغادر وطنه العراق , ويعمل في دولة عربية اخرى,.. متذرعة بعدم استقرارالوضع السياسي في العراق , واحتمال اشتعال الحرب بين العراق وإيران مسـتندة على ما سمعته من والدها المتنفذ في الجيش السـوفيتي !   
ضحك "صابر" من هذا التصورالساذج , حيث لا يمكن لإيران آنذاك , أن تـشـن حرباً على العراق، فالإيرانيون "شيعة" يكنون التقديس للعراق الذي يضم أضرحة آل البيت عليهم السلام  ولا يمكن لعاقل أن يصدق مثل هذا الرأي في الستينات من القرن الماضي ؟!
***
رجع "صابر"من موسكو بخفي حنين,.. جاراً أذيال الفشل ومؤمناً بعدم عودتها، واقنع نفسـه بأحتمال العمل في قطرعربي آخر,وراح يرسم مخططاً لردعها من خديعته مرة أخرى.
وقبل نهاية السنة الدراسية 1970,عزم على التوجه لزيارتها  في موسكو لآصطحابها لأي قطرعربي قـد يجد فيه عملاً، الا انه اسـتلم منها قسـيمة الطلاق مرسله عن طريق سفارة الأتحاد السوفيتي في بغداد، وبُلَّغَ بها عن طريق عمادة كليته برسالة من الخارجية العراقية‍‍‍‍ !
***
تلقى "صابر" تلك الضربة الموجعة وهو في حالة ذهول تام , وتهدم كل ما بناه, وأصبح عارياً عن مقومات الحياة التي عصفت به,.. بعد سـفـرات منكوكية بذل فيها الجهد والمال لأقناعها بالعودة خلال سـنوات التشرد بين موسكو وبغداد !
 خسـر "صابر" زوجته الأجنبية وولده,.. بسبب ثقته العمياء,.. والظروف العصيبة التي واجهته بعد وفاة والده في اليوم الثاني من عودته الى بغداد , والآمال التي كان يعقدها على والده بشراء بيت له والسكن معه في بغداد!
***
عاش "صابر" حياة الرهبنة, ولم يتقبل طريقة عرض الصبايا عليه كبديل لزوجته الأجنبية, ونـفـَرمن تلك الطريقة لكونها مماثلة لتجارة الرقيق !
وفي أبريل (نيسان) 1970 زار قسم الكيمياء بكلية التربية بجامعة بغداد, وفـداً من الجامعة الليبية، وبينما كان الدكتور"صابر" منهمكاً في ابحاثه في مختبره في قسم الكيمياء الموسوم بـ (بن حيان),دخل عليه عميد الكلية  بصحبة احد اعضاء الوفد الليبي ,..  وبعد التعارف على الزوار,.. انزوى أحدهم جانباً مع "صابر",..وعرض عليه العمل في جامعة طرابلس في ليبيا لقاء راتب مُغـرٍ فوافق "صابر" ، وراح يردد بصمت بيتاً من قصيدة لأبي حنيفة (ع):
ضاقت ولما أستحكمت حلقاتها فُرجت =  وكـنتُ اظنـها لـن تـُفرج!
وبعد أسابيع من ذلك اللقاء استلم الدكتور"صابر"برقية من رئيس الجامعة الليبية تنص على دعوته للتدريس في العام الجامعي القادم (1970-1971)، وأجابه بالموافقة.
بـدأ "صابر"بإجراءات السفر في منتصف شهر سبتمبر ,.. وفق الطرائق الرسمية, مبتدأً برئاسة القسم ولغاية وزارة التعليم العالي،وسارت الأمور بشكل ايجابي إلى أن وصلت لوزارة التعليم العالي,..توقفت!
 شـَعـر "صابر" بوجود (عرقله ما ), لأن جامعة بغداد,.. ووفق نظامها لن توافق مُطلقاً على
أي إجازة او ايفاد بعد بداية السنة الدراسية في الفاتح من سبتمبر,أي في 1/ 9 / 1970 .
***
وهكذا وجد "صابر" السائر بطريق مُظلم,.. قد دخل في نفق جديد !, وفي صباح ذلك اليوم وبينما كان يشرب قهوة الصباح في غرفة زميله الدكتور مجيد القيسي , راح يشكو له الحالة,.. من تعند وزيرة التعليم العالي بعدم  موافقتها بأعارة الأساتذة للعمل في خارج القطر,.. ألا في بداية سبتمبر (أيلول),.. وفجأة أطل جندي أنضباط مستأذناً الدكتور القيسي بالدخول,.. وأدى له التحية العسكرية ,..وسلمه رسالة, ومن باب الأدب أنسحب "صابر" وخرج الى غرفته المقابلة في نفـس القسم ,..وبعد دقائق,..أطل الدكتور القيسي مبتسماً,وقال :
فرجت يا أبو (......), الآن أستلمت قراراً بتعييني عميداً لكلية العلوم ,و يمكنك أن (تشلع!), وسوف نعالج الموضوع أذا رفضت الوزيرة الأعارة,.. فقام "صابر" وعانقه متمنياً له التوفيق, ثم توجه الى شركة سفريات في الباب الشرقي,وقطع تذكرة الى بيروت,بتاريخ  28/ 8/ 70 .

  

وصل "صابر" بيروت ,..وألتقى بزميل له منذ أيام الدراسة في موسكو ,..وقضى بمعيته يومان ,.. ثم توجه الى طرابلس على متن خطوط الشرق الأوسط,..ووصل طرابلس الغرب في اليوم الأول من الذكرى الأولى لثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول),..  وكان في استقباله موفدٌ عن جامعة طرابلس , أستقبله بحفاوة, وأكمل له أجراءات الكمارك فقط (حيث كانت ليبيا تسمح بدخول العرب لها من دون فيزة),.. ثم أقـله إلى أضخم فندق في حينه بطرابلس يسمى: ليبيا بالاص (قصر ليبيا),.. ووعده بالمرور عليه في صباح الغد لرفعه الى مـقـرجامعة طرابلس.
لقى "صابر" ترحاباً حاراً من أعضاء هيئة التدريس ،وشـعـر بغبطة وامتنان ،..  وما أن استقر في عمله وسكنه حتى راسل أصدقاءه في موسكو ، لمعرفة أخبار زوجته المطلقة,.. وبعد شهر لمـس من أجوبتهم ,ان لا امل من عودتها ,.. لأنها تزوجت !                                   
 وهكذا تمزقت أحلام  "صابر", .. ومرَّت الأيام  وحاول النسيان ولكن من دون جدوى،.. واعترته حالة من الكآبة ، وأنعزل عن محيطه ,..

وكانت سلوته الوحيدة البكاء بصمت وترديد مقاطعاً من أغاني سيدة الطرب أم كلثوم! :
يا حبيبي كل شيئ بقضاء = ما بأيدينا خلقنا تعساء  
 ربما تجمعنا أقدارنا      = ذات يوم بعدما عزَ اللقاء
فأذا أنكر خل خله         = وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل الى غايته    = لا تقل شئنا فأن الحظ شاء

 

هدأ "صابر" بعض الشيء, وراح أصدقاؤه يرشحون من يرونها زوجة صالحة له,.. إلا أنه أبى أن يقترن بأية امرأة لا تحمل جنسية بلده بسبب الثمن الغالي الذي دفعه عندما فقد ولده في بلاد تختلف قوانينها عن قوانين بلده, وتمكن أهل زوجته من تغيير اسم ابنه وسُجل الطفل بأسم جدَّه لأمه, وكل ذلك باسمك يا قانون!
قرر"صابر", وضع حد لمعاناته والزواج في أقرب فرصة، فسافر إلى وطنه في عطلة نصف السنة الدراسية 1972، والتقى بالعديد من الأقارب والأصدقاء ،وعرضوا عليه العديد من البنات,.. وفق العرف السائد في ذلك الحين!.. إلا أن القدرأو الحظ أو قل ما تشاء من المسميات ,.. لعبت دوراً مهماً في طريقة الاختيار، فوقع (المقدروالمكتوب),على أخت زميله أثناء دراسته العليا في موسكو ,..وسأروي لكم أحد أسرار "صابر" التي جعلته يؤمن وبشكل قاطع ,..أن الأنسان مُـسير وليس مُخير,.. في الحلقة 17 ,.. مع محبتي !
يتبع في الحلقة / 17 مع محبتي

للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة :

http://www.algardenia.com/maqalat/13621-2014-11-19-07-51-33.html

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

634 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع