زيد الحلي
د. عبد الحسين شعبان يعتذر لوالدته:
عصر كامل مخبوء في قلم واحد
لمّتُ نفسي كثيرا ، حين أجلتُ قراءة كتاب ( المثقف في وعيه الشقي ... حوارات في ذاكرة عبد الحسين شعبان ) لمؤلفه الاديب توفيق التميمي .. لتصوّري ان الكتاب ، ضم فقط قراءات في فكر الدكتور عبد الحسين شعبان ، ولاشك انه فكر ثاقب ، مثلما لكتاباته من عمق واثر في الوجدان ، فيها خيوط قد تشكل آهات ، وقد تشكل مشاعر جميلة ، لكني وجدتُ في الكتاب ما هو اعمق من ذلك ، وجدتُ سياحة غير مسبوقة في الفكر الشمولي للمفكر والباحث د. شعبان ، ضم استذكارات ولمحات من الحياة في ميدان الفكر والإعلام والعائلة وفضاءات الكتابة ، بلغة بسيطة قريبة من ذهن القارئ ، دون التقيد بالبلاغة والإطالة التي تتعب القارئ ، رصدت حياة د. شعبان المكتظة بالأحداث والرؤى والشخصيات المعروفة في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية ، تنوعت بين عهود مختلفة منذ العهد الملكي ورمزه نوري السعيد والجمهوري ورمزه عبد الكريم قاسم الى احمد حسن البكر وصدام حسين والبارزاني والحزب الشيوعي العراقي وحميد مجيد موسى وعزيز محمد وغير ذلك..
كان ذكاء الكاتب ، المحاور توفيق التميمي ،ملموسا في شحذ ذاكرة المبدع الكبير د. شعبان ، وهذه ملاحظة تُحسب للتميمي ، مثلما تُحسب لذاكرة د. عبد الحسين ، الذي كانت اجاباته تتسم بالدقة ،الصبر ، الاناة ، الموضوعية ، المصداقية ، العلمية ، عدم التحييز ، النزاهة ، الجرأة ، الخبرة ، الدراية ، الممارسة ، عدم المحاباة ، عدم التلكؤ في قول الحق والحقيقة ، عدم الخوف ، امتلاك المعرفة بتاريخ العراق السياسي والثقافي والاجتماعي وكل صنوف الحياة فيه .
عصر كامل
لقد لمستُ وانا أقرأ الكتاب ، انني امام عصر كامل مخبوء في قلم واحدة، وانسان مبدع .... صفحاته زادت على 450 صفحة من القطع المتوسط وازدان بأكثر من 150 وثيقة على شكل صور فوتوغرافية ، منها مع الجواهري وبلند الحيدري والطيب صالح ورئيس الوزراء المغربي وعزيز محمد وامير قطر ود. بشار الاسد وعزيز الحاج ورئيس وزراء البحرين ود. نزيهة الدليمي والرئيس السوداني وبطرس غالي والأمير الحسن بن طلال وعامر عبد الله والملك عبد الله بن عبد العزيز ومعمر القذافي وسعدي يوسف واودنيس وجهاد الخازن وناجي علوش وجلال الطالباني واحمد الجلبي ومظفر النواب وجورج جرداغ وغيرهم وغيرهم ..
الكتاب ممتع ، يأخذك بسهولة الى عالم الذكريات تتعرف من خلالها ، الى شخصيات تدعي الصداقة الحقة ، فيما هي مثل الماء الراكد ، تتحرك حينما تستجد له حاجة عندك ، وفيهم من يتصيد المناسبات ، مؤكدا انه نهرا ، رقراقاً ، لكنه سرعان ما يعود الى طبيعته ، صحراء ، تملأ دواخله اليباب ، حين تنتهي المناسبة ، وفيهم ، من يمنحونك هواء عليلاً ، لأنهم شدو نهر رقراق في جريانه ، همه السؤال عنك ، والتبحر في احتياجاتك ... هو شريانك ، مرتع الخصب في حياتك ..!
انا اتابع كتابات د. شعبان ، كالبحر موجة وراء موجة ... لأنه أستطاع أن يأتلف مع الجو الجديد الذي يمر به مجتمعه ، ويدرك ما في هواء المجتمع من نوازع وتطلعات وحاجات يجيب هو عليها ، فيخلق بذلك معاني جديرة بأن تسمى جديدة لأن فيها عبق التطور الاجتماعي الجديد ، والأبداع عنده هو الحرية عينها ، بمعنى أن يتحرر الكاتب والمفكر من أساليب التفكير التي تعلمها وأعتادها, ربما " كانت " تلبي حاجة في فترة مضت ومرحلة تجاوزها المجتمع, وغدت بعيدة عن أن تفي بمتطلبات الوضع الاجتماعي والثقافي الجديد ... وهو امر سار عليه د. شعبان بذكاء المفكر والكاتب .. فالذكاء يعني القدرة على التكييف مع المواقف الجديدة , وكلنا يدرك أن الشخص الذكي هو الذي لا نجد لديه الصلابة والجمود اللذين نجدهما لدى الكائن الجامد, وإنما نجد لديه تلك المرونة وتلك القدرة على التغيير التي تمس الحياة في جوهرها.. والأبداع اقوى صور الذكاء عند د. شعبان ، وأرفع أشكال الحياة الدافقة ..
إعتذار متأخر للوالدة
كتابتي هذه ليست قراءة لكتاب " المثقف في وعيه الشقي" فمساحة الصفحة لا تسع ، وموضوعاته جديرة بالتفصيل المطلوب ، لكني اردتُ اشراك القارئ ، بما هو غير مألوف في كتابات د. شعبان ، وهو تناوله لشخصية والدته بموضوع اسماه ( اعتذار للوالدة ) في ثماني صفحات ... واجد انه ، سيحظى ، بمتعة القارئ ، وألمه بذات الوقت ، نظرا لما يحتويه من جانب انساني ، فماذا روى د. شعبان عن والدته السيدة نجاة حمود شعبان.. قال :
( لم أرغب في الحديث عن تفاصيل تتعلق بالدور الذي قمت به، لكي لا تفسر وكأنها ادعاءات، إذ كثيراً ما نقرأ عن بطولات وتحدّيات كبرى، لا يدّعيها الباحث، ولا يريد بأي شكل من الأشكال تناولها، خصوصاً وأن، بعضهم ولا سيّما بعد الاحتلال العام 2003، سطّر ملاحم لا حدود لها، ولذلك كنت أرغب في أن تعفيني من هذا السؤال، وإذا كان ثمة ما يُذكر فرصيده لا يعود لي شخصياً، بل للعائلة، وخصوصاً لوالدتي نجاة شعبان ووالدي عزيز شعبان، وأعتز بأنني إبناً لهذه العائلة المتحابّة، المتسامحة، الصبورة.
حديثي هنا لا يتعلق بي بقدر تعلّقه بوالدتي وهو جزء من وفاء لرحيلها ولروحها الطاهرة وعذاباتها التي لا حدود لها طيلة أكثر من 20 عاماً مثل الكثير من الأمّهات العراقيات المنكوبات، وهو وفاء لروح والدي الراحل وعينه على باب الدار وأذنه على الإذاعة ووجهه إلى التلفزيون على أن يسمع خبراً عن " الغائب" غير " المرخّص" بذكر اسمه إلاّ إيماءً، وهو بناء على إصرارك في السؤال.
تذكّر أن الكتاب صدر في العام 1981 وباسمي الصريح، ولو راجعت الأسماء التي كانت تكتب في تلك الفترة ستجد أنها قليلة، بل وقليلة جداً، خصوصاً وأن الأسماء المستعارة مثل أبو فلان وأبو فلتان كانت ظاهرة شائعة وقد تكون لها مبرراتها، لا سيّما ما تثيره من احتمالات ملاحقات حكومية. وقد سبق نشري للكتاب أن كتبت مقالتين عن الحرب العراقية- الإيرانية في صحيفة تشرين السورية (شهر تشرين الثاني/نوفمبر/1980) أي بعد شهرين من وقوع الحرب، بالتوجّه ذاته، وأثارت حينها ردود فعل كثيرة.
بعد بضعة أسابيع وربما أشهر وكنت قد ذهبت من بيروت التي كنت أتردّد عليها كثيراً، إلى الشام التي كانت مسؤوليتي فيها، وإذا بي أجد ورقة تحت الباب تقول إن الرفاق في بيروت اتصلوا وطلبوا ذهابك إلى بيروت فوراً، لأن والدتك وصلت إلى هناك، وقد توجست خيفة، وشعرت أن أمراً جللاً قد حدث وكنت أعرف مثل هذه الأساليب التي اتبعت مع بعض المعارضين على نحو محدود. وذهبت إلى مقر اللجنة المركزية (قرب السفارة السوفيتيية) وهو البيت الذي استأجرته باسمي للحزب، وأبلغت الرفاق في المكتب بالأمر، خصوصاً وأن الوقت أصبح متأخراً نسبياً. وفي اليوم الثاني تحرّكت بوقت مبكر بسيارة من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين إلى بيروت، ووصلتها قبل الظهر، وبعد أن توجهت إلى مكتب الحزب في بيروت علمت أن الوالدة في مكان قريب من "جمهورية الفاكهاني" التي كانت ملاذنا، وذهب معي للقاء فخري كريم وعبد الرزاق الصافي، وعندما قابلتها بكت بكاءً مرًّا وقد تحفّظت عن الكلام وعندما تحدثت كانت متردّدة، إلى أن طلبت منها ذلك، وقد قدمت روايتها التي عدت ودونتها ودققت بعضها بعد 20 عاماً.
قالت بالنص: لقد اعتقلونا جميعاً بعد أن سكنوا في البيت معنا لمدة خمسة أيام، وكانوا يأكلون ويشربون معنا وبجيوبهم مفاتيح الغرف، لا سيما غرفتك في الطابق العلوي، وصادروا جميع حاجياتك الشخصية، ولاسيّما المكتبة والشهادات والرسائل والأوراق وكل ما يعود لك بالكامل، وبعدها جاءت السيارات وحملتنا إلى المخابرات، (لا تدري أين؟ ولكنها تقول إلى الأمن) وكان والدك مريضاً ومتعباً، حتى أنهم حملوه مع فراشه، وقد استدعاني شخص لم أكن أعرف من هو، لكنهم قالوا أنه المسؤول، وذلك بعد مقابلات مع آخرين، الذين أخبروني أن قضيتكم يحلّها " المدير الكبير"، وهناك جرى الحوار بين والدتي الحاجة نجاة شعبان وبين المسؤول الكبير.
قالت لم أكن أعرف من هو الاّ بعد مضي سنوات، وقد شاهدته على التلفزيون ومؤخراً بعد محاكمته، واتضح أنه برزان التكريتي.
تقول الوالدة:
قال لي: تقبلين " إبنج" (ابنك) مع العجم (الفرس المجوس)؟
قلت له إننا عرب أقحاح، وهل سمعت أن أحداً في حضرة الإمام علي (رض) من العجم؟ ولدينا فرامين سلطانية كُتبت منذ نحو 500 سنة" ونحن سدنة الروضة الحيدرية -"السرّخدمة"، أي رؤساء الخدم، ونحن نتشرّف بذلك.
قال: نعم نحن نعرف أنكم عرب، ولو كنتم عجم لرميناكم خارج الحدود وتخلّصنا منكم!
قلت له: لا أفهم ذلك كيف يكون إبني عجمياً وهو عربي أصيل من نسل قحطان ومن "حِمْيَر" ولدينا شجرة تثبت ذلك. قال: أتقرئين؟
قلت له : نعم، فأخرج كتاباً "وردي اللون" عليه اسمك وأطلعني عليه، قائلاً: هذا ما كتبه ابنك وهو يؤيد العجم ضد بلاده. فخفت وسكتت!
ثم واصلت حديثها معنا:
قال لي: أتعلمين أن هذا الكتاب موجود على طاولة السيد الرئيس منذ حوالي شهر؟
فسألناها ماذا قالت له؟
فقالت: سكتُ ولم أنبزّ ببنت شفة.
قال: عليك الذهاب إلى بيروت، نحن لا نريد شيئاً منه. نحن نعطيه الأمان إذا أراد أن يعود إلى وظيفته في الجامعة فأهلاً وسهلاً، وإذا رغب في منصب سياسي فنحن نعده بذلك، وإذا لم يرغب في العودة فعليه أن يختار إحدى سفاراتنا لنعيّنه فيها، وإذا لم يفعل ذلك، ليعلم أن مصيركم جميعاً " الإعدام".
قالت: قلت له، نحن لا ذنب لنا، إن ولدي كبير ولا يسمع إلينا أو يأخذ بنصائحنا، وأنا إمرأة كبيرة ولا أستطيع السفر والمجازفة في هذه الأوضاع بالذات، ولديّ أحفاد أنا مسؤولة عنهم، فنظر إليّ بشرز وقال عليك التنفيذ و"إلاّ" وكرّرها ثلاث مرّات و"إلاّ"، قلت له نحن نتبرأ منه، وأنتم حكومة فإذا أخطأ فيمكن معاقبته.
قال: إذا لم يفعل ما طلبناه منه، فيمكن أن يكتب لنا ورقة يقول فيها أنه يتعهّد بعدم النشاط والكتابة ضد الحكومة، و"الاّ " فإن مصيركم كما قلتُ لكِ.. ثم قال إن مصيركم بيده وهو من يستطيع إنقاذكم والحكومة رحيمة معكم.
قالت: بكيّت وتوسّلت، وانفجرتْ بالبكاء بصوت عالٍ، لكنه دعا أحد الذين دخلوا علينا، كما تقول: وقال له إعمل لها جواز سفر إنْ لم يكن لديها جواز سفر، وأجلب صوراً لها، وسألني هل لديك جواز سفر؟ قلت له نعم فقال أين هو؟ قلت له في البيت.
أعادوني إلى مكاني حيث يتكدّس الأطفال وصراخهم وكذلك والدك " الحاج عزيز شعبان" وأختك سميرة وزوجها فاضل الريّس وزوجة حيدر شقيقك. بعد ساعتين أو ثلاثة أخذوني إلى البيت وأحضرت لهم جواز سفري وبعد يومين سافرت ووصلت إلى بيروت. وقد زودّوني بعناوين لا أعرف لمن تعود وإن قرأت الأسماء، وقد وصلت إلى بيروت وبعد توجهي من المطار بالتاكسي إلى العنوان أوقفنا حاجز وبعد تفتيش أوراقي وجواز سفري، قالوا لي تفضلي انزلي، ونزلت وأخذوني إلى مكان فيه رشاشات ومسدسات ومسلحين، وقد سألوني عدّة أسئلة من أعطاك العناوين ولمن تريدين الوصول، كنت خائفة هل أخبرهم أم لا؟ لا أدري ولكنني قلت لهم جئت إلى بيروت للعلاج وأعطوني هذه الأسماء في بغداد لمساعدتي للوصول إلى الطبيب.
وبعد نحو خمسة ساعات جاءت سيارة وأبلغوني بالصعود إلى الأعلى حيث كنت تحت الأرض، وذهبت مع سائق ووصلت إلى مكان آخر فيه مسلحين أيضاً، ولكنني خفتُ أكثر وبكيت بصمت.
سألني الحرّاس والذين استقبلوني فيما بعد لمن تريدين قلت لهم الأسماء التي لديّ، واتضح أنها أسماء تيسير قبعة وبسّام أبو شريف (من الجبهة الشعبية)(هذا ما عرفناه بعد اطلاعنا على الأوراق التي لديها).
عملية تبادل
وبالمناسبة كانت هناك أشبه بعملية تبادل مع الكتائب، فتم تسليم الوالدة إلى الجبهة الشعبية، ويبدو أن الجبهة الشعبية سلّمت مخطوفاً إلى الكتائب. وكانت المخابرات العراقية بعد مصاردة حاجياتي الشخصية، بما فيها صوري، قد وجدوا فيها ما يوصلهم لي في بيروت فأعطوها عناوين قبعة وأبو شريف وآخرين لا أتذكرهم حالياً، وكذلك عنوان مكتب بيروت وتلفون الذي كان مسؤولاً فيه فخري كريم.
إستمعنا إلى هذه القصة وكانت الوالدة تتوقف بين الحين والآخرلتقول" إنهم ينوون قتلك، عليك عدم العودة حتى لو أعدمنا". اتفقنا على تنظيم موعد لزيارة طبيب لها، وأخذت معها بعض الأدوية بترتيب من فخري كريم والطبيب حسّان عاكف حمودي أو غيره لا أتذكر، (في مستشفى فلسطين يعود إلى فتح) وقد عملنا لها حجزاً وهمياً في فندق وفاتورة حساب وهمية (مدفوعة لثلاثة أيام) وقد مكثت معها اليومين التاليين في بيت خاص مع آخرين، ثم اصطحبها أحد الرفاق إلى المطار (لا أتذكّره) لتوديعها، ولم أظهر معها في أي مكان باستثناء زيارة لمكان قريب في العمارة ذاتها أو شقة قريبة لا أتذكّر، بدعوة من عصام الخفاجي.
اتفقنا معها على ما يلي: أن تبلغ الأجهزة أنني غير موجود في بيروت، بل أنها سمعت أنني في إسبانيا، أعيش هناك، وأنها ظلّت خلال الأيام الثلاثة في الفندق، وأنها راجعت طبيباً لمساعدتها وأعطاها أدوية وضعتها في حقيبتها اليدوية، وأنها مستعدّة وكذلك الوالد إن طلبوا منه التبرؤ مني علناً في التلفزيون أو في الجريدة ، وحتى لو قتلتني الحكومة فهي سوف لا تحزن عليّ إذا كان الأمر ضد الوطن.
وتستدرك الوالدة الحاجة نجاة شعبان لاحقاً: أن الذي قابلني بعد عودتي هو نفسه الذي التقاني عند سفري والمقصود هنا " برزان التكريتي" وعندما وصلت إلى الجملة الأخيرة، (أي حتى لو قتلتني الحكومة ...) قال: إي نحنا نقتل وراح تشوفين، ولكنه غيّر الكلام وقال: هل صحيح أننا نقتل، فقلت له أنتم حكومة ولكم الحق في معاقبة المخالفين أو الناس ضد القانون، فضحك وقال نحن نعطيكم فرصة أخرى، لكنكم تذكّروا: أنتم تحت مراقبتنا وأي شيء يصلكم من هذا "الابن الضال" أوصلوه لنا في الحال، وإذا أرسل أحداً يتصل بكم أبلغونا فوراً، وأعطانا أرقام تلفونات، وقلت له حاضرون وكل ما تريده الحكومة ننفّذه، وكنت أرتجف خوفاً.
كنّا قد اتفقنا معها أنها بعد وصولها بعشرة أيام ولغرض الإطمئنان أن تكتب لنا رسالة وترسلها بالبريد دون اسم المرسل وهي موجّهة إلى "ياسين سعيد" وتحت رقم صندوق بريد، وفيها تبلغنا أن الوالد بدأت صحته تتحسن، وفي حالة زيادة الضغط عليهم تكتب أن صحته بدأت تسوء، وانتظرنا عدة أسابيع ولم تصل أية رسالة، وعندما سألت الوالدة بعد 20 عاماً عن الحادث، بعد مدّة الفراق الذي استمرّ بيننا، قالت لي " ولله إنتو بطرانين" – إنتو تدرون شكو؟ أي أنكم بطرانين ولا تعرفون ماذا يجري في العراق؟
خلال السنوات الثلاث الأولى أو بعدها تعرّضت العائلة إلى ضغوط كثيرة واستدعاءات عديدة، وكان مسؤولو المخابرات والأمن وأمن المنطقة والمنظمة الحزبية في زيارات متّصلة للعائلة، لدرجة أن صلاتها انقطعت بالعالم الخارجي تقريباً، وباستثناء زيارات الدكتور ناهض شعبان للاطمئنان على أحوالها، وكانت حجّته معه باعتباره طبيباً، وكان والدي شبه مقعد في المنزل بعد أن ترك العمل وأجبر نفسه على " تقاعد مبكر"، فباع محلّه في سوق التجار (خان النبكه) في بغداد وعاش على بعض أملاكه وأملاك والدتي وما وفّره من مدّخرات، وكانت زيارات الأخوال متباعدة، وكذلك العم الوحيد المتبقي، وهي زيارات شبه خاطفة، وبرضى الطرفين، المُستقبِلْ والمُستَقبَل، والكل كانوا في حالة رعب شديد، ويتفهّمون وضع العائلة الخاص.
في مطلع العام 1985 (ربما في أواخر شباط/فبراير) جاءت عناصر من المخابرات وطلبت من والدتي السفر إلى تركيا للاتصال بي من هناك ودعوتي لزيارتها في اسطنبول، لكن والدتي رفضت ولكنهم أرغموها على الرضوخ، فأخذوا جواز سفرها وثمن التذكرة منها، وجاءوا إلى المنزل بعد يومين ومعهم التذكرة وتأشيرة الدخول والجواز، وتذكّرت والدتي ما أخبرتها به في بيروت بأنهم ربما يكونون معها في الطائرة، وعليها لو حاولوا مجدداً عدم المجيء والتملّص من الأمر بكل الوسائل، وهنا تشجعت وصرخت وقامت بالخروج إلى الشارع، فأوقفها رجال المخابرات ومنعوها، وهي تصرخ بأعلى صوتها، واتصلوا بأحد المسؤولين من تلفون المنزل وأبلغوها بتأجيل السفر، وفي مساء اليوم التالي أصيب والدي بجلطة دماغية، لم تمهله طويلاً، وأظن أنه توفي في مطلع آذار (مارس) 1985.
باختصار هذه هي قصة الكتاب التي دفعت العائلة بسببه ثمناً باهظاً لأكثر من 20 عاماً، وانتهز هذه الفرصة للقول أنني فخور بهذه العائلة: الوالد والوالدة اللذان تحمّلا بسببي آلاماً لا حدود لها، وأجدها مناسبة للاعتذار لهما، لأمر لم يكن لي يدُ فيه، كما لم يكن لي حيلة به، وهكذا هي السياسة في بلداننا وفي مجتمعاتنا العربية، وبالأخص في العراق الذي وصلت فيه العقوبة إلى الدرجة الرابعة، ناهيكم عن القتل على الهوّية، واستبدّ به العنف والإرهاب إلى درجة مروّعة.
كنّا نحلم بأن نستطيع أن نسير بأوطاننا باتجاه الحداثة والعمران والجمال والخير والعدالة والسلام، لكن بعض أحلامنا تحوّلت إلى كوابيس لعوائلنا التي لا ذنب لها )
*******
سلم وفاؤك واعتذارك د. شعبان ، وليطمئن وجدانك ان الوالدة الكريمة هي الآن في جنان الرحمن ، وهي تدرك مسعاك الوطني الخير ..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
437 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع