إبراهيم الزبيدي
ليس سهلا أن يتخلص الإنسان مما ورثه من عقائد ومباديء وأفكار آمن بها صغيرا، وحافظ عليه فتى، وظل أمينا عليها وهو بالغ.
ونصادف في حياتنا أشخاصا تغربوا طويلا، وتعلموا في بلاد غير بلادهم، ودرسوا علوما وثقاقات تخالف علومهم وثقافاتهم، وبرعوا في تعلمها وإتقان الحديث عنها، وحملوا الشهادات العليا فيها، ولكنهم ظلوا، رغم ذلك، لا يعتقدون إلا بما شبوا وشابوا عليه من أفكار ومفاهيم تعتبر التماثيل أوثانا، والموسيقى حراما، والمرأة مخلوقا ناقصا، وكافرا من يخالف الولي الفقيه ولا يلطم في عاشوراء.
مثالنا الدكتور حيدر العبادي. رجل درس العلوم الحديثة وآخر مبتكرات التكنالوجيا، وتغرب طويلا في بريطانيا، وتدرج في معاهدها وجامعاتها، وعاش (علميانتها)، ورأى كيف تتحق العدالة في ظل الدولة غير الدينية، وكيف تُحترم العقائد كلها، والأديان كلها، وكيف يعرف فيها رجل الدين دوره ومكانه في هداية الناس وإقناعهم بدينه أو طائفئته، في كنيسته أو مسجده أو حسينيته، دون أن يتدخل في السياسة، ودون أن يفرض على الدولة، وعلى مواطنيها، قوانينه ومقاييسه ومفاهيمه الخاصة حول الإيمان والكفر، والوطنية والشرف والأمانة والصواب.
في حياته التعليمية الغنية لابد أن يكون العبادي قد اكتشف أن الشمس ثابتة والأرض والنجوم تدور حولها، وعرف الجاذبية، والنسبية، وقرأ أو سمع عن قيمة حرية الرأي والعقيدة في حياة إنسان القرن العشرين والحادي والعشرين، وعلم بأن هناك شموسا وأقمارا ونجوما عديدة أخرى، وشاهد الإنسان يحط بركابه على نجوم السماء التي خلقها الله رجوما للشياطين، وفوجيء، مثلنا، بسفن الفضاء ومحطات المراقبة التلسكوبية الأمريكية والأوربية والروسية والصينية واليابانية الجائلة في أرجاء السماء بحثا عن حياة وعن مخلوقات، وربما حضارات، لم تخطر على بال أحد من أجداده وأجدادنا.
لكن حيدر العبادي، برغم كل ذلك، ظل في حزب الدعوة الديني الطائفي، من أول شبابه إلى كهولته، ليس عضوا عاديا فقط، بل قياديا فيه.
والعبادي لابد أن يكون قد لمس تعصب حزبه لفكره وعقيدته، وأدرك عمق كراهيته لجميع الأفكار والعقائد الأخرى التي يؤمن بها مواطنون آخرون في وطن متعدد الأطياف والملل والشرائح، وظل رغم كل ذلك عضوا ملتزما فيه ينفذ أوامره وقراراته، بإخلاص.
وعاش العبادي إلى أن وجد حزبه يحتكر السلطة، ويضع واحدا جاهلا وأحمق وطائفيا متعصبا وظالما يضع في سجونه ومعتقلاته آلاف المواطنين، بالشبهة، دون تهم ولا محاكمة، ثم يُطلق سراحُهم بعد أن أقرت الحكومة ذاتهُا بأنهم أبرياء، وظل ممسكا بقيادة حزبه، وحاميا له، ومانعا أي قانون وأي عدالة من أن تمس شعرة واحدة من رأس أي واحد من قادة الحزب أو أي أحد آخر في ال؛زاب والمنظمات والمليشيات المستظلة مثله بخيمة الولي الفقيه.
ولابد أن يكون العبادي قد اكتشف معنا أن أوائل وهم مؤسسي حزب الدعوة إيرانيون متعصبون لقوميتهم الفارسية، أو عراقيون من أصول إيرانية فارسية غير عربية وغير عراقية، ومنهم محمد مهدي الآصفي (مرشد الحزب)، وكاظم الشيرازي الحائري (فقيه الحزب)، وعلي التسخيري، وهو فارسي الأصل والجنسية، ومرتضى العسكري، و محمد صالح الأديب، وعلي الكوراني، فلم ينسحب من هذا الحزب المؤسَّس والمحتضَن في إيران، والخادم الوفي لمصالح الدولة الإيرانية، دون غيرها، فلم ينسحب.
وفي أيام الجهاد السري لحزب الدعوة لابد أن يكون العبادي علم، وهو القيادي المتقدم فيه، أن حزبه اختار الإرهاب والاغتيال وتفجير المفخخات وسيلة لتحقيق أهداف ومكاسب حزبية وطائفية بإشراف ورعاية وتدريب وتسليح من أجهزة الأمن والمخابرات الإيرانية، ولم يغادره على الفور.
ولابد أن يكون قد تحقق من قيام قياديين في حزبه بعمليات أغتيال وأختطاف عراقيين وأجانب في العراق ولبنان ودول أخرى، وشاركوا في محاولة أغتيال أمير الكويت السابق، وفي تفجير وزارة التخطيط العراقية منتصف الثمانينيات، وتفجيرات الجامعة المستنصرية في نيسان عام 1980، وظل عضوا فيه.
ولا يمكن ألا يكون العبادي قد سمع قائد حزبه، نوري المالكي، وهو يعترف بدوره ودور حزبه في تفجير السفارة العراقية في بيروت عام 1981 وقتل بلقيس الراوي زوجة نزار قباني، وآخرين أبرياء ليسوا بعثيين ولا يمتون لصدام حسين بصلة، فلم يحتج، ولم يعترض، ولم يخرج على الملأ ويعلن براءته من الإرهاب والإرهابيين.
ورغم كل حملات التلميع لرئاسة حيدر العبادي، وكل محاولات إضفاء صفة الاستقلالية والوطنية العراقية عليه لم يشهد المواطن العراقي النبيه، منذ منتصف آب أغسطس الماضي إجراء واحدا حقيقيا وجذريا يجعله يصدق أن حيدر العبادي مؤهل وقادر وراغب حقا في محاربة الإرهاب واجتثاث الفساد وإعادة الهيبة للقضاء وسلطة القانون واحترام السيادة الوطنية للعراق، ومنع أي دولة أو قوة أو مليشيا من العبث بأمن الدولة العراقية وكرامتها ومصيرها.
وعليه فإن كثيرين من العراقيين لم ولن يصدقوا بأن حيدر العبادي يمكن أن يصبح قائدا لما يسمى بـ (التغيير).
فأول قرار كان ينتظره العراقيون من قائد التغيير، بعد خراب الوطن على يد سلفه المالكي، لم يصدر عن حيدر العبادي لحد الآن.
إن تنصيبه، بموافقة إيران ومباركتها، رئيسا للوزراء وقائدا عاما للقوات المسلحة مجرد تخدير للجماهير، وغسل هاديء ومبرمج لتاريخ حزب الدعوة، وحفاظٌ على هيمنته على الدولة، وترسيخ عملي حاذق لاحتلال إيران العسكري والأمني والثقافي والاقتصادي والسياسي.
ربما يكون الضمير الوطني لحيدر العبادي قد أفاق من غفوته التي امتدت نصف قرن، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا حقيقيا وجذريا، حتى لو أراد ذلك، حقيقة، وليس ظاهريا فقط.
ولهذا سببان، الأول أنه ما زال عضوا عاملا وقياديا في حزب الدعوة، والثاني أنه عاقل جدا ومدرك لخطورة التمرد على قيادة قاسم سليماني وهادي العامري والحرس الثوري والمليشيات التي ابتدعت لها القيادة الإيرانية والمرجعية صفة (الحشد الشعبي) لاإكمال الاحتلال الإيراني للعراق، بوراثة خلافة داعش في محافظات صلاح الدين ونينوى وديالى، بعد أن كان دخول حذاء جندي إيراني واحد إليها أشبه بحلم من أحلام العصافير.
610 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع