د. علي محمد فخرو
توزيع شهادات الثقة والدعم، في المجالين الاقتصادي والسياسي، والتي تصدرها الدول تجاه بعضها بعضاً، أو تصدرها تجمعات المؤسسات المالية الدولية والخاصة تجاه هذه الدولة ونظام الحكم فيها أو تلك، أصبحت ظاهرة موسمية في طول وعرض بلاد العرب.
لكن الشهادة تحتاج الى اثبات مصداقيتها وموضوعيتها وفائدتها من خلال الأسس والمعايير التي اعتمد عليها مانحو الشهادة من جهة ومن خلال الواقع الذي سيحكم استعمال تلك الشهادة. من هنا فان صدور شهادة ثقة ودعم لانطلاقة استثمارية اقليمية ودولية كبيرة وشديدة التنوع تستدعي الاجابة على سؤالين : أولهما يتعلق بأسس وطبيعة النظام الاقتصادي الذي سيتعامل مع تلك الاستثمارات، وثانيهما يتعلق باسس النظام السياسي الذي سيضبط ويراقب ويقيٍم نتيجة تلك الاستثمارات.
بالنسبة للجانب الاقتصادي لن يكفي القول بأن الاستثمارات ستتعامل مع نظام رأسمالي وكفى. فهناك أنظمة رأسمالية شتى وليس نظاما واحدا.
فاذا كانت الاستثمارات ستتعامل مع نظام رأسمالي ملتزم التزاما تاما شبه ديني بترك أمور الاقتصاد ومسيرته ونتائجه لقوانين السوق الحر الذي لايخضع الا لمبدأ العرض والطلب من جهة والتنافس المنفلت من كل عقال من جهة ثانية، فان حصيلة تلك الاستثمارات ستنتهي في مجملها بزيادة غنى الأغنياء وبزيادة فقر الفقراء.
ذلك أن مثل ذلك النظام الرأسمالي العولمي المتوحش الفاقد الضمير قد أثبت خلال الثلاثين سنة الماضية من ممارسته،دون ضبطه من قبل سلطات الدولة التي اضعفت وهمشت، ودون التزامه تجاه المحافظة على دولة الرفاهية الاجتماعية التي كانت حلا وسطا بين الرأسمالية والاشتراكية عند نهاية الحرب العالمية الثانية، اثبت أنه كان طريقا لسلب القليل الذي في يد الطبقات الفقيرة والمتوسطة ليضاف الى الكثير الذي في يد مجموعات صغيرة من البشر المحظوظين أو الفاسدين الناهبين. بل، وبالرُغم من ادعاءات معتنقيه ومدارسه، فانه نظام يبطئ عجلة الاقتصاد ويزيد القلق في أسواقه ويقود من أزمة الى أزمة أكبر وأفدح.
وهذا يقودنا الى سؤال آخر مشروع : من هم الاقتصاديون المنوط بهم مسؤولية الاشراف على مسيرة ووجهة تلك الاستثمارات الهائلة؟ فاذا كانوا من الذين يـــــؤمنون بـــوهم «علمية» الاقتصاد واقترابه من صرامة العلوم الطبيعية، واذا كانوا من الذين يحملون الأكذوبة القائلة بأن الأغنياء يجب أن يشجعوا ليزدادوا غنى حتى يستثمروا أكثر في عجلة الاقتصاد ومن ثم تتسرب أوتوماتيكيا أجزاء من ثرواتهم الهائلة الى أيادي الفقراء، واذا كانوا من الذين لايؤمنون بضرورة دولة الرعاية الاجتماعية والمؤسسات الخاصة ذات الضمير والقيم وذلك من أجل توزيع أفضل للثروة ومن أجل حماية الفقراء والمهمشين، واذا كانوا من الذين يقللون من أهمية الاقتصاد الصناعي واليدوي الانتاجي في توليد الثروة ويعلون الى حد الهلوسة والقداسة لاقتصاد انتاج ونشر المعرفة والانغماس المريض في موضة تنويع وتبديل وتغيير وسائل التواصل الالكتروني الى حدود الهذيان، واذا كانوا من الذين لايرون في اسعاد الانسان الا الاستجابة المتعاظمة لرغباته الاستهلاكية النهمة المليئة بالعلل والتي تخلقها ماكنة اعلانية واعلامية هائلة، واذا كانوا من الذين لايرون في الفكر الاشتراكي الا نجاسة ورجسا من الشيطان لايمكن الاستفادة من أي جزء منه.. اذا كان الاقتصاديون الذين سيشرفون علي سيرورة تلك الاستثمارات من هذا النوع فان بلايينها ستذهب هباء، بل وستزداد ديون الدولة التي سيتحمل في النهاية وزر دفعها الفقراء ومتوسطو الحال.
واذا كانت الدول المستقبلة لتلك الاستثمارات تعتقد بأن بناء مدن جديدة بالغة الحداثة والجدة في مظاهرها وحركتها اليومية، ومليئة بالأبراج وناطحات السحاب ومجمعات التسوق والتسلية، بأن بناء كذا مدن سيقلل من حمل أوزار المياه الملوثة وانتشار الأمراض والأوبئة ورداءة التعليم وتخلُف حياة الأرياف وموت الأطفال ولعنات الفقر وقلة الفرص وتزايد البطالة وانتشار ثقافات التسطيح والبهرجة واللغو، فانهم باعتقادهم هذا يرتكبون أخطاءَ فاحشة ستظهرها فترة مابعد الاستثمار.
سيكتشفون أن مدن اليسر المتوهُم هي بدورها مدن الأوهام، اذ أن وجودها وهي محاطة بمدن الأكواخ المتهالكة والشوارع المكتظة بأطفال الفقر والجهل وبالعمال والبائعين المنهكين الذين لايزيد دخلهم اليومي عن دولار أو دولارين سيقلبها الى مدن الوهم الشهيرة (virtual Cities) التي لا ارتباط بينها وبين الواقع المرير.
أما بالنسبة للجانب السياسي فانه منذ تفجُر ثورات وحراكات الربيع العربي قد أصبح حديث الناس. فالنظام السياسي غير الديموقراطي، غير الخاضع لمراقبة ومساءلة المجتمع، غير القادر على بناء مجتمع مستقر مسالم دون استعمال كثيف ظالم لقبضة أمنية غير منضبطة بمعايير القانون والعدالة وحقوق العباد الانسانية، غير القادر على ضبط وتنظيم النظام الاقتصادي ليكون نظام توزيع عادل للثروة وسدُ لحاجات المواطنين المعيشية الأساسية في المأكل والملبس والمسكن والعمل والخدمات الصحية والتعليمية اللائقة، فالنظام الذي لا يلتزم بتلك المسؤوليات ولايمارس اعطاء الأولويات المكانة الأعلى.. هذا النظام لايمكن أن يؤتمن على جعل بلايين الاستثمارات مناسبة لبناء اقتصاد عادل انساني تنموي بدلا من السماح لأن تكون تلك البلايين فرصة جديدة للسرقة والنهب وبناء اقتصاد عليل فاجر.
قد توزع تلك الشهادات ولكنها ستكون شهادات مزورة.
591 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع