د. علي محمد فخرو
لقد كتب الكثير عن ضرورة عدم ضياع الفرصة التاريخية التي تعيشها الآن مجتمعات الخليج العربية، فرصة تواجد ثروة بترولية وغازية هائلة تسمح، فيما لو عرفت وتمت الاستفادة من هذه الفرصة، بقلب تلك الثروة من ثروة مالية تصرف وتبعثر الى ثروة تنموية شاملة مستدامة، مادية ومعنوية، تمتد الى آفاق المستقبل البعيد.
لكن القسم الأعظم من تلك الكتابات ركزت على الجانب الاقتصادي من تلك التنمية، وذلك من اجل انتقال تلك المجتمعات من اقتصاد ريعي استهلاكي الى اقتصاد انتاجي ومعرفي. وبالطبع فان ذلك التحول الاقتصادي مهم وضروري لأنه يقرب تلك المجتمعات من الحداثة الاقتصادية القائمة على تطوير وسائل الانتاج من خلال الاكتشافات العلمية والتكنولوجية، وعلى استقلالية المؤسسات الاقتصادية وادارتها بكفاءة وفاعلية من خلال قوانين تضبط حركة السوق ومن خلال تقسيم العمل وتنظيم وتدريب القوى العاملة.
غير ان الحداثة الاقتصادية تلك ستتعثر، بل وستفشل، ان لم يصاحبها ولوج الحداثة الاجتماعية والثقافية والحداثة السياسية. فأنواع ومستويات الحداثة مترابطة ومكملة لبعضها البعض ولا تسمح بالانتقالية التلفيقية التي تجعلها متعارضة مع بعضها البعض.
فمن اجل ان تتوفر في الاصلاح الاقتصادي الشروط المطلوبة لتحديثه لا بد من ولوج الحداثة السياسية ايضاً والتي تتمثل في بناء الدولة الديموقراطية. فوجود المؤسسات القانونية التي تفرض احترام القانون والالتزام به، وفصل واستقلالية سلطات الحكم الثلاث، التشريعية والحكومية والقضائية، ومراقبتها لبعضها البعض، ووجود الاعلام الحر المراقب، وترسيخ مبادئ المواطنة المتساوية، ستكون ضمانات ضد الفساد والمحسوبية والاستغلال في الحياة الاقتصادية، وضمانات لوجود الشفافية والمحاسبة وعدالة التوزيع من جهة والنقابات العمالية المستقلة النشطة من جهة اخرى.
والحداثتان الاقتصادية والسياسية تحتاجان بدورهما الى حداثة اجتماعية تغير اسس العلاقات في المجتمع. فالمجتمعات تحتاج ان تنتقل من البدائية التقليدية، حيث تهيمن العلاقات القبلية والعشائرية والأصول العائلية او المذهبية او العرقية، الى المجتمعات التي تكون فيها المعايير الحاكمة معايير الجهد والانتاجية والكفاءة والابداع والخدمة العامة والتميز في القيام بواجبات ومسؤوليات المواطنة.
انه مجتمع يوازن بين الفرد والمجتمع بحيث لا يطغى احدهما على الآخر، وهو منفتح على التغيير والتجديد بعقلانية وبلا عقد ماضوية.
هنا نصل الى النقطة الأساسية وهي ان تلك الحداثات الثلاث، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لا يمكن ان تشترى بالمال ولا يمكن ان تحدثها طموحات هذا القائد او ذاك. ان الطريق اليها هو السير في دروب الحداثة الثقافية والفكرية التي تؤدي الى تهيئة الانسان والمؤسسات وكل قوى المجتمع المدني للانخراط في تلك الحداثات الثلاث بسلاسة وبدون هزات كبيرة تشوهها او ترجعها الى المربع الأول.
ان الحداثة الثقافية والفكرية تهدف الى تغيير الانسان، من خلال اقناعه وتعليمه، ليصبح مقتنعاً وقادراً على ممارسة ثوابت ثقافية وفكرية جديدة في حياته.
في قمة هذه الثوابت استعمال العقل والمناهج العقلانية والأساليب العلمية عند تعامله مع التراث والتاريخ وما يقرأ او يسمع او يشاهد او يمارس في حياته اليومية، وبالتالي لا يسقط تحت سحر الخرافات والدعايات والآمال الكاذبة. انها عقلانية قادرة على تحليل الأمور بابداع ونقدها وتجاوزها ان لزم الأمر.
في قلب هذه الثوابت احترام الانسان لاستقلالية ذاته من خلال تكوين قناعاته بحرية ومسؤولية، وبالتالي عدم خضوعه او ذوبانه في الذات الجمعية لهذه الجماعة او تلك. لكنها في نفس الوقت ذاتية غير انانية ومتناغمة ومتكاملة مع الذات الجمعية من خلال الالتزام الأخلاقي والنضالي بقضايا الأمة والوطن والانسان.
هناك ثوابت كثيرة لا يسمح المجال للدخول في تفاصيلها. لكنها جميعها يجب الا تكون تقليداً لأي حداثة اخرى، اذ اننا نتحدث عن ولوج حداثة عربية تنبثق من حاجات المجتمعات العربية وتحاول حل اشكاليات عربية في هذا الزمان العربي وفي هذا المكان العربي.
ولأن تغيير الأفكار والعادات والسلوكيات الخاطئة والقناعات المعيقة للتقدم عملية كبيرة ومعقدة فان المسؤولية لا تقع على كاهل المفكرين والمثقفين فقط. انها تحتاج الى انخراط مؤسسات مفصلية في عملية التجديد والتحديث، وعلى رأسها المدرسة والجامعة ومراكز البحوث ومختلف وسائل الاعلام والكثير الكثير من مؤسسات الثقافة بما فيها المسرح والسينما والغناء والرسم.
ولا تستطيع تلك المؤسسات القيام بمهمة الحداثة الفكرية والثقافية دون ان تكون قد استوفت متطلبات الحداثة في ذاتها، اهدافاً وتنظيماً ووسائل.
هناك الكثير من مظاهر الحداثة المادية المبهرة في مجتمعات مجلس التعاون الخليجي، لكن هناك ايضاً الكثير من مظاهر الغياب شبه الكامل للحداثة العقلية التي بدونها ستتعثر كل الحداثات. ولوج تلك الحداثة ينتظر توفر الارادة السياسية الرسمية والمجتمعية التي آن ان توجد قبل فوات فرصة زمن الثروة البترولية والغازية الهائلة.
833 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع