بدري نوئيل يوسف ـ السويد
قصة قصيرة أحداثها من نسج الخيال، وأي تشابه ما يحدث في الواقع ليس إلا من باب الصدفة .
يحكى أنه في احد المعامل كان هناك مهندسة ميكانيكية شابة جميلة محبوبة من جميع العاملين ، تصل إلى المعمل مبكرا لتبدأ العمل بهمة ونشاط وعدم إضاعة الوقت دون تلكؤ أو ضجر ، كانت سعيدة جدا لأنها تقوم بواجباتها على أكمل وجه من تلقاء نفسها ودون ضغوط من أحد ، تراقب عمل آلات وتشرف على عدد كبير من العمال ، بحضورها ازداد الانتاج ، يدفعها إلى ذلك حبها للعمل ، ثم العاملين كونهم فريق عمل متناسق متعاون معها وتعتبر المعمل جزء من كيانها وتشعر فيه بالراحة والسعادة .
كان مدير المعمل المكلف من الشركاء (اصحاب المعمل ) مبهورا مندهشا وهو يراها تعمل بكل هذا النشاط والحيوية دون إشراف أو مراقبة ، بعد تفكير طويل ويسأل نفسه إذا كانت هذه المهندسة تستطيع أن تعمل بكل هذه الحيوية ، وأن تنتج بكل هذا الزخم دون إشراف أو مراقبة ، فمن المؤكد أن إنتاجها سيتضاعف كثيرا فيما لو كان هناك من يراقبها .
بدأ مدير المعمل يبحث عن موظفا يقوم بهذه المهمة ، وعلمت زوجته بما يدور في افكاره وباله ، ولها اخ تخرج حديثا من الاعدادية وبعد ضغوط من الزوجته وإلحاح وبين القال والقيل والخوف من زلة لسانها ان تكشف المستور للشركاء ، وافق على تعين اخيها بدرجة مستشار ذي الخبرة القليلة (كالأطرش في الزَّفَّة)، وطلب منه كتابة التقارير اليومية ، وافق المستشار الحديث على القيام بهذه المهمة وكان له ما أراد مدير المعمل وقدم له راتبا مجزيا بالإضافة لمكتب في المعمل وسيارة حديثة تبقى تحت تصرفه .
تسلم المستشار مهام عمله وكان أول قرار اتخذه هو وضع نظام صارم للحضور والانصراف ، ولتطبيق هذا النظام يحتاج إلى سكرتيرة جميلة دلوعة تساعده في كتابة التقارير وضبط المواعيد وتقوم بتنظيم الأرشيف ومراقبة المكالمات الهاتفية وأعمال أخرى هي من طبيعة عمل السكرتارية ، وقع اختياره على بنت الجيران واخذ موافقة مدير المعمل وتعينت السكرتيرة(أكل ومرعى وقلة صنعه) فهي ايضا تحتاج لمكتب وأثاث.
كانت سعادة مدير المعمل غامرة بالتقارير التي أخذ يرفعها له المستشار عن سير العمل وينطبق على المدير المثل القائل(إذا كنت تدري فتلك مصيبة وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم) ،بعد عدة أسابيع طلب مدير المعمل من مستشاره أن يُعِدَّ له تحليل لأوضاع السوق ورسوما توضيحية تبين معدلات الإنتاج ، موثقة بالأرقام والرسوم البيانية والإحصائية لاستخدامها في اجتماعات مجلس الإدارة خلال العروض التي عادة ما يقدمها لأعضاء المجلس ، الأمر الذي اضطر المستشار إلى شراء جهاز كومبيوتر جديد وبرامج خاصة لهذه المهمة وطابعة حديثة ملونة واستحداث قسم خاص للمعلومات والبرامج وتعيين موظفة لإدارة هذا القسم ووقع اختياره على اخت زوجته (تساوت الگرعه وأم زلف ) التي ليس لها خبرة في مجال البرمجيات وأصبحت رئيسة لقسم البرمجيات وعليه تحتاج الى مكتب مؤثث وأجهزة كومبيوتر حديثة.
لم تستسغ المهندسة لهذه الأعمال الورقية الزائدة عن الحد ، وكرهت الاجتماعات التي كان يعقدها المستشار لها يوميا ، وتستهلك أغلب الوقت وتعطلها عن العمل ، أما مدير المعمل فقد كان سعيدا بما يجري ، لذلك رأى أنه قد حان الوقت لتعيين مدير للإدارة بعد أن تشعب العمل في الاقسام الحديثة وأصبح بحاجة إلى من يضبط إيقاعه تدخلت الزوجة وفرضت رأيها فوقع اختياره على زوج صديقتها وتعين مديرا للإدارة مدعيا انه يحمل شهادات عليا من أعرق الجامعات الغربية في الإدارة الحديثة ، وما أن تسلم مدير الادارة مهام عمله حتى أمر بشراء اثاث تليق بالمكتب الفخم الذي سيدير العمل منه ، ويكون المكتب ذو مواصفات خاصة تناسب ساعات العمل الطويلة التي سيقضيها في المكتب ، وكان طبيعيا أن يحتاج أيضا إلى جهاز كومبيوتر ، وإلى سكرتيره اختارها بعناية كي يعينَها على القيام بأعباء الإدارة الجديدة ، فوقع اختياره على بنت الخال مدعيا انها خريجة جامعة وأوكل إليها مهمات عديدة . وهكذا بدأ مدير الادارة ومن معه حاميها حراميها بتعين فضائيين من عمال ومستخدمين في المعمل وتنظيم دورات فنية وإفادات للخارج ومصاريف (حچاية مالها نهاية ) ومدير المعمل نائم ورجله في الشمس ومشغول بحاله (حكلي واحكلك) و (شيلني واشيّلك) .
مرت فترة زمنية وجاء موعد اعداد الميزانية للمعمل وعليه طلب مدير المعمل من مدير ادارته الجديد ،وضع ميزانية للخطة الإستراتيجية المتكاملة السنوية . وبعد ايام قدمت الميزانية التي أصبحت ارقام خيالية من العمال والمصروفات (مال عمك ما يهمك)، كما لاحظ مدير المعمل أنّ إنتاج المعمل قد انخفض كثيرا ، وأن التكاليف قد زادت بنسبة لا تتوافق مع كمية الإنتاج التي تراجعت بشكل ملفت وهكذا تحول مقر العمل الذي كانت المهندسة ومن معها من العمال يشعرون بالسعادة والألفة فيه إلى مكان كئيب، واختفت البسمة من على وجوه العاملين .
احتار مدير المعمل كيف يقدم ميزانية المعمل الى الشركاء، فقرر أن يجري دراسة على بيئة العمل ليعرف موضع الخلل ، ولأن دراسة من هذا النوع تحتاج إلى مختص ذي خبرة طويلة فقد قرر أن يسند هذه المهمة إلى مفتش ذات مكانة مرموقة وشهرة واسعة في هذا المجال ، وطلب من مدير ادارته ان يختار مفتش وتم اخيار صديقه وأصدر قرارا بتعينه مفتش عام للمعمل براتب خيالي وعمولة مغرية والذي لا خبرة له في هذا المجال ، وكلفه بعملية التدقيق هذه ، وطلب منه اقتراح الحلول المناسبة لمعالجة انخفاض الانتاج . (الچذب المسفّط احسن من الصدك المخربط) . صور المفتش العام مهمته لم يكن عمله سهلا، كما هي عادة الخبراء والمستشارين الذين يقضون الكثير من الوقت في البحث والدراسة والتحليل ويضخمون الأمور قبل أن يخرجوا بالحلول التي عادة ما يصورونها لنا صعبة ومعقدة ولا نتوقع أنها حلول سحرية لحل قضية المعمل .
قضى المفتش العام فترة قاربت ستة اشهر ينقّب في دفاتر المعمل ، ويفحص خطوط الإنتاج والمداخل والمخارج قبل أن يخرج بتقرير ضخم يحتاج مدير المعمل إلى ساعات طويلة لقراءته وفهمه ، لكنه توصل في النهاية إلى أن هناك تضخما وظيفيا في الدائرة ، وأن العلاج الوحيد لهذا التضخم هو التخلص من بعض الموظفين الذين يشكلون عبئا على المعمل.
لم يكن أمام مدير المعمل بعد هذه الدراسة ذات الكلفة العالية التي تكبدها المعمل سوى الخضوع للحل الذي اقترحه المفتش العام في تقريره ، ولكن من تراه أول من يقع الفأس بالرأس ويفصله من المعمل .
لقد كانت المهندسة التي قال التقرير إن الحافز للعمل قد انعدم لديها ، وأنها وقفت موقفا سلبيا من التغيرات الحديثة التي حدثت في المعمل ، ولم يتذكر مدير المعمل كيف كان المعمل أكثر إنتاجا وأفضل بيئة قبل أن يطرأ عليه كل هذه الأحداث وحولته إلى بيئة فاسدة لا تشجع على العمل والإنتاج .
فصلت المهندسة من عملها ولملمت حاجتها من المعمل وودعت من قبل العاملين المخلصين وعادت الى المنزل والدموع في مقلتيها تشكي حالها لوالدها الشيخ الوقور جلست بجانبه وقال لها :
يا ابنتي اسمعي هذه القصة .
يحكى في قديم الزمان كان هناك رجلا من تجار الحبوب في بغداد كان ذا ولع عظيم بتربية الخيل واقتنائها ، فكان يبذل الغالي والنفيس في شراء ما يعجبه من الخيول ، وكان الرجل يتاجر بالحنطة والشعير ، فيأخذ منها ما يقدر عليه في كل سنة إلى بعض المدن ، فيبيعه فيربح منه الشيء الكثير ، ويعود إلى بغداد في كل مرة سالما غانما ،
وفي إحدى السنين ، أخذ الرجل مقدارا عظيما من الحنطة والشعير على عادته ، وسافر بها إلى مدينة الموصل ، فوجد سوق الحبوب فيها كاسدة في تلك السنة ، فباع الحنطة بثمن بخس ، وأخذ المال وذهب إلى أحد الخانات ليقضي فيه ليلته ، فرأى في الخان رجلا من تجار الخيول ، معه حصان أصيل ، عظيم الشأن ، معروف النسب ، يريد بيعه ، فساومه على الثمن حتى اتفق معه على أن يشتري منه الحصان بمبلغ يعادل ثمن الحنطة التي باعها في صباح ذلك اليوم ، وذلك من شدة اعجابه بذلك الحصان وتعلّقه به .
وبقي الرجل ينتظر بيع الشعير ليعود إلى مدينته ، ولكن سوق الشعير أصابه من الكساد ما أصاب سوق الحنطة ، فانخفض سعره إلى النصف ، أو الثلث عمّا كان يتوقّع أن يبيعه ، فبقي الرجل ينتظر تحسن حالة السوق ، وهو خالي الوفاض من المال . فأضطر أن يقدّم لحصانه بعض الشعير كل يوم ليتقوّت به ، واستمر الحال هكذا أياما طويلة ، حتى قضم الحصان كل ما كان مع الرجل من الشعير ، وكان للرجل مسبحة كهرمان غالية الثمن ، فباعها وقرّر الرجوع إلى بغداد خائبا ، مفلسا ، حيرانا ، أسفا .
هكذا يا ابنتي حال اصحاب المعمل (الشركاء) ينطبق المثل عليه (الما يعرف تدابيره حنطته تأكل شعيره ) . خسروا المعمل والإنتاج والمهندسة معتمدين على مدير المعمل الذي كان حاميها حراميها .
1114 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع