زينب حفني
أسأل نفسي بين حين وآخر عن سبب ظلم مجتمعاتنا العربيّة لرموزها الفكريّة والأدبيّة السامقة رغم نيّاتها الصادقة في بناء أوطان متحضّرة؟
لماذا على المبدعين الحقيقيين دفع أثمان باهظة يوميّاً، بالتجاهل والإقصاء وتوقيع عقوبة السجن عليهم من قِبل حكوماتهم إنْ لزم الأمر، في الوقت الذي تُفسح مساحاتها الشاسعة لأنصاف المثقفين والوصوليين وأصحاب الأقلام الهشة، ليتصدروا المشهد الثقافي العربي؟ لماذا هذه الصورة مهزوزة المعالم لا نراها في المجتمعات الغربيّة؟ هل هذا يرجع إلى إيمان مجتمعاتنا بثقافة غض النظر عن الآفات الاجتماعيّة، والمشي في درب الانتهازيّة بقناعة، كي تتمكّن من الصيد بحريّة والتهام الغنائم وحدها؟ هل كل ما يجري على أرض الواقع من انتهاكات صارخة في حق المبدع الحر، ما هو إلا رد فعل طبيعي لكل من يتجرأ ويسن قلمه لتشريح سلبيات مجتمعه أو يقوم بفضح مساوئه أمام الغرباء؟ هل وصل بنا الضعف وقلّة الحيلة في مواجهة سقطاتنا الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، إلى تقليم الأظافر الطويلة كي تنام مجتمعاتنا مخدّرة قريرة العين دون أن يطرق بابها مبدع جريء تسوّل له نفسه الوقوف في وجهها بقلمه الشجاع؟
أحياناً احتار في فهم ما يجري! وقد تحرّكت هذه التساؤلات في نفسي عندما قرأتُ كتاب السيرة الذاتيّة (نصيبي من باريس) للروائي أحمد المديني، حيث يقول في حديثه عن المفكر والروائي السعودي (عبد الرحمن بن منيف)، إن هذا الرجل كان سيتحوّل بالتدريج إلى أكبر قامة عربيّة بعد الأديب المصري نجيب محفوظ، وإن الموت لو لم يقتصه غدراً في عملية جراحيّة ببيروت لكان العربي الثاني الذي سيفوز بجائزة نوبل.
كلام جميل يُصيبني كسعوديّة بالفخر الملطّخ بالحرج والخجل! فمن المعروف أن المفكر والروائي بن منيف عاش جلَّ عمره في الأردن، بعد نشره ملحمته الرائعة متعددة الأجزاء "مدن الملح". وعلى الرغم من أن الحكومة السعودية تنبّهت متأخرة لعبقريته الأدبيّة، وعرضت عليه العلاج على نفقة الدولة، إلا أنه رفض الأمر برمّته ومات بإباء! ولذا ينطبق على هذا المفكر العظيم الذي عاش قلمه مهاجراً، وأوجعه ما تعرّض له من ظلم، بيت الشعر القائل (بلادي وإن جارت عليَّ عزيزة، وأهلي وإن ضنّوا عليَّ كرام).
كلما قلّبتُ في كتب التاريخ الإنساني، وجدتُ أسماء لفلاسفة وشعراء دفعوا حياتهم ثمناً لأفكارهم التقدميّة، وكانت لهم أدوار ناصعة في قيادة مجتمعاتهم ودفعها نحو بوّابة التحضّر، وتمَّ إعدامهم بميادين عامة، وقدْ كانَ سقراطُ مِنْ أوائلِ الضحايَا الذينَ آثرُوا أَنْ يموتُوا شُجعاناً على أَنْ يتراجعُوا عَنْ مواقفِهمْ وآرائِهمْ التيْ تبناهَا شبابُ زمنِهِ، لتنفرطَ سبحةُ ضحايَا حريّةِ الرأيِ في أزمنةٍ وأماكنَ أخرَىْ!
المجتمعات الغربيّة لم تقف في مكانها تولول متحسرة على ما اقترفته يداها، بل دفنت أخطاءها ورمت بزمرة سقطاتها في قاع اليم كي تمحوها من ذاكرتها إلى الأبد، وأعادت الاعتبار لمفكريها بعد رحيلهم بإعادة نشر نتاجهم الفكري لكي تطلع عليه الأجيال الصاعدة واعتماده ضمن المناهج الدراسيّة.
في بلداننا العربية يحدث العكس، حيث نُصر على دفن الأفكار التنويريّة وطمس أسماء المفكرين والمبدعين الذي حرّكوا الزوابع ونادوا بالتجديد! فأتحسّر على ما يجري لمثقفينا في أوطاننا العربيّة وتعامل حكوماتهم مع أفكارهم التنويريّة بحذر، والنظر إلى نتاجهم الأدبي بشك وريبة، كأنهم يدعون إلى الزندقة ويحثون الناس على التمرّد ونشر الفوضى داخل أروقة مجتمعاتهم! في الوقت الذي تسمح فيه للدعاوى المتطرفة والفتاوى المتشددة أن تتوغّل بين شبابنا دون أي محاذير أو ضوابط! ظاهرة تحتاج إلى وقفة حازمة قبل أن ينفلت العيار!
1041 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع