التمييز بين لعبة السياسة والقيم الإنسانية

                                             

                         د.علي محمد فخرو

ما يجب أن يدركه قادة الحكم في بلاد العرب، وأن يدركه على الأخص من يقدمون النصح والمشورة لأولئك القادة، أن الشعوب تستطيع ممارسة الصبر والانتظار بالنسبة لبعض المظالم والمطالب السياسية.

فهي تستطيع أن تتحمل، مع كثير من التململ، التًّباطؤ في الانتقال الى نظام ديموقراطي عادل وحقيقي غير مزيًّف، اذ تدرك أن الوصول الى كذا ديموقراطية يحتاج الى نضال قاس مرير، وأن الطريق الى تلك الديموقراطية طويل ومتعرًّج لكل المجتمعات البشرية.
وهي، أي الشعوب، تستطيع أن تتحمًّل الفروق الجائرة في الثروة والجاه والسلطة بين أقليًّة تهيمن وأكثرية تعاني وتكافح، اذ تدرك الشعوب وتأمل بأن الزمن، طال أوقصُر، بعد مائة سنة أو ألف عام، سينهي أية فروق غير عادلة، فوعي الانسان وقدراته في نمو دائم ونضج متراكم، وستفرض القيم الانسانية ارادتها على القيم الأنانية الظالمة التي حكمت ولا تزال تحكم طول العالم وعرضه.
الشعوب تستطيع الصبر والانتظار على تأجيل أحلامها الكبرى لأنها تعلم بأن ممارسات الاستبداد والظلم وآلام وفواجع القوانين الجائرة والفساد والنهًّب موزًّعة فيما بين الخلق كلهم، وأن مواجهتها هي من مسؤولية الجميع لأنها تمس الجميع.
لكن تلك المظالم التي تطال الجميع تختلف جذرياً عن التمييز الموجًّه الى فرد أو مجموعة أفراد. نحن هنا أمام ظلم يفعل فعله الموجع والمدمًّر في الواقع الحاضر، وفي الحال. فالانسان الذي يحرم من خدمات صحية أو تعليمية من حقًّه كمواطن، والانسان الذي يحرم من الحصول على مكافأة يستحقها، والانسان الذي يميًز ضده في الحصول على وظيفة أو سكن ويقدُّم غيره عليه، هذا الانسان لا يواجه مشكلة تستطيع الانتظار أو التأجيل لحين حلُّها. انه يواجه فرصة قد ضاعت وحقاً قد سلب وحاضراً دمًّر.
فلنتصوًّر شاباً، من عائلة محدودة الدًّخل، عاش طيلة سني طفولته ودراسته في المدرسة وهو يحلم بأن يحصل على بعثة دراسية ليصبح مهندساً أو طبيباً أو عالماً أو محامياً. لقد اجتهد، وأبدع في دراسته، وحلم مع أفراد أسرته بالخروج من ضنك العيش ومغالبة متاعب الحياة. حتى أذا جاء يوم الحصاد والمكافأة واجه واقع التمييز ضد حقه في المكافأة بسبب كونه فرداً من هذه القبيلة أو الطائفة أو الدًّين أو الأصول العرقية، أو كونه فرداً من هذه المدينة أو تلك القرية.
لا حاجة للقول بأننا في تلك اللحظة أمام مأساة فردية تدمر الحاضر وتشوه المستقبل وتغلق أبواب الأمل وتقتل الأحلام التي ترعرعت عبر السنين، أحلام ذلك الانسان وأحلام محبيه ممن ارتبطت حياتهم بحياته.
لا يمكن الحديث هنا عن الزمن الذي سيحلُ هذه المشكلة. ان الزمن سيحلُّ مشاكل آخرين سيأتون بعده، لكنُّه لن يحلًّ مشكلة هذا الفرد ايًّاه في هذه اللحظة أياها.
هذا الوضع الظالم التمييزي العبثي ينطبق أيضاً على الشابة التي حلمت بالحصول على وظيفة معقولة محترمة بعد تخرًّجها من الجامعة لتكتشف أن التمييز قد اعطى وظيفتها التي تستحقها لغيرها بسبب الانتماء لجماعة أو دين أو مذهب أو جهة.
وهو نفس الوضع بالنسبة لشاب يريد الزواج والعائلة التي حلم طيلة حياته ببنائها، ولكنه لا يستطيع بسبب عدم حصوله على مسكن أعطي لغيره دون وجه حق وبسبب مفاضلة تمييزية جائرة.
في جميع تلك الحالات نحن أمام ممارسات ظالمة شريرة تئد الأحلام وتدمر الحاضر وتسد آفاق المستقبل.
هل من حقنا أن نلوم عند ذاك هذا الشاب أو تلك الشابة أنهما توجها الى أقصى درجات الغضب، واليأس من العدالة والشكًّ في كل القيم، والالتحاق بجماعات التطرُف والعنف العبثي؟
التمييز اذن لا يمكن الحديث عنه في صيغة المستقبل وفي الوعود بالحلول الآتية من الشفق البعيد.
التمييز ليس موضوعاً سياسياً يقبل التفاوض والأخذ والعطاء والحلول الوسط. ولا يمكن الحديث عن الصبر على نصف أوربع تمييز بانتظار ما سيأتي به الغد. وهو ليس نصف موت، انه موت وجودي كامل.
اذ عندما يدمر الحاضر وتسدُ أبواب المستقبل وينحر الطُّموح وتذوى الأحلام فان الحديث عن أي نوع من الوجود هو وهم وعبث بائس.
ستحسن سلطات الحكم ومستشاروها صنعاً اذا أدركوا حساسية وعمق الفرق الفلسفي والقيمي بين ممارسة السياسة وممارسة التمييز، فالأخير هو موضوع انساني وجودي يعطي البعض على حساب وحقوق البعض، يدمر حاضر البعض من أجل فتح أبواب المستقبل للبعض الآخر.هذه ليست لعبة سياسية وليس لها مكان في قاموس السياسة. انها لعبة شيطانية تهزأ بالقيم والأخلاق وعدالة السماء وضرورة تحكيم الضمير.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1343 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع