د. منار الشوربجي
لفت انتباهي الأسبوع الماضي تقرير نشرته «لوس أنجليس تايمز» عشية الذكرى السبعين لإلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما، قال إن «أدلة جديدة ظهرت» تؤكد أن الجيش الياباني «كان لديه برنامج سري لبناء قنبلة نووية».
ورغم أن التقرير نفسه يؤكد أن اليابان لم تمض في خططها تلك لأنها لم تمتلك اليورانيوم، وأن تلك الأدلة «الجديدة» تؤكد ما هو معروف بالفعل في الأرشيف الأميركي عن الموضوع نفسه منذ فترة، بما يعنى أن لا جديد أصلاً في الخبر، فإن الجريدة اختارت أن تنشر تقريرها هذا عشية الكارثة النووية التي حلت بهيروشيما ثم ناغازاكي! وهذا تحديداً اللافت للانتباه. فبدلاً من الحديث عما جرى بالفعل، أي القصف بالقنبلة الذرية لأول مرة في التاريخ، وما خلفه من كوارث، صار الموضوع ما كانت اليابان «تنوي» عمله!
ولا أظن أن اختيار «لوس أنجليس تايمز» لمثل ذلك الموضوع في تلك الذكرى المأساوية سيلفت انتباه الكثير من الأميركيين، مثلما لفت انتباهي. فالحرب العالمية الثانية سميت داخل الولايات المتحدة «بحرب الشعب»، أو ما يطلق عليه «الحرب الجيدة»، وكانت ولا تزال من أكثر حروب أميركا الخارجية شعبية. وهي لا تزال إلى اليوم تذكر بتعبيرات من هذا النوع حتى في الكتب الدراسية الأميركية. وربما بسبب ذلك الترويج، يبدو أن العقل الجمعي الأميركي لا يشعر بكارثية ما جرى.
فلا يزال يشار للرئيس ترومان الذي اتخذ قرار إلقاء القنبلة على كل من هيروشيما وناغازاكي بأنه من الرؤساء العظام، ونادراً ما يقترن اسمه بذلك الحدث المروع وإنما بأحداث أخرى أقل أهمية.
أكثر من ذلك، فإن الكتب الدراسية الأميركية لا تشير غالباً إلا في عبارة سريعة للقنبلة الذرية، وباعتبارها كانت وسيلة «لإنهاء الحرب». حتى الكتب التي تتحدث في عجالة عن أمور «مخجلة» جرت في الحرب، لا تذكر إلقاء القنبلة.
فعلى سبيل المثال، وفي واحد من الكتب التي تستخدم في تدريس السياسة الخارجية الأميركية، يذكر المؤلف أن تلك الأشياء «المخجلة» هي وضع الأميركيين من أصل ياباني في معسكرات اعتقال بعد قصف ميناء بيرل هاربر.. فقط! ويذكر الكاتب إلقاء القنبلتين، في موضع آخر من كتابه، كمبرر لابتداع ما صار يعرف أثناء الحرب الباردة بالردع النووي، والذي هو سباق نووي مجنون سعى لتعزيز قدرة كل دولة على تدمير الأخرى من الضربة الأولى.
والحرب العالمية الثانية حظيت بتلك الشعبية في الولايات المتحدة، لأنها قدمت للمواطن الأميركي منذ اليوم الأول باعتبارها الحرب التي تخوضها أميركا «من أجل الإنسانية ضد الفاشية والنازية». ولا شك أن الفاشية والنازية ارتكبتا جرائم بشعة ومثلت قهراً وقمعاً بلا حدود لأعداد كبيرة من البشر. وتوجد مئات الكتب التي توثق الفظائع التي ارتكبتها تلك الأنظمة.
لكن التاريخ الأميركي في المرحلة نفسها لم يكن نقياً على النحو الذي يسمح للولايات المتحدة التي خاضت تلك الحرب من «أجل تحرير البشرية» أو اعتبار نهاية الحرب «يوم الديمقراطيات»، كما زعم هاري ترومان يوم استسلام اليابان. فالفاشية التي تنطوي عليها عملية وضع الأميركيين من أصل ياباني في معسكرات اعتقال ليست وحدها التي تعكر نقاء الصورة.
ففي تلك المرحلة كان الفصل العنصري ما يزال قائماً ضد السود الأميركيين، رغم أنهم كانوا مجندين يخوضون الحرب من أجل بلادهم.
ولم تكن المجازر التي ارتكبت ضد السكان الأصليين عبر قرون متتالية قد محاها التاريخ بعد.
وفي تلك المرحلة أيضاً كانت الولايات المتحدة تدعم الاستعمار الفرنسي والبريطاني في الكثير من بقاع العالم، وترفض أن تتدخل أي دولة أياً كانت في أميركا اللاتينية التي اعتبرتها مجالاً خاصاً لحركتها وحدها.
وفي نفس تلك الفترة كانت الولايات المتحدة قد استولت على «غوام» و«بورتوريكو» واعتبرتها «أراضي» خاضعة لها، بينما سيطرت على جزر هاواي التي صارت إحدى الولايات الأميركية الخمسين فيما بعد، ولم تحصل الفلبين على استقلالها من الاحتلال الأميركي إلا في 1946.
بعبارة أخرى، فإن الدول المتحاربة في الحرب العالمية الثانية كانت لها كلها أطماعها الاستعمارية. أما الأمراض الداخلية، فقد تفاوتت فقط في فظاعاتها. لكن تبقى كارثة هيروشيما وناغازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية الدرس الأهم لتلك الحرب، في تقديري، فقد مات في هيروشيما أكثر من مئة ألف، وفي ناغازاكي التي ألقيت عليها قنبلة ثانية بعد ثلاثة أيام من كارثة هيروشيما، مات نحو ثمانين ألفاً، فضلاً عمن قضوا لاحقاً بفعل جروحهم وحروقهم بعشرات الآلاف.
وتقول صحيفة «جابان تايمز» أن راديو اليابان في وصفه للواقع بعد أيام من حلول الكارثة قال «لقد مات كل شيء حي» في المدينتين.
واليوم، بعد سبعين عاماً من تلك الكارثة، وحيث تطورت الأسلحة النووية تطوراً مذهلاً جعلها بالضرورة أكثر فتكاً، ربما يكون الدرس الأهم ليس بناء أسلحة نووية جديدة وإنما التخلص من تلك الأسلحة التي تدمر «كل شيء حي».
1445 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع