رجل يعمل في مسجد

                                                 

                           د محمد عياش الكبيسي

قبل بضعة شهور تعرّفت على شاب تركي وفد إلى قطر ليتعلم (العربية) و(الفقه)، وقد كانت فرصة أن أخبره بأن هناك   دورة بعنوان (السيرة النبوية قراءة منهجية تحليلية) نقدمها في مركز الشيخ عبد الله الأنصاري -رحمه الله- فبادر إلى المشاركة وكان له حضور متميز

بعدها صار يكلمني باستمرار عن رغبة (والدهم) في زيارة منطقتهم الواقعة في أقصى الشرق التركي، وحين سألته عن مهنة الوالد؟
اكتفى بالقول: (إنه يعمل في مسجد)، ولم أشأ أن أحرجه أكثر، حتى جاءت الإجازة الصيفية فذهبنا إلى اسطنبول وهناك كانوا يتصلون بنا يوميا من أجل ترتيب الرحلة، حاولت أن أعتذر بضيق الوقت وكثرة المشاغل لكني خضعت أخيرا لإصرارهم وإلحاحهم
وصلنا إلى تلك المحافظة النائية فوجدناهم قد أعدوا لنا سكنا ممتازا وخدمة وراحة لا ينقصهما شيء، ثم كان الاتفاق أن يمروا عليّ لصلاة العصر في المسجد، وأنا لتلك اللحظة أظن أن الرجل يعمل مؤذنا أو خادما، حتى إذا وصلنا المسجد فوجئت بوقوف المصلين كلهم وكانوا عددا كبيرا لاستقبالنا وقد نظموا أنفسهم على شكل صفوف طويلة يتقدم الأول فالأول للسلام علي ّ ثم على (الوالد) بحفاوة تعجز عن وصفها الكلمات حتى استحييت من نفسي، وقد تكرر هذا المشهد بطريقة أو بأخرى في كل مسجد نصلي فيه، فأدركت أن والدهم لا يعمل في مسجد وإنما يشرف على مساجد كثيرة وهو الشيخ المطاع بلا منافس أو منازع
مع تلك المساجد كان هناك أيضا مبنيان كبيران في منطقتين مختلفتين، وكان وسط كل مبنى منهما مسجد كبير، فقال لي : هاتان مدرستان للقرآن الكريم، واحدة للبنين والأخرى للبنات، تتسع الواحدة منهما لسبعمائة طالب تقريبا، فيها قاعات التدريس وغرف المنام والطعام وكل ما يحتاجه الطلبة! وهما أيضا بإشرافه شخصيا وتحت رعايته! وليس لهما صلة بالحكومة ولا بأية جهة رسمية.
كانت مأدبة العشاء في بستان واسع وبحضور عدد لا بأس به من (الأحباب)، والأغصان المثقلة بالفاكهة الناضجة تتدلى بين رؤوسنا وعلى أكتافنا، وكأنها تشاركنا في ذلك الاحتفال البهيج، في جو جميل ونسائم لطيفة وكلمات وابتسامات ومشاعر أكثر رقة وجمالا.
كان هناك أيضا مجلس للسادة العلماء والمدرسين تحت عريش على ضفاف نهر متدفق وله خرير مؤنس، وكان حوار شيّق عن المناهج التربوية ومقارنة التعليم الأصيل بالتعليم الدخيل، ورحنا نسبح في علوم الآلة وعلوم الفقه والأصول ومنهجية دراسة المذهبين الحنفي والشافعي، مع شيء من المُلح واللطائف العلمية والأدبية، وقد جلب انتباهي كثرة المتحدثين عندهم بالعربية بلكنة واضحة وبمستويات مختلفة.
الناس هناك لا ينظرون إلى (العالِم) إلا أنه واحد من ورثة النبيين، وأن محبّتهم للنبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- تنعكس على تعاملهم مع علمائهم، وهذا -لا شك- يحمّل العلماء مسؤولية كبيرة وشعورا ثقيلا بجدية الأمر، مع ما فيه من تبجيل ومودّة واحترام
في الصباح طرق عليّ الباب رجل لطيف، فقال: سيدي إن كان الوقت مناسبا فأذن لي بإحضار الفطور، ثم جاء ومعه شاب يفيض حياء وأدبا تبين أنه ابنه، سألته عن اسمه فقال: (زاهد)، وأما أبوه فاسمه (عالِم)، وكأنهما اختصرا أركان العملية التربوية المنشودة! استغربت حينما أحضرا وعائين من ماء الشرب، قلت: واحد يكفي، قال: الثاني لنا لعلك تقرأ عليه شيئا من القرآن فنسقيه لأولادنا! وبمناسبة (زاهد) و (عالم) فقد تعرّفت على أسماء أخرى مثل (معراج) و
(ياقوت) (مرجان
بعد عودتنا إلى اسطنبول كان الشيخ قد كلّف بعض أحبابه لاستقبالنا وتوصيلنا إلى محل إقامتنا، وقد أنكروا عليّ حينما التمست منهم أن لا يكلفوا أنفسهم فأنا أعرف اسطنبول وأعرف كيف أصل، قالوا: كيف نخالف أمر الشيخ؟!
نعم إنه الشيخ الذي كان كل تصوّري عنه أنه (يعمل في مسجد)، الشيخ الذي لا ترى عليه أثر (المشيخة) إنه لا يلبس عمامة ولا جبة ولا يحمل مسبحة، ولا يميّز نفسه بشيء أبدا، ليس له مكان مخصص ولا مكتب مع أنه يدير كل هذه المؤسسات، سألته مرة: يا شيخ من ينفق على هذه المدارس؟ قال: الله، هل يمكنني أن أساهم بشيء؟ قال: نعم، بالدعاء
لا أدري حقيقة ممّ أعجب، أمن هذا التواضع الذي يظهر دون تكلف في كل حركة وسكنة، أم من ذالك التفاني في العمل وخدمة الآخرين والمجاهدة في إخفاء الصدقة والنفقة إلى الحد الذي رجعت وأنا لا أعرف من يموّل هذه المشاريع ومن يدعمها، أم أعجب من هذا الوفاء، فكل ما قدمته لابنهم أني أشركته في دورة علمية قصيرة، فيا لله كيف أصبحت تلك الكلمات التي قلتها في الدورة جزءا من هويتي التعريفية فأسمعهم يقولون: هذا هو معلّم ولدنا عدنان، هذا هو معلّم ولدنا عدنان
إن الصورة الكلّية لذلك المجتمع التي لا تفارق مخيلتي أنه مجتمع سعيد ومبتهج، وهي الصورة التي تفتقدها اليوم أغلب المجتمعات البشرية حتى تلك التي حقّقت قدرا مريحا من النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي، ذلك لأن السعادة ليست ثوبا يلبسه الإنسان، ولا بيتا يسكنه، ولا قانونا لضبط الأمن أو توزيع الحقوق، وإنما هي حالة تعمر القلب من داخله بالقناعة والرضا ومحبّة الخير والشعور بالابتهاج عند المساهمة أو المساعدة في تقديمه للآخرين
وشتّان شتّان بين التديّن الذي يسكب السكينة والطمأنينة في القلوب ويفيض بالسعادة على الآخرين، وبين التديّن الذي يطفح بالكراهية والرغبة في الانتقاص أو الانتقام من الآخرين، ويبقى الفيصل بين هذا وذاك (وما أرسلناك إلا  رحمة للعالمين)

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

940 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع