د.عزمي بشارة
قاد الحرج من القعود والتفرّج على مأساة الشعب السوري إلى جولات المندوبين الدوليين المكوكية، والمؤتمرات المتنقلة، التي عافها حتى الإعلام الذي لا يكل ولا يمل، وبدّد متعاطفون مع الشعب السوري الوقت، بالتحجج بعدم وحدة المعارضة. مرّت سنتان، وكادت تمر الثالثة من دون أن يسمع أحد بداعش. ولكن كل شتاء منها كان دهراً بالنسبة للشعب السوري. فخلافاً لما يسمى المجتمع الدولي في مؤتمراته، لم يبدّد النظام يوماً واحداً بدون تعذيب السوريين وقتلهم وتشريدهم.
وأخيراً، وصلت مواقف الدول الغربيّة، عمليًّا، إلى حدّ المصارحة بأنّ المشكلتين الرئيسيّتين في سورية، بالنسبة للغرب، هما تنظيم الدولة (داعش) وأمواج اللاجئين المتدفقة من سورية إلى هذه الدول. وحلت مشكلة النظام السوري نفسه في المرتبة الثالثة. (تداعيات: أما على غلاف مجلة التايم الأميركية فحلّت المستشارة الألمانية ميركل في المرتبة الأولى، واحتل البغدادي المرتبة الثانية، وكانت الثالثة من نصيب دونالد ترامب. واحتفت وسائل الإعلام العربية بهذه وكأنها منافسة عالمية فعلاً، وليس مجرد غلاف لمجلة أميركية. فأميركا وأوروبا هما العالم بالنسبة للإعلام العربي).
عبثاً، انتظر العرب من أميركا وأوروبا موقفاً جدياً بالنسبة لمعاناة الشعب السوري. وأضاعوا وقتاً ثميناً كان يمكن استغلاله بحثا عن بدائل أخرى عربية إقليمية. ولم يتخلّف شتات المعارضة السورية عن عملية هدر الوقت، فأوساطها كانت بداية تمنّي النفس بالنموذج الليبي، الذي انتهى إلى ما نرى ونشهد، وما سبق أن شهدنا في العراق. ولم تتمكّن من طرح بديل منظّم سياسي -مسلّح طوال الفترة السابقة، كما أن أطيافها لم تتعامل مع طرح بديل للنظام، أولوية ملحّة لا تقلّ أهمية عن مناهضة النظام.
يعرف القادة الغربيون والشرقيون تمام المعرفة أنّ أصل المشكلة في سورية طبيعة نظام الحكم، وأنّ رفض هذا النظام التجاوب مع انتفاضةٍ مدنيّة، سواء بالإصلاح أم باستنتاج ضرورة المغادرة من عدم القدرة على الإصلاح، وإصراره على الخيار الأمني، ثمّ العسكري، في قمع انتفاضة شعبه، أدّى إلى التخلّص من المظاهرات وتحويل الثورة السوريّة إلى حالاتٍ محليّة غير منظّمة للدفاع عن النفس. ولم تنجح حالات الدفاع المسلح عن النفس في التحوّل إلى تنظيم مسلّح وموحّد على المستوى الوطني. واقتحمت الميدان قوى مسلحة منظمة، بعضها لا علاقة له بأهداف الثورة السورية، ولا يميّز أصلا بين المعارضة والنظام، فملّة الكفر واحدة بالنسبة له. وبعضها الآخر ليس تكفيرياً، لكنه وجد في الإيمان حليفاً موثوقاً وحيداً. وحين تحوّل الكفاح المسلح إلى استراتيجية وحيدة ممكنة في مواجهة النظام، ظلّت هذه إمكانية وحيدة بدون استراتيجية، نتيجة لتشظي القوى المسلحة الذي لا يعرف حدوداً.
ثار هذا الشعب ضد صنوف القمع والإذلال والنهب التي يتعرّض لها الإنسان السوري، منذ ولادته وحتى مماته في ظل هذا النظام. وكان الصمت قبل ثورة الشعب السوري ممكناً، بسبب
"سيكون على السوريين طرح بديل ديمقراطي متكامل للنظام، وإيجاد الحلفاء لهذا البديل، وتوحيد العمل العسكري والسياسي والإعلامي لتغيير الوقائع على الأرض"
أدوار النظام الإقليمية المختلفة، وأحيانا المتناقضة. ولكن طبيعة النظام كانت معروفة، وحين ثار الشعب السوري، كان الجميع يعرف أن لديه أسباباً للثورة أكثر من غيره من الشعوب. ولهذا، أصبح الصمت محرجاً. ففي حالة الثورة السورية، لا يمكن إلا اتخاذ موقف متعاطف مع الشعب السوري. (أما من اختار الوقوف إلى جانب النظام، لأسبابه التي لا علاقة لها بالشعب السوري، فلا يمكنه إلا أن يتشنج بشكل مطلق، كآلية دفاع عن هذا الموقف -الجريمة في مواجهة العقل والضمير، معبّراً عن نفسه، بابتداع المؤامرات واختلاق الأكاذيب، لأن أي نقاش عقلاني يقوّض موقفه، وأي تعامل مع الحقائق يدحضه. وهو إضافة إلى ذلك لا يستطيع أن ينتقد أي ممارسة للنظام، مهما كانت إجرامية، لأن أي نقد هو شق قد يتسرّب منه الضوء إلى ذهنه عبر جدار الدفاع الأصم. ولهذا، يجد نفسه منقاداً للدفاع، حتى عن التعذيب والتهجير والبراميل المتفجرة).
لم ينجح من سمّوا أنفسهم لاحقًا "أصدقاء الشعب السوري"، في حماية المدنيين السوريين من إطلاق النار على المظاهرات بحرية تامة، واحتلال مراكز المدن السوريّة بالفرق العسكريّة المدرعة، والقصف العشوائي من الجو بالبراميل المتفجرة، وبغيرها ضد المناطق المأهولة التي خرجت عن سيطرته. ولا علاقة لحماية المدنيين بوحدة المعارضة السورية. ومع ذلك، لم يقوموا بحمايتهم، ولا حتى بالإنذار بتطبيق حظر الطيران.
ولكن الدول الغربيّة سارعت إلى اتخاذ موقف فعلي، عندما مُسّ مدنيّوها بعمليات الإرهاب المدانة والمستنكرة، أو حين مُسّت حدود مجتمعاتها بتدفّق اللاجئين. استنفر الغرب على الفور. ولكن، ليس لنجدة الشعب السوري، وإنّما في مواجهة هذين الخطرين حصرياً، مع تناسٍ مقصود لجذورهما الضاربة عميقاً في طبيعة النظام وسلوكه، وفي نكبة الشعب السوري. وتذكروا طبيعة النظام لأغراض التحليل فقط.
ولو ادعى السوريون أمام الدول الغربية أنّ النّظام هو خصم الشعب الرئيسي، وداعش هو خصمه الثّاني، لأجابهم بعض المسؤولين أنّه بالنّسبة للرأي العام الغربي داعش هو العدو الرئيسي، وأن النظام مستبد، لكنّه ينفذ عملياته ضدّ ملايين المدنيين السوريين، وليس ضد عشرات، أو ربما مئات، المدنيين الغربيين. يكتفي النظام بارتكاب جرائم إبادة جماعية "ضد السوريين فقط". ثمّة تراتبية ما في عالمنا بين حياة المدنيين، وكلنا يعرف ذلك. وما كان ينبغي لأحد أن ينساه للحظة.
سيكون على السوريين طرح بديل ديمقراطي متكامل للنظام، وإيجاد الحلفاء لهذا البديل، وتوحيد العمل العسكري والسياسي والإعلامي لتغيير الوقائع على الأرض وفي الرأي العام. ليس هذا منصفاً، فلم يُطلب من شعبٍ تلبية مثل هذه الشروط، لكي يتحرّر من الاستبداد. ولكن قضية الشعب السوري تعقدت، ليس فقط بسبب طبيعة النظام، وأدواره الإقليمية وطبيعة حلفائه، بل أيضاً جراء فعل قوة ظلامية، دخلت إلى ساحة الصراع ضد الثورة على النظام، قبل أن تكون ضد النظام نفسه.
783 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع