عبد الباري عطوان
يوم “عايروني” بقصور صدام حسين على الهواء مباشرة بهدف احراجي.. وها هم يلجأون اليها لانقاذ حكومتهم من الافلاس.. واليكم القصة كاملة دون اي رتوش
قبل غزو العراق واحتلاله ببضعة اعوام، استضافني الزميل جاسم العزاوي في برنامجه الناجح الذي كان يقدمه في تلفزيون ابو ظبي (كان وقتها ينافس “الجزيرة”)، تحت عنوان “مواجهة” للحديث عن مآثار الحصار الذي تفرضه امريكا وحلفاؤها على الشعب العراقي، ولان البرنامج يحتاج الى ضيفين متناقضين في مواقفهما، اختير ان يكون الضيف الثاني باري مارتسون، المتحدث باسم وزارة الخارجية البريطانية في حينها ليكون خصما، وكان يتحدث اللغة العربية بطلاقة خريجي معهد شملان اللبناني.
من المؤكد ان الضيف البريطاني وبحكم موقعه، ودور حكومته في دعم الحصار، والمشاركة في “عاصفة الصحراء” التي اخرجت القوات العراقية من الكويت، وارتكبت مجازر في حقها اثناء انسحابها (مجزرة طريق المطلاع)، ودمرت العراق وبناه التحتية، من المؤكد انه كان يعلم، بشكل مباشر او غير مباشر، ان التحضيرات لغزو عام 2003 كانت تسير على قدم وساق، ولذلك حضر واجبه المدرسي واجوبته بشكل جيد، وفاجأني بسؤال اراده ان يكون بمثابة الضربة القاضية، قال فيه اذا كان الرئيس العراقي صدام حسين حريص على شعبه ومعاناته تحت الحصار لماذا ينفق ملايين الدولارات على تشييد القصور الفخمة؟ الامر الذي اثار ابتسامة خفيفة على وجه المقدم العزاوي الذي اطربه السؤال، وسهل من مهمته، وزاد الحلقة سخونة.
***
حقيقة، فوجئت بالسؤال، فلم اكن مستعدا له، ولكني استجمعت قواي العقلية، ومعها بعض الهدوء الذي لم يكن من طباعي في مثل هذه البرامج، وقلت له ان بناء هذه القصور، في هذا الوقت بالذات، يشكل استفزازا عندما ينظر اليه المرء نظرة سطحية، ولكن اذا تعمقنا اكثر نجد ان الغرض الاساسي منها توفير فرص عمل للعاطلين، وتحريك دورة الاقتصاد العراقي الراكدة بفعل الحصار، فجميع المواد المستخدمة في البناء عراقية، وكذلك حال المهندسين والعمال، ولن يتم استيراد مسمار واحد من الخارج، طالما ان استيراد اقلام الرصاص كان محظورا.
وفجأة تفتق ذهني عن حجة لا اعرف كيف اتت، وقلت ان الفراعنة بنوا الاهرامات كمقابر لملوكهم قبل ثمانية آلاف عام، وذهبوا وبقيت الاهرامات مصدر دخل ورمزا لمصر يؤمها ملايين السياح من مختلف انحاء العالم، وتدر لمصر مليارات الدولارات سنويا، ثم ان الخديوي محمد علي واولاده بنوا عشرات القصور في مصر، مثل قصر التين، والقبة، والمنتزه، والمعمورة، فمن الذي يسكن في هذه القصور الآن، اليس الرئيس حسني مبارك، وقبله محمد السادات، وقبلهما جمال عبد الناصر، اي باتت ملكا للدولة، ذهبت اسرة محمد علي وبقيت قصورهم لمصر وشعبها، وهكذا سيذهب صدام حسين وتبقى قصوره للعراق والعراقين، وهو على اي حال يعيش هذه الايام مطاردا يتنقل من بيت الى آخر لتضليل الطائرات الحربية الامريكية التي تريد اغتياله.
اقول هذا الكلام، وبعد اكثر من 15 عاما تقريبا بمناسبة تصريحات رسمية تتحدث عن دراسة الحكومة العراقية لمقترحات بيع 600 الف عقار من بينها العديد من قصور الرئيس الراحل صدام حسين، بهدف توفير ايرادات لسد العجز في موازنة العام الحالي في ظل التدني الكبير والمستمر في اسعار النفط.
ونقلت صحيفة “المدى” العراقية اليوم (الخميس) عن نواب في اللجنة المالية بالبرلمان ان الحكومة يمكنها الحصول على 150 مليار دولار من بيع هذه العقارات والقصور.
العجز في ميزانية العراق عام 2015 بلغ اكثر من ثلاثين في المئة، اي حوالي 35 مليار دولار تقريبا، ومن المتوقع ان يكون العجز في ميزانية العام الحالي 2016 النسبة نفسها، ان لم يكن اكثر، لانها وضعت على اساس سعر 45 دولارا لبرميل النفط، وهي الآن اقل من ثلاثين دولارا، ومرشحة للهبوط الى عشرين دولارا، حسب توقعات بعض الخبراء في صندوق النقد الدولي.
“العراق القديم” عاش اكثر من 12 عاما تحت حصار ظالم، ولكن السلطات العراقية الحاكمة في حينها، اعادت بناء اكثر من 130 جسرا على نهري دجلة والفرات، ووفرت الماء والكهرباء وكل الخدمات الاساسية من صحة وطبابة وتعليم، والاهم من كل ذلك الامن، وكان العراقيون مع مطلع كل شهر يتسلمون حصتهم التموينية دون نقصان وفي ظل مساواة صارمة، وفي اطار نظام توزيعي اذهل المراقبين الدوليين لرقيه وفاعليته (كانت ميزانية العراق عام 2003 14 مليار دولار، بينما بلغت في العام الماضي 2015 حوالي 105 مليارات دولار).
“العراق الجديد” مقسم، مفتت، بلا ماء، او كهرباء، او خدمات اساسية، وبلا جيش وطني والامن معدوم، والطائفية والعرقية والمناطقية فيروسات تنهش هويته الوطنية ونسيجه الاجتماعي، وبات يحتل المرتبة الثالثة كأكثر بلدان العالم فسادا.
***
قبل ثلاثة ايام قال الدكتور اياد علاوي الخصم الشرس للرئيس الراحل صدام حسين، واحد ابرز المتواطئين مع الغزو الامريكي، ان العراقيين يترحمون الآن على ايامه في ظل الوضع البائس الذي يعيشونه في ظل الحكومات التي جثمت على صدورهم بعد الاطاحة بنظامه.
لا اعتقد ان باري مارتسون خصمي في ذلك البرنامج ولا حكومته التي لقنته ذلك السؤال الذي اراده ان يكون محرجا وبمثابة الضربة القاضية، ولا كل الذين انهالوا علي بالشتائم في حينها، سيدركون كيف ان قصور صدام حسين ستتحول الى مقر للحاكم العسكري الامريكي للعراق بول بريمر ولمجلس حكمه، والنخبة السياسية الحاكمة حاليا، ولكل السفارات الغربية بما فيها البريطانية، والاكثر من ذلك ستباع في المستقبل القريب لاثرياء الغزو الجدد من اجل سد العجز في ميزانية العراق، وبما يمكن الحكومة من دفع رواتب موظفيها وقوات جيشها ومخصصات وزاراتها وسفاراتها.
يا الله.. لقد تحولنا كعرب الى اضحوكة واصبح وضعنا اكثر سوءا من الزوج المخدوع.. فانتهاك الاوطان وكرامة شعوبها وسرقة ثرواتها اكبر بكثير مما عداها.
اضم صوتي الى صوت الدكتور علاوي، رغم خلافي الكبير معه، وكل العراقيين الشرفاء واترحم على الرئيس صدام حسين وعهده، وادرك جيدا ان البعض المضلل لن يعجبه هذا الترحم لانه لا يريد ان يعترف بالحقيقة، وينطبق عليه مثل اصحاب “عنزة ولو طارت”.
971 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع