عبدالوهاب بدرخان
كان لا بد من إجرام روسي فوق إجرام النظامين السوري والايراني ليأخذ الصراع في سورية وعليها مساراً آخر لم يرده الشعب السوري. بعد خمسة أعوام من القتل والتدمير والتهجير، كتبت موسكو وطهران لنظام بشار الأسد عمراً جديداً، بمزيد من القتل والتدمير والتهجير، وتعدّانه للسيطرة مجدّداً، كما خطّط وتمنى. لكن، السيطرة على ماذا ومن أجل ماذا، على ركام بلد بلا سكان ولا أهل، ولوضع سورية على موائد المساومات. عشرات الآلاف هجّوا الى أقرب ما ظنّوها ملاذات، لكن طائرات فلاديمير بوتين تلاحقهم من ملاذ الى آخر، فالرئيس الروسي لا يريدهم أيضاً في مدنهم وبلداتهم، يريحه أن يكونوا خارج الحدود، ولا يزعجه أن تكون ميليشيات الملالي الايرانيين من يقتلعهم من مساكنهم.
منتهى الوحشية هو ما تنهجه روسيا بوتين ضد السوريين، متقصّدة المدنيين، لأن النظام - حليفها، منذ كان، داوم على اعتبارهم أعداءه الأولين، ومنذ كان، ظل يقلق من صمتهم ويخشى خوفهم منه حتى وهو يقمعهم ويذيقهم أمرّ التعذيب. منتهى الانحطاط هو ما تنهجه ايران ولي الفقيه ضد السوريين، متضامنة مع حليفيها في التجرّد من أي اخلاقية، فمن يتعامل بهذا الاحتقار مع شعب سورية لا يمكن أن يكنّ لشعبه شيئاً آخر غير هذا الاحتقار. استطاع بوتين وخامنئي والأسد أن يثبتوا للعالم أنه لم يتعرّف بعد الى قاع الوحشية، فقد تكتلوا، ولا ينقصهم سوى كيم يونغ اون، ليصنعوا أحدث مآسي الانسانية على أنقاض احدى أقدم الحضارات البشرية والعمرانية. نجحوا في أن يكونوا الورثة الطبيعيين للنازية والفاشية والصهيونية، والأبطال المتماهين مع ارهاب «داعش» وما بعده.
لا يستطيع الآخرون، في الولايات المتحدة ودول اوروبا وحتى دول العرب، أن ينكروا أنهم شهود سلبيون على هذه المأساة، التي تحوّلت في اللحظة نفسها من قضية شعب يريد تقرير مصيره في جنيف الى قضية لاجئين هائمين في أرضهم باحثين عن خيمة تؤويهم. أصبح واضحاً الآن أن جنيف وفيينا ومجلس الأمن وقراراته مجرد ديكورات لفصول مسرحية الخداع الروسي، الذي لم يذهل إلا باستعداد ادارة اميركية للإنخداع وللعب الدور كما لو أنه من تأليفها. تفانى باراك اوباما في التفاوض النووي مع ايران، مكتفياً بالتفرّج على جرائمها في العراق وسورية واليمن، ثم على جرائم روسيا، ظناً منه أن الاتفاق النووي سيكون «الإرث» الرفيع لعهده في البيت الأبيض فإذا به يورّث العالم نظاماً دولياً يهيمن عليه واحد من أسوأ «محاور الشرّ» في التاريخ. وفيما واظبت اميركا - اوباما على «التفاهم» مع روسيا - بوتين، وإيهام العالم بأنها دولة مسؤولة ترغب في «حل سياسي» يحافظ على الدولة في سورية، وبدل أن تستوحي موسكو، في سعيها الى هذا الحل، القرار 2254 الذي صيغ بعنايتها، إذا بها تسترشد بكتاب «ادارة التوحّش» لـ «القاعدي» «ابي بكر ناجي».
أسوأ أنواع «الاستكبار» وأقبحها أن لا يكتفي المجرمون والشهود العيان بارتكاب هذه المأساة في حق الشعب السوري بل يزيدون اليها الإهانة عندما يبررونها بظهور تنظيم «داعش»، وكأن هذا الشعب مصدر هذا الارهاب الذي غزا أرضه ليجد أن الأسد والايرانيين قد فتحوا له الأبواب. «داعش» صنيعة هذين النظامين وذريعتهم، وما لبث بعد انتشاره أن صار وسيلة لكثيرين يتنافسون على محاربته، وبالأخص على استخدامه للتضحية بسورية وشعبها معاً. مذهلٌ كمّ المعلومات المتداولة بين المجرمين ولدى شهودهم عن ارتباط «داعش» بإيران، وعن التوجيهات التي يتلقاها للهجوم هنا والانسحاب هناك، والوجهات التي يُطلب منه تصدير مقاتليه اليها، وتعليماته لخلاياه في الخارج بوقف نقل المجندين الى سورية والتحرك في اماكن وجودها، وعن مهماته المقبلة... كل ذلك تعرفه الأجهزة والحكومات ووثّقته من خلال عشرات المخبرين من جنسيات مختلفة داخل «داعش»، لكنها تتكتّم عليه لأسباب ودوافع يصعب تفسيرها، سواء للحفاظ على مصادرها وعلى الكذبة الشائعة أو لأن «داعش» يوفّر للدول الكبرى فرصاً شتّى لاستخدامه. ثم أن كشف حقيقة دور ايران يستوجب محاسبتها، فكيف تقدم الدول الكبرى على ذلك فيما هي متهافتة على ايران لانتزاع العقود والصفقات.
الكل يعرف أنه سيُقضى على «داعش»، وبسرعة، متى تنتهي صلاحيته ووظيفته، فقد وفّر لروسيا ونظام الاسد وايران إمكان «شيطنة» المعارضة السورية لتبرير «سحقها» و «إهلاكها»، وفقاً للتعبيرات استخدمها جون كيري أمام نشطاء مدنيين سوريين في غرفة مجاورة لقاعة «مؤتمر المانحين» في لندن حيث اعتلى المنبر ليتفوّه بكلام مغاير. لم يعد هناك فارق بين كيري وسيرغي لافروف، على أن الثاني يفعل ما يقوله، أما الأول فلا يزال يرطن علناً بموقف اميركي أصبح كذبه كارثياً فيما يستغلّ الكواليس لتسويق توجيهات زميله الروسي. وفي السياق قدّم «داعش» أكبر الخدمات للسياسة الطائفية الايرانية، فصعوده وانتشاره وأشرطة قطع الرؤوس دعمت «شيطنة» السنّة عالمياً، أما هجماته واعداماته كتراجعاته وهزائمه فحققت لطهران أحلاماً استراتيجية تاريخية بتدمير كل الحواضر الاسلامية وشواهدها الأثرية ومقوّماتها الاقتصادية وميراثها الثقافي. ولا يبدي الشهود الدوليون استهجاناً ازاء الادارة الايرانية لهذا التوحّش، لكنهم كانوا يريدونها بعيداً من شوارعهم ومن دون موجات اللاجئين وأعبائها وازعاجاتها. لن يستطيعوا القول مستقبلاً أن جريمة العصر في سورية والعراق حصلت من دون علمهم وموافقتهم. شاؤوا أم أبوا، انهم شركاء فيها.
لا يقتصر الخداع الروسي على لعب الحل العسكري ضد الحل السياسي، أو على التلاعب بالمبادئ التي بني عليها القرار 2254 وأهمها وحدة سورية شعباً وأرضاً، بل ان دورَي روسيا و «داعش» يبدوان متزاملين ومتلازمين في تسهيل تسريب فكرة التفكيك الجغرافي لخريطتَي سورية والعراق الى النقاش السياسي حول استئناف التفاوض بعدما دُمّرت مقوّماته. فالاستحالة والتعجيز اللذان وضعت المعارضة أمامهما جعلتا موسكو تهدد بتنظيم تفاوض بين النظام بعد استعادته السيطرة و «معارضتها» المستعدة للقبول بصيغة حكومية غير انتقالية لطي صفحة الأزمة، بما فيها الاكراد الانفصاليون الذين باتوا يشكلون الحركة الأولى المعلنة في تفسّخ وحدة الأرض السورية ويحظى «اقليمهم» باعتراف روسي مبكر وبحماية وتسليح اميركيَين.
في السياق نفسه يدعو رئيس اقليم كردستان العراق مسعود بارزاني العالم الى الاعتراف بإخفاق معاهدة سايكس - بيكو (1916) للشروع في ترسيم جديد للحدود تمهيداً لإقامة دولة كردية، مشيراً الى أن المجتمع الدولي بدأ يتقبّل أن سورية والعراق لم يعد توحيدهما ممكناً. ومردّ ذلك في نظره الى «اجتياحات داعش». هذا يعيدنا الى «داعش» الذريعة والوسيلة، أي الى جانب جزئي من الحقيقة التي يتشكل جانبها الأكبر والأخطر من نتائج الغزو والاحتلال الاميركيين للعراق ثم الهيمنة الايرانية عليه، ومن التدخل/ الاحتلال الايراني ثم التدخل/ الاحتلال الروسي لسورية وما رافقهما من تطهير مذهبي وإثني. ولم يفعل الروس أكثر من إكمال ما بدأه الايرانيون من توجيه مصير سورية نحو التفكك. من هنا التساؤل الذي أطلقه وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند عن حقيقة التزام روسيا عملية سلام أم أنها «تستخدمها لتقديم نصرٍ عسكريٍ ما للأسد يتمثل في إقامة دويلة علوية في شمال غرب سورية»؟
الحل العسكري لا مفاوضات الحل السياسي هو ما تسعى اليه روسيا من أجل حليفها أحد أسوأ الأنظمة في تاريخ البشرية، وهو ما تحبذه الولايات المتحدة فهي لم تتوقف عن احباط المعارضة ودفع الشعب السوري الى الجدار الأخير ليقبل بأي «حل سياسي»، حتى لو كان تقسيماً و «دويلة علوية». روسيا تقود حلفاءها الى نصر لا معنى مستقبلياً له، وأميركا تخصصت في ادارة هزائم مَن يعتقدون أنهم حلفاؤها و «أصدقاؤها».
1119 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع