د. فيصل القاسم
ما إن سمعت الإدارة الأمريكية خبر الرسالة التي أرسلها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين، حتى خرجت علينا المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية لتقول إن أمريكا مذهولة من هذا التقارب التركي الروسي المفاجئ.
ولا شك أن هذا التصريح تغلب عليه الصبغة الإعلامية والدبلوماسية الكاذبة، فالأصح أن تقول المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية إن أمريكا منزعجة جدًا من عودة العلاقات بين موسكو وأنقرة. إن التصريح الأمريكي المندهش ربما يعكس خيبة أمل أمريكا لأنها ربما كانت تراهن على صراع مرير بين الروس والأتراك لاستنزاف الطرفين. لكن إنهاء القطيعة بهذه السرعة وبهذه الطريقة قد أفشل اللعبة الأمريكية. هل كانت أمريكا تريد توريط تركيا عندما أعطتها الضوء الأخضر لإسقاط الطائرة الروسية؟
لا يمكن لتركيا بأي حال من الأحوال أن تـُقدم على إسقاط طائرة روسية على الحدود مع سوريا لو لم تحصل على مباركة من أمريكا أولًا، ومن حلف الناتو الذي هي عضو فيه ثانيًا. ولا شك أن تركيا كانت تعتقد بصفتها محمية من الحلف أنها قادرة على مواجهة روسيا جويًا، لأنها تتمتع في نهاية النهار بحماية أطلسية. لكن الأيام أثبتت أن تركيا ربما تعرضت لخديعة أمريكية مفضوحة، فحصلت على موافقة أمريكية لمواجهة الروس فوق الأجواء السورية التركية، لكن الأمريكيين على ما يبدو كانوا يريدون الإيقاع بتركيا وتوريطها في صراع خطير مع روسيا، ثم يتركونها وشأنها. ولو نظرنا إلى ردود فعل أمريكا ومعها حلف الناتو في أعقاب إسقاط الطائرة والحملة الروسية اللاحقة على تركيا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، لوجدنا أن الأمريكيين وبقية أعضاء حلف الناتو كانوا يلعبون لعبة قذرة مع الأتراك، وإلا لما تجرأت روسيا على تركيا بهذه القوة والفظاظة. ولعل أكبر دليل على أن الأمريكيين كانوا يضمرون الشر لتركيا عندما ورطوها مع روسيا في حادثة الطائرة، أن أمريكا، كما أسلفنا، فوجئت، لا بل ذهلت من التقارب الروسي التركي. وقد أكدت وزارة الخارجية الأمريكية أنها ليست على أدنى علم باعتذار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لنظيره الروسي فلاديمير بوتين على حادث إسقاط أنقرة الطائرة الحربية الروسية قبل سبعة أشهر.
وقالت إليزابيث تيرودو الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأمريكية: "لم نر سوى بيان المتحدث الرسمي باسم الكرملين". وقالت المتحدثة للصحفيين: "إذا ما تبيّن لدينا أي مستجدات بهذا الشأن سوف أطلعكم عليها"، مشيرة إلى أنها ليست على أدنى علم بما إذا كانت أنقرة قد شاورت الحكومة الأمريكية قبل قيامها بهذه الخطوة، أي الاعتذار لروسيا. ولو كانت واشنطن منخرطة بشكل أو بآخر بخطوة تركيا الودية تجاه روسيا، كما يقول موقع روسيا اليوم، لأظهرت اعتذار أردوغان لروسيا، على أنه "نصر إضافي تحرزه الدبلوماسية الأمريكية".
واضح تمامًا من التصريحات الأمريكية المتفاجئة والمذهولة من التقارب الروسي التركي أن الأتراك تصرفوا هذه المرة بعيدًا عن أي مشاورات مع حليفتهم المزعومة أمريكا. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الأتراك ربما باتوا لا يثقون أبدًا في المواقف والوعود الأمريكية، فلم تكتف واشنطن بالمماطلة في طلبات تركيا لإقامة منطقة آمنة على حدودها مع سوريا، بل وصل الأمر بالأمريكيين إلى توريط تركيا مع الروس ومن ثم تركتها تواجه الجبروت الروسي وحدها. ولا ننسى كيف أن أمريكا وأعضاء آخرين من حلف الناتو كانوا قد سحبوا بطاريات صواريخ باتريوت من الحدود التركية بعد التدخل الروسي في سوريا، وكأنهم يعطون روسيا الضوء الأخضر لتفعل ما تشاء على حدود تركيا.
لو وقف حلف الناتو وقفة صارمة إلى جانب تركيا بعد صراعها مع روسيا، لما كان الروس قد تجرأوا على تركيا بهذه الغطرسة، ولما استهدف الطيران الروسي جبل التركمان ومدينة حلب تحديدًا بوصفها مجالًا حيويًا تركيًا. لاحظوا أن الحملة الروسية على حلب تأجلت بعد الاتصال بين أردوغان وبوتين. ولا ندري إذا سيكون رد الفعل التركي على الموقف الأمريكي المخزي مزيدًا من التقارب مع الروس نكاية بمن خذلوها. وكأن تركيا تقول للأمريكيين والأوربيين: فهمنا لعبتكم جيدًا.
واضح تمامًا أن الأتراك تعلموا درسًا قاسيًا من الخذلان الأمريكي والناتوي الأخير. لهذا جاء الاتصال بين الأتراك والروس بعيدًا عن أي علم أمريكي، وربما وجدت القيادة التركية أن الاعتذار لروسيا حفاظًا على المصالح التركية أفضل وأقل ضررًا من المراهنة على حليف غدار.
730 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع