د. علي محمد فخرو
في الحادي عشر من سبتمبر من كل عام يعمُّ الولايات المتحدة الأميركية النُّواح واللَّطم، وتتذكُر الأمة الأميركية مواطنيها الأبرياء الذين سقطوا ضحايا العنف الهمجي المجنون.
في تلك الذكرى تناقش وسائل الإعلام الأميركية تفاصيل ذلك الحدث الذي تمَّ منذ خمسة عشر عاماً، وكالعادة تشير بأصابع الاتهام إلى نفس الجهات إيّاها، التي تعتبرها مسؤولة عن التخطيط والتنفيذ.
حتى الآن والموضوع عاديّ. لكن غير العادي هو إصرار غالبية وسائل الإعلام الأميركية ومؤسسات المجتمع المدني الأميركية على التجاهل التام لعشرات الفيديوهات والكتب والمناقشات العامة الأميركية، إضافة لعشرات الكتب والفيديوهات والمناقشات العامة غير الأميركية، التي بينًت بحجج قوية، هندسية وعلمية ولوجستية، إمكانية ضلوع جهات داخلية أميركية في تنفيذ ذلك الحدث المروّع وبالتالي إمكانية حدوث تلاعب وتزوير في التقرير الرسمي الأميركي الذي كتب بشأن تفاصيل ذلك الحدث.
مرة أخرى: لماذا يتجاهل الإعلام الأميركي المهيمن على الساحة الإعلامية الداخلية ملاحظات وتساؤلات وشكوك المئات من المهندسين ورجالات الاستخبارات السابقين واختصاصيي المتفجرات والمواطنين الذين أكدًوا أن التقرير الرسمي تجاهل تفسير أحداث وظواهر بالغة الأهمية والتعقيد لأسباب خفيًة وقد تكون لأسباب استخباراتية وسياسية تآمرية؟
لا أعتقد بوجود جواب شافٍ لهذا السؤال، وإنما وجود مزيد من الأسئلة.
مثلاً: لماذا قتل الرئيس جون كندي في بداية الستينات من القرن الماضي؟، ولماذا قتل قاتله بعد بضعة أيام في مكان عام مزدحم وبحضور شرطة لم يستطيعوا حمايته حتى يدلي بأسماء الجهات التي وراءه، ولماذا لاتزال عشرات الأسرار الغامضة تمنع ظهور الحقيقة الواضحة المقنعة حتى يومنا هذا؟
مثلاً، ما نوع العلاقة التي ربطت بعض جهات المال والصناعة العسكرية الأميركية مع الحركة النازية في ألمانيا، وما سبب عدم محاكمة تلك الجهات أثناء وبعد دخول أميركا الرسمي الحرب قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بوقت قصير؟، ومن هم المتورطون بالاسم والمكانة والمسؤوليات؟
مثلاً، لقد تبيّن بصورة قاطعة أن جهات أميركية قد لعبت دوراً محورياً في تلفيق كذبة امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل وفي تجاهل ما توصل إليه مفتشو هيئة الأمم المتحدة بعدم وجود أدلة كافية تثبت امتلاك العراق لتلك الأسلحة، وفي احتلال العراق دون أخذ موافقة مجلس الأمن، ومع ذلك لم يحاكم أحد، ولم يعاقب المجرمون الذين أضاعوا تريليونين من الدولارات في القيام بتلك التمثيلية العبثية. فما هي الجهات التي لم تسمح بكشف الأسرار ولا بمعاقبة الفاعلين؟
مثلاً، هناك شكوك كثيرة حول تورط بعض الجهات الأميركية في خلق القاعدة، ثم في تسهيل انتقالها من أفغانستان إلى العراق، ثم في إلباسها أقنعة وألبسة لتفرخ داعش والنصرة وأخواتهما وبنات عمومتهما لإدخال العراق وسورية وليبيا وغيرها في الجحيم الذي يعيشونه. وهناك شكوك كثيرة وأسئلة لا تنتهي بشأن الدور الأميركي غير المباشر والمباشر في عدم هزيمة الدولة الإسلامية والإبقاء عليها بين الموت والحياة لتستطيع إنهاك المجتمعات العربية وإبقاءها هي الأخرى معلقة بين الحياة والموت. فما هي الجهات التي تلعب بهذه النار وتبقيها مشتعلة؟، ولمصحة من؟، وبالتعاون مع من؟، ولأية أهداف حقيقية غير متلاعب بها تردُدها ببغاوية مفجعة وسائل الإعلام الأميركية الكبرى؟
الواقع أن هناك الكثير من الأمثلة الأخرى التي تشير إلى حدوث أحداث كبرى، أو مؤامرات خبيثة، كان لأميركا دور بارز في حدوثها، ولكنها تظل غامضة عصية على الكشف والمحاسبة في بلاد تدّعي أنها ديموقراطية، وبالتالي فيها إعلام حر، وقضاء مستقل، ومجتمع مدني نشط وقادر، أي شفافية في الحياة السياسية.
إن التاريخ والواقع يؤكدان كل ذلك، فأين تكمن المشكلة؟ هنا يتكاثر ضباب كثيف يحجب الرؤية. يشير إلى ذلك الضباب أقوال لساسة وكتاب.
فالرئيس الأميركي الثامن والعشرون وودرو ولسون، له قول شهير: «بعض كبار الأشخاص في حقلي التجارة والصناعة، لديهم خوف من أحدهم، خوف من شيء ما، إنهم يعرفون بأن هناك سلطة في مكان ما، بالغة التنظيم، شديدة الغموض، عظيمة القدرة على المراقبة، متشابكة ومتلاحمة، كاملة إلى ابعد الحدود وعميقة التفشّي، بحيث أن أولئك الأشخاص لو أرادوا نقد تلك السلطة فعلى أصواتهم وكلماتهم أن لا تتجاوز المسافة التي يقطعها هواء تنفُسهم».
لا يمكن أن يصدر خوف واتهام مثل هذا من رئيس دولة ما لم يكن وراء الأكمة ما وراءها. لقد صدر ما يشبه ذلك الاتهام من الرئيس الأميركي ايزنهاور عندما تجرأ وقال، بعد انتهاء فترة ولايته، بأن من يحكم أميركا هو ثالوث المال والصناعة والعسكر الغامض.
ماذا يعني كل ذلك؟ يعني إن كل قول أو تصريح أوخبر يصدر عن سلطة رسمية أميركية (وحاشا للّه أن يشمل ذلك الشعب الأميركي الطيب الصّريح الشفّاف) يجب أن يمحّص بألف سؤال وبتحليل دقيق عن بواعثه وفي من يقف وراءه ويستفيد منه.
التشابك المفروض المرعب العبثي المريض فيما بين شتّى سلطات نظام الحكم الأميركي وبين شتّى سلطات الحكم العربية وشتّى مؤسسات المجتمعات المدنية العربية يحتّم الأخذ بعين الاعتبار ذلك الظل الغامض الذي يستعمل العبقرية الأميركية وثمرات جهد شعبها لأهدافه الأنانية الطامعة في كل ما يملكه الآخرون من ثروات مادية ومعنوية.
1228 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع