ثقافة التجريح في معالجة الخلافات

                                           

                      د. علي محمد فخرو


ثقافة التجريح في معالجة الخلافات

دون لطم الخدود وجلد الذات، لنعترف بوجود قابلية مجتمعية ثقافية في بلاد العرب للتعامل مع خلافاتنا، مهما تكن تلك الخلافات، من خلال استعمال أساليب التزمُت وخطاب الفحش. يصدق ذلك على الكثير من الأفراد والتنظيمات والمذاهب الدينية والحكومات. كما يشاهده الإنسان في كل ساحات الأنشطة الحياتية: في السياسة، والدين، والرياضة، والفنون، والإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، وحتى في السجالات الفكرية البحتة.
ويتمثل ذلك الفحش في أشكال لا حصر لها من مثل التجريح، والكذب، والمبالغات، والمراوغة، وخلط الأمور، والتخوين، والتكفير، والجدل السفسطائي المتذاكي، وغيرها كثير.
ولقد راعني، عندما قمت بمقارنة قائمة ممارسة الفحش تلك، بقائمة ما اعتبرها الكاتب الفرنسي أندريه كونت سبو نفيل ممارسات للفضائل الكبرى، راعني التناقض التام المفجع بين القائمتين. لقد اعتبر ذلك المفكر الفرنسي أن الفضائل الكبرى تتمثل في ممارسة التأدُب، التعقل في الحكم على الأشياء، التعفف وضبط النفس، العدالة، الحنان والرحمة، البساطة والتواضع، التسامح ونقاء السريرة، الرقة وحب الآخر.
عند ذاك أدركت أن ممارسة الفحش في خلافاتنا بكل أساليبه تلك، هو في الحقيقة ممارسة للرذائل وللعلاقات الإنسانية الفجة الذميمة.
من يتابع المماحكات العبثية، وعلى الأخص الدينية والسياسية منها، في ما بين الأفراد على شبكات التواصل الاجتماعي بجميع أنواعها، من يتمعن في المبالغات والمغالطات والادعاءات والشتائم، التي يسمعها ويراها مبثوثة على الأخص على محطات التلفزيون الدينية المتكاثرة مؤخرا كالأرانب، من يقرأ افتتاحيات وكتابات أصحاب الأعمدة الصحافية المليئة بالحقد والكراهية وتمزيق لحمة المجتمعات والتخوين والتعابير البذيئة، وإشعال الحرائق الطائفية والعرقية والمناطقية، من يحلُل المشاحنات والصراعات والمؤامرات والتجييش المجنون المتعمد لكل قوى الغوغائية التي تزخر بها ساحات الإعلام الرسمي الحكومي العربي، من يفعل ذلك يستطيع أن يرى الكارثة الأخلاقية، والعهر الثقافي البليد، وممارسات الفحش المجنون في خلافاتنا، بكل أنواعها وفي كل الساحات والمناسبات، التي تعيشها المجتمعات العربية في هذه اللحظة البائسة من تاريخنا ووجودنا.
ظاهرة الفحش في القول تلك تتمظهر الآن بشكل لافت ومقلق في ساحتين:
ـ الساحة الأولى هي ساحة الصراعات والخلافات المذهبية الطائفية، التي أصبحت أكثر الأسلحة استعمالا في السياسة. هنا لا يقتصر الأمر على المحاججة التاريخية والفقهية، التي هي تتمة لمسيرة فقهية وسياسية طويلة عبر تاريخ الإسلام والمسلمين، والتي هي إلى حد ما مقبولة، طالما أنها تلتزم بالمجادلة الحسنة التي أمر الله رسوله الالتزام بها حتى مع المشركين. لكن الأمر لا يقف عند تلك الحدود، إذ سرعان ما يختلط الحابل بالنابل وتقحم في تلك النقاشات الفقهية المواقف السياسية، من إيران أو العراق أو لبنان أو اليمن أو المملكة العربية السعودية أو دول غربية، ويشار إلى الشيعي، فقط لأنه شيعي، بأنه عميل لهذه الجهة وإلى السني، فقط لأنه سني، بأنه عميل لتلك الجهة. ويبدأ السب والشتم بأفحش الأقوال لهذه الشخصية الإسلامية التاريخية أو تلك، ويخرج الموتى من قبورهم لمواجهة المحاكمات السفيهة المبتذلة.
إن ما يميز تلك المجادلات أنها لا تصل قط إلى نتيجة أو تراض أو تسامح، ويظلُ أبطالها وممارسوها يدورون في حلقة مفرغة، وتظل الأمة تنزف دما وتزداد تخلفا، ويصبح الفقه ورما ينخر في جسم الأمة.
ـ الساحة الثانية هي ساحة الإعلام العربي. لا يكفي أنه عبر العقدين الماضيين اشتكى الكثيرون من فقدان الإحساس بالقيم الأخلاقية والروحية، وضعف الالتزام بالثوابت الوطنية والقومية، حتى نفاجأ مؤخرا بقدرة بعض جهات الإعلام العربي الخليجي على التنافس في استعمال الفحش في القول، من أجل دعم هذه الممارسة السياسية أو تلك، لهذه الدولة الخليجية أو تلك.
لقد كنا نتصور أن إعلاما ينتمي لدول تنتمي إلى مجلس تعاون، وإلى حد ما وحدوي، واحد، سيأخذ بعين الاعتبار حقائق الترابط الوجودي بين دول المجلس، وبالتالي لن يسمح لنفسه أن ينجر إلى تأجيج نيران الخلافات في ما بين بعض دول المجلس، بدلا من أن يساعد على إخماد تلك النيران.
لكن غلب الطبع على التطبع. فما قلناه عن وجود قابلية مجتمعية ثقافية عربية للتعامل مع خلافاتنا بأساليب التزمت والفحش في القول تغلب وبنجاح مبهر، على مشاعر والتزامات العروبة من جهة، وعلى متطلبات العضوية في مجلس التعاون من جهة أخرى.
وهنا أيضا اختلط الحابل بالنابل، ففتحت دفاتر الماضي، ونبشت أسرار الحياة الشخصية، وأقحمت الصراعات الدولية، وفتحت ثغرات للإعلام الصهيوني الخبيث ليلعب أدواره الحقيرة. ومع الأسف فقد كان ذلك طبيعيا في أرض لم تعرف قط ولم تمارس قط الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية من الأخذ والعطاء، واحترام وجهة نظر الآخر، والأخذ بعين الاعتبار مصالح الكل. الممارسات المفجعة للخلافات في حقلي الدين والإعلام، بل وفي كل الحقول الحياتية الأخرى، تشير إلى الحاجة الملحة لإجراء مراجعات كبرى في الثقافة العربية وفي الفكر السياسي العربي. إن ثقافة لا تستطيع رسم طريق للحوار الهادئ الموضوعي العفيف الحسن في ما بين المنتمين لها، هي ثقافة تحتاج إلى تغييرات كبرى جذرية. فغياب الحوار، الذي يلتزم بالقيم الفاضلة، لن يقود إلا إلى الكوارث التي نعاني منها في حياتنا العربية.
كاتب بحريني

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1038 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع