د.ضرغام الدباغ
القرامطة بين الدين والسياسة
مثل العصر العباسي ولاسيما في عصره الوسيط، المرحلة الأكثر نشاطاً على الصعيد السياسي والثقافي / الفكري، فكانت مجمل المعطيات والعناصر التي بذرت بذرتها الأولى في العهد الراشدي، وتفاعلت في العصر الأموي، قد أينعت وحان قطاف ثمارها في العهد العباسي، ومضت فعالياتها تتكاثف على مسرح الحياة السياسية والثقافية، إذ ازدهرت بصفة عامة حركة الثقافة العربية ومنجزاتها في قفزة كبيرة إلى الأمام، وساهمت صناعة الورق سهولة ويسر انتقال الأفكار بين الأمصار العربية والإسلامية. كما راجت الترجمة من مختلف اللغات، السريانية واليونانية والفارسية والهندية وغيرها إلى اللغة العربية، فكانت العاصمة بغداد بؤرة لهذه الحركة ومركزاً لها، إلى جانب مدن أخرى كدمشق والقاهرة والبصرة والمدينة والقيروان وغيرها.
ومن البديهي أن تكون العوامل التي ساهمت في تحقيق النهضة العامة عديدة، فقد كانت عناك حركة واسعة وشاملة تمور ضمن الدولة والمجتمع العربي والإسلامي ذات تأثيرات متبادلة تتراكم وتتفاعل وتفرز نتائج وظواهر تقود في محصلتها النهائية إلى ما تم تحقيقه بعد القرن الهجري الأول، وبرزت آثاره واضحة بعد القرن الهجري الثاني، حيث دارت أحداث، وتبلورت أفكار سيكون لها أهميتها الخطيرة على حاضر ومستقبل الأمة العربية والإسلامية.
ومن ابرز أحداث المرحلة، مما له صلة ببحثنا هذا، انبثاق وتأسيس المذاهب الأربعة الرئيسية للبحث في علوم الشريعة. وهذه المذاهب هي : ـ
*المالكي: مؤسسه مالك بن انس:ولد في المدينة :715 M / 93 H
توفي في المدينة : 792 M / 179 H
* الحنفي: مؤسسه أبو حنيفة نعمان بن ثابت : ولد في الكوفة : 699 M 80 H :: توفي في السجن ببغداد: 767 M / 150 H
* الشافعي: مؤسسه محمد بن إدريس الشافعي: ولد في غزة: 767 M / 150 H :: توفي في الفسطاط : 820 M / 204 H
* الحنبلي: مؤسسة أحمد بن حنبل: ولد ببغداد: 780 M / 164 H
توفي ببغداد: 855 M / 241 H :
ولم تكن منجزات هؤلاء الأئمة سوى استجابة ونتائج :
ـ التوسع في الحديث والتفسير، قاد إلى تطور الفكر الديني وتكريس فقه العبادات.
ـ الحاجة إلى الاجتهاد، وطرحت نفسها من خلال التطبيق العملي للشريعة .
ـ احتدام الصراعات والجدل السياسي، وقاد إلى تطور الفكر السياسي.
وكانت المعطيات المادية الموضوعية قد بددت الهالة الرومانسية الثورية التي كانت تكلل هامة الخلافة الراشدية، أو لنقل إصابتها بوهن شديد. ولابد من التسليم والاعتراف أن الخلاف حول المناصب المهمة كان جوهر الصراعات وكذلك المال والمكاسب الاقتصادية والاجتماعية وأعطيات الناس(المكافئات) التي دخلت في حياة الناس وغدت عنصراً مهماً وبقوة غير مألوفة(الثراء والمال والنفوذ السياسي والاجتماعي)، وعنصراً أساسياً في حياة المجتمع.
وبسبب خلو الشريعة من نصوص تحدد أساليب الحكم والسلطة في استلامها وتداولها، فقد أفرزت التناقضات الملتهبة التي عمت المسرح السياسي العربي الإسلامي منذ انقضاء عهد الخلافة الراشدية، واندلاع نار ما أطلق عليه في الأدب السياسي العربي بالفتنة، أفرزت العديد من التوجهات السياسية بالدرجة الأولى، ومن جهة أخرى تبلورت المواقف والاتجاهات التي عمت الحركة الشيعية، فبعد الاستشهاد المأساوي للإمام الحسين بن علي وتنازل الإمام الحسن ومبايعته لمعاوية بن سفيان، تطلع أكثر من طرف من آل البيت لقيادة اتجاها أساسياً في فحواه يهدف إلى جعل حكم الدولة العربية الإسلامية في آل بيت الرسول (ص) وطرحوا أنفسهم بوصفهم أحق الناس في الخلافة والحكم .
بيد أن اتجاهات عديدة في المجتمع العربي الإسلامي لم تكن تشاطرهم هذا الرأي من جهة، ومن جهة أخرى، فأن هذه القاعدة تعرضت غير مرة إلى التبديل، فقد تصدت شخصيات من البيت العلوي (أبناء الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب) لقيادة العمل السياسي، فبعد الإمام الحسين، تصدى للعمل محمد بن الحنفية(أبن على بن أبي طالب من زوجته خولة الحنفية) في مذهب سياسي عرف بالكيسيانية، ومن بعده أبناؤه ومنهم هاشم الذي توفي ولم يخلف عقباً، فأورثها إلى أبناء عمومتهم من أبن عباس(من أبناء عمومتهم) في مذهب سياسي يختص بالإمامة عرف بابي هاشمية.
ولكن ذلك لم يحل دون المطالبة(الآن أو في مراحل متفاوتة)، مطالبة جهات أخرى علوية بتحديد الإمامة في عقب الإمام الحسن وأحفاده( إبراهيم وإدريس ويحي ومحمد ذو النفس الزكية) أبناء عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب الذين قاموا بتنظيم وقيادة حركات سياسية مسلحة في أرجاء مختلفة من العالم الإسلامي، كانت متفاوتة في درجة نجاحها أو إخفاقها، فبعضها صار إلى النجاح والبعض إلى الإخفاق، على أن النشاط السياسي العلوي لم يكن ليتوقف وكذلك مبدأ الإمامة الذي أحيل وحصر عند البعض من البيت العلويين الآن في أبناء الإمام الحسين الذين استمروا لفترة طويلة منقطعين للعبادة والزهد في الحكم والسياسة، عدا الإمام زيد بن علي بن زين العابدين بن الحسين الذي أسس مذهب الزبدية وخرج وقاد ثورة مسلحة، فيما استمرت الإمامة في عقب الإمام محمد الباقر إلى الإمام جعفر الصادق وهو الإمام السادس (765 – 699 M / 148 – 89 H )، وهنا ابتدأت مرحلة مهمة أخرى في تفرعات الإمامة للبيت العلوي.
توفي الإمام إسماعيل وهو النجل الكبر للإمام الصادق، في حياة والده عام 145 H، وقد خلف ولداً (محمد) فانتشرت أقاويل كثيرة منها، أن فئة من أتباع الإمام إسماعيل قالت بأنه لم يمت وأنه أختفي وسوف يظهر فيما بعد، وقالت فئة أخرى بإمامة ولده الأصغر محمد، فيما ذهب آخرون إلى إسناد الإمامة إلى موسى الكاظم أصغر أنجال الإمام الصادق، وقد شجع هذا التفاوت في الآراء، المزيد من الغموض والإيهام، ولكون الإمام جعفر الصادق كان على درجة عالية من الاقتدار في علوم الشريعة بحيث تمكن من وضع أسس مذهب ديني، وليس مجرد المطالبة السياسية كما كان الحال عليه حتى ذلك الوقت، وقد تمكن فيما بعد تلامذته من تطوير هذا المذهب وإضفاء المزيد عليه فيما أطلق عليه بالمذهب الجعفري الأثنا عشري، الذي تبلور أكثر فأكثر بعد وفاة الإمام الصادق (149 H).
وحسب رأي المستشرقين، وبعد جرد للأدب السياسي والفقهي للمذهب الجعفري، فإن هذا المذهب لم يتبلور كحركة شيعية، دينية / سياسية إلا بعد عام 287 H فالإمام الصادق فرق بين الإمامة والخلافة، فالأولى رئاسة دينية وروحية، أما الثانية فهي سلسلة دنيوية، وأكد الصادق أن ليس من الضروري على الإمام أن يتقلد السلطتين معاً إلا إذا كانت الظروف ملزمة لذلك. (1)
أما الإسماعيلية، وهنا يتركز معظم بحثنا، فقد مضوا في الدعاية لمذهبهم على نحو نشيط، وقالوا بأئمة ظاهرين وأئمة مستورين وتنقلوا في أكثر من مكان واتخذوا لأنفسهم أسماء سرية وبعثوا بالدعاة إلى الأمصار لتعبئة الناس خلف شعاراتهم في تنظيم سري يحتوي على مراتب في الدعوة ومراتبية في الانتماء إلى المذهب، وهو أمر غير مألوف في الإسلام وفي الأديان السماوية، وناضلوا ضد سلطة العباسيين بكثير من الغموض وتداخل الأسماء والألقاب والشعارات.
والإسماعيلية الذين اعتبروا أن الإمام إسماعيل هو الإمام السابع وعنده تنتهي الإمامة وتتفرع لأل إسماعيل. وقد لاقت دعوتهم انتشارا واسعاً في المشرق ثم انتقلت إلى شمال أفريقيا أيضاً، وأضفوا هالة من القدسية على مركز الإمامة، بل قالوا صراحة في بعض المصادر الإسماعيلية، بأن الإمامة ترتقي إلى مرتبة النبوة ذاتها ونسبوا إليه (إلى الإمام) المعجزات، وقال القاضي نعمان وهو أحد كبار علماء الإسماعيلية " الائمة هم حجج الله على خلقه وخلفاؤه في أرضه " (2).
ويذهب أحد الباحثين المعاصرين إلى القول أن الإمام الإسماعيلي (وهو يحاط بهالة كبيرة) المصدر الوحيد لتفسير المعنى الباطني للقرآن الذي يكمن وراء معانيه الظاهرة. كما استعان الإسماعيليون أيضاً بالفلسفة وعملوا بمبدأ التدرج في الدعوة لما له من إغراء في نفوس التباع للنظام السري الغامض المؤلف من تسع درجات في التبليغ، ويؤخذ على كل مستجيب للدعوة ميثاق غليظ يرتبط بالولاء المطلق للإمام الإسماعيلي (3) ثم يضيف كاتب إسماعيلي معاصر الكثير من الوضوح والتحديد قائلاً: " إن الإسماعيلية والقرامطة شيء واحد وهي حركة باطنية تعتمد على التأويل ". (4)
وخلاصة أراء الإسماعيلية (ونحن نستطرد في ذلك لعلاقة الأمر بالجذر النظري للقرامطة) على الصعيد السياسي، هو أن تراث الرسول(ص) والرسالة السماوية والإسلام، أنما هو تراث ينتقل بالتوارث إلى أسرة الرسول ووفق تأويلاتهم فهي ميراثاً خاصاً لا يليها حتى يوم القيامة أحد سوى آل البيت، في نظرية سياسية تشبه نظرية الحق الإلهي The Divine Right (بل وتتجاوزها في الصفات الشخصية للإمام) في الملكية المطلقة والتي تزعم أن الملوك هم نواب الله على الأرض.(5)
وكانت الحياة السياسية العربية الإسلامية قد شهدت في باكر عهد الخلافة حركات لها طابع سياسي أولاً، أي أنها قد تحددت أساساً وفق حركة مطلبية / سياسية، ثم تطور الأمر حيث اتخذت لها مناهج إيديولوجية وقد ترسخت بعض هذه الحركات وغدا لها جذور عميقة في المجتمع العربي الإسلامي سواء كانت حركات مسلحة أو غير مسلحة، وبصرف النظر الثراء النظري لبعض تلك الحركات السياسية فأنها لم تطرح نفسها كفرق دينية مذهبية، ومن تلك الحركات على سبيل المثال لا الحصر:
* الخوارج: وهم الذين غادروا معسكر الخليفة الراشدي الرابع علي بن أبي طالب احتجاجاً على قبوله مبدأ التحكيم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان وهم بذلك" أول حركة احتجاج على التضحية بالمبادئ في سبيل الغايات " (6)
* المعتزلة: وهي حركة العدل والتوحيد، تأسست بعد عام 110 H، وهي وإن اقتبست أهدافها من الشريعة، إلا أنها كانت حركة سياسية حاولت صياغة مبادئها من الشريعة، إلا أنها كانت حركة سياسية حاولت صياغة مبادئها السياسية بما ينسجم مع الشريعة. وبرغم أن عناصرها كانوا من المذاهب السنية(شافعية وحنفية غالباً)، إلا أنهم لم يطرحوا أنفسهم كفرقة مذهبية، بل كحزب سياسي يقيم التحالفات والائتلافات السياسية وتوصل عناصره إلى السلطة وكانوا مؤثرين في عهد المأمون والمعتصم والواثق.
* المرجئة: في خضم الصراعات السياسية والتي ليس نادراً ما اتخذت طابع العنف المسلح بين فرق سياسية وحركات كالخوارج وفئات آل البيت(هاشميين وعلويين) والحزب السفياني الذي أنتهي إلى تأسيس الخلافة الأموية، وإذ مثل المعتزلة اليسار الديمقراطي الثوري، أتخذ المرجئة موقفاً سياسياً يتسم بالمرونة حيناً والمعارضة حيناً ولكنه لم يكن تياراً مذهبياً دينياً.
وقد أختلط على المؤرخين والكتاب، ولدى جمهور واسع من المثقفين، إشكالية ما برحت تطرح نفسها سواء على حركة الفكر أو العمل السياسي، وتتمثل هذه الإشكالية في التميز بين الحركة السياسية والمذاهب والفرق الدينية، ومع أن أقامة خطوط فاصلة واضحة وثابتة، هو أمر ليس من السهولة أقامته في مباحث الفكر السياسي الإسلامي، ويلاحظ دارسوا التاريخ أن حركات سياسية كثيرة تأرجحت بين كونها مذهب ديني يعني بتفسير الشريعة ونظم العبادات بالدرجة الأولى.
ولكن كثيراً من هذه الحركات حاولت أن تجد قناة مشتركة مع الشريعة كواسطة للعمل السياسي، أو كواجهة له، باعتبار أن الدين هو الشأن المهيمن على عقول وقلوب الناس، لاسيما في تلك الحقب، وهي بالتالي حركات سياسية بالدرجة الأولى وجدت في شعارات الشريعة، العدل، المساواة، الحرية، شعارات صالحة للعمل الاجتماعي.
فالخوارج والمعتزلة والمرجئة والقرامطة والزنج وغيرها، هي حركات سياسية في المقام الأول حاولت(بهذه الدرجة أو تلك من النجاح) تطويع أفكار من الشريعة، أو الشريعة كلها للأغراض السياسية. ومن البديهي أن يلجأ الكثير من المغامرين وأصحاب الطموح السياسي إلى تغليف مطامحهم السياسية والقيادية بشعارات وواجهات دينية، عاطفية أو عقلية من اجل تحقيق التفاف جماهيري حول حركتهم. وكثير من هذه الحركات اتخذت من آل البيت واجهة عاطفية لشعاراتهم السياسية، والعديد منها كانت حركات انتهازية في جوهرها، أعلن آل البيت العلويون براءتهم منها. وربما أن هذا الأمر جار حتى في عصرنا الحالي مع اختلاف طفيف أو كبير في مصطلحات القاموس السياسي للعصر
ويبيح لنا التعقيد والغموض الشديد الذي يكتنف حركة القرامطة هذه المقدمة الطويلة (نسبياً) لغرض إيضاح المقدمات السياسية والتاريخية للموقف السياسي والثقافي بخطوطه العريضة، ليكون مدخلاً إلى دراسة معاصرة لحركة القرامطة. كما لابد لنا بادئ ذي بدء أن نثبت حقيقة موضوعية، وهي أن حركة القرامطة لم يتركوا من بعدهم تراثأ فكرياً سياسياً، " وبالتالي فأن معظم الدراسات هي مستمدة من المعلومات المتناثرة في مصادر سنية وشيعية وهي مصادر معادية للقرامطة " (7). لذلك، فأن الفرصة قائمة دائماً لمحاولات علمية لاستنباط الحقائق المنطقية في قراءة جديدة للمعطيات والوقائع.
ومن اجل تثبيت حقائق مؤكدة، لتكون قاعدة انطلاق راسخة، نقول ابتداء أن تسمية القرامطة ذاتها هي موضع خلاف بين المؤرخين، ولكن على الأرجح، فأن حمدان بن الأشعث، وهو فلاح أو حمّال من عامة الناس لقب بالقرمط لاحمرار في عينيه، ومن ثم نالت حركته هذه التسمية، ولكنهم (القرامطة) كانوا يفضلون أن تسمى حركتهم: " المؤمنون المنصورون بالله والناصرون لدينه والمصلحون في الأرض ".(8)
ويبدو أن الثورة كانت تمور وتجيش في صدر حمدان بن الأشعث قرمط، لحالة الفقر التي كان يعيشها، والفساد في الأوضاع السياسية والاقتصادية التي كانت تسود الخلافة العباسية في تلك المرحلة. وكانت تجربة الزنج بدروسها حاضرة في الأذهان، وقد أدرك حمدان وقرر أن ما ينقص الثورة هو حسن الأعداد والتخطيط والدعاية، وجهاز منظم يقود العمل وعقيدة دينية/ سياسية وقد صادف ووجد ما تاقت إليه نفسه، عندما التقى بالحسن الأهوازي، وهو من دعاة الإسماعيلية البارزين سنة 264 H الذي " أستطاع أقناع حمدان بعد ساعة واحدة من لقائهما على الطريق " . (9)، بالعمل معاً لإزالة الأوضاع السيئة.
ولم يكن مهماً في تلك اللحظة لحمدان أن يكون العمل الثوري هذا تحت شعارات الإسماعيلية أو غيرهم، فالمسألة الرئيسة (التناقض الرئيسي) التي كان حمدان يدعو إليه: هو الظلم الاجتماعي المسلط عليهم، وذلك وحده يفسر موقف وموافقة حمدان بن الأشعث السريعة (خلال ساعة واحدة) على العمل ضمن الدعوة الإسماعيلية والعمل والألتزام بمبادئها, وقد لاقت تلك المبادئ هوىً في قلب قرمط فحركت جوارحه، وكان لها طابعها وسماتها التي تقترب من المبادئ الإسماعيلية ولكنها تختلف عنها في فقرات أخرى.
ومن تلك، كان النظام الذي أقامة القرامطة لاحقاً في المناطق التي كانت تحت هيمنتهم، أشبه بالنظام الرئاسي الجمهوري، ولم تكن تلك من مبادئ الإسماعيلية، مما يدفعنا إلى قناعة مفادها: أن القرامطة هي حركة سياسية انبثقت أو التقت مع الدعوة الإسماعيلية وعملت تحت واجهتها، ولكن ما لبثت أن صار لها مبادئها الخاصة، فابتعدت قليلاً أو كثيراً عن التيار الإسماعيلي كمذهب، وتخلل العمل السياسي لهذه الحركة شيء من الانتهازية شأنها شأن الحركات السياسية الأخرى، حيث يتعاظم فيها دور الزعيم وقائد الحركة بسبب شدة وعمق التأثيرات القبلية، وتتضاءل فيها ديمقراطية العمل السياسي والنضالي ودور الجماهير ومناضلي الحركة في القواعد.
وبهذا المعنى، فإن تحليل هذه المعطيات تقودنا إلى القول : أن كل قرمطي هو إسماعيلي، ولكن ليس بالضرورة أن يكون كل إسماعيلي قرمطي. فالقرامطة مثلوا الجناح العسكري للإسماعيلية في مرحلة معينة وفي منطقة معينة(العراق والبحرين والبوادي على وجه الدقة) فيما كانت الإسماعيلية تحمل أسماء أخرى في أماكن متفرقة من مشرق الدولة العباسية أو شمال أفريقيا، وبمرور الوقت، تكوّن الموقف السياسي والنظري والإيماني للقرامطة نتيجة المصالح والهواء والتنافس على النفوذ السياسي فاختلفوا مع الإسماعيلية في قضايا مبدأية رئيسية وثانوية وبلغ خلافهم درجة النزاع المسلح والحرب.
ومتأثرين بتجربة ثورة الزنج، فقد أظهر القرامطة إعجابهم بالتنظيم السري والميل إلى المبالغة بالتكتم، وتعلموا ذلك من الإسماعيلية، فتأريخهم، القرامطة والإسماعيلية على حد السواء، يحفل بالأسماء السرية والرموز والألغاز والسماء المزدوجة. وفي دراسة حديثة لأحد مؤرخي الإسماعيلية يعترف بأن تاريخ الحركة الإسماعيلية والقرمطية ينطوي على أسرار غامضة والتغيرات المفاجئة والتنافس الدموي على المراتب القيادية والفتن والدسائس والمؤامرات، وإلا بماذا نفسر حروب الأمراء البويهيين ضد القرامطة وكلاهما من الشيعة، وصراع الفاطمين مع القرامطة وكلاهما من فرع واحد من الشيعة، وهي الإسماعيلية، فهو إذن بدرجة ما، صراع مصالح ومكاسب ونفوذ سياسي، وإلا كيف يميل معز الدولة البويهي وهو شيعي زيدي إلى الأتراك السنة الأحناف.(10)
متأثرين مرة أخرى بتجربة ثورة الزنج، آثر حمدان بن الأشعث (قرمط) التريث في إعلان الثورة لحين استكمال استعدادات لابد منها، وتلك ملاحظة مهمة، ويبدو أنها قد استفادت من تجربة ثورة الزنج، فأقامت صلات وثيقة بأحدي الواجهات الدينية(الإسماعيلية) وهو ما لم يقدم عليه الزنج كما هو معروف، لذلك ظل ادعائهم بالصلة بالبيت العلوي مسألة لا قيمة واقعية لها، ولم تحقق لهم دعماً جماهيرياً، والقرامطة أدركوا ذلك ويلاحظ أن أقامتهم الصلة بالحركة الإسماعيلية، واستجابة حمدان السريعة لهم ليست سوى تعبير واضح عن ذلك.
وبرغم الملامح المشتركة لثورة الزنج والقرامطة، حيث تنطوي كلتا الحركتين على مضامين اجتماعية، واللجوء إلى الكفاح المسلح كأسلوب للنضال السياسي، إلا أن القرامطة(حيث يتركز بحثنا) لم يظهروا إدراكاً عالياً لضرورة إقامة التحالفات السياسية، وبالذات مع حركة الزنج، وتوفر الجوانب المشتركة العديدة، إلا أن ومساعي العمل المشترك لم تفلح في تحقيق التعاون المشترك مع الزنج الذين كانوا أقوياء في تلك الفترة(264 H ) فرفضوا ذلك العرض، وفيما بعد، وعندما أشتد عود حركة القرامطة، وتعرض الزنج إلى الضعف تحت تأثير الضربات التي كالها لهم جيش الخلافة العباسية، عرض قائد الزنج التحالف بصرف النظر عن الفوائد العسكرية والسياسية. وسرعان ما تهاوت ثورة الزنج على يد قوات الخلافة وانتهت بمقتل قائدها عام 270 H، وتلاشت نهائياً.(11)
ورغم ندرة المصادر الأصلية لحركة القرامطة، إلا أن الدلائل والمعطيات تشير إلى وضوح الجوهر الاجتماعي للحركة بما يمكننا أن نطلق عليه وصف: " حركة كادحين فقراء " أو واحدة من ثورات الفلاحين التي تزخر بها كتب التاريخ بصرف النظر عن الشعارات والواجهات الدينية التي رفعتها الحركة. فمن المؤكد أن قائد الثورة قد أدرك أن لا سبيل إلى تعبئة جماهير شعبية فقيرة خلفه إلا إذا رافقتها شعارات دينية عاطفية تستثير حماسة الفلاحين الفقراء، وباعتبار أن الجهل والأمية وضعف الوعي الاجتماعي يسود بين جماهير الفلاحين عادة، وأدراك أن الدافع الاجتماعي والطبقي لوحده سوف يفقد الحركة جماهير غفيرة، وشرعية نضالية دينية، وإن واجهة آل البيت بصرف النظر عن النوايا الحقيقية، تمثل مسألة صالحة للإثارة الجماهيرية.
وقد أنطوى البرنامج السياسي / الاجتماعي للثورة، تقليدياً على وعود بتحسين مستوى حياة ومعيشة الفلاحين وفقراء الريف والبدو من عرب أو موالي (مسلمين غير عرب)، وقد مرت الحركة بمراحل كانت الشحنة الاجتماعية عالية فيها طغت على الجانب الديني حتى قيل : " أنها ثورة اجتماعية باسم الدين " (12) ولكننا نلاحظ أن ذلك لم يكن كذلك بصفة مستمرة، فقد حدث أن طغى الجانب الديني في الدعاية والتأثير على الجانب الاجتماعي حتى ليمكن اعتبارها ثورة دينية بشعارات اجتماعية أو هكذا اعتبرها البعض، أو ثورة اجتماعية بشعارات دينية، والحق فأن هوية الحركة الحقيقية لم تترسخ بسبب هذا التراوح بين الدين والسياسة الذي غالباً ما تحول إلى تناقض متفجر مسخ هوية الحركة.
وليس بوسعنا الآن أن نطالب الحركة أن تتقدم ببرنامج ثورة تفصيلي ينطوي على مناهج اجتماعية/ سياسية عميقة أو واضحة، فذلك يفوق قدرة الحركة ولاسيما في مراحلها الابتدائية، وبسبب من حقيقة أن ثورات الريف والفلاحين قد تكون قاسية وصلبة، إلا أنها تمتاز بهشاشة نظرية، بيد أنه يمكننا القول أن حمدان قرمط " وعد جماهير الثورة من الفلاحين بامتلاك العالم دون منازع " (13)، وبذلك كرست الحركة نفسها تياراً سياسياً / اجتماعيا، بالإضافة إلى الأمر الديني والمذهبي، ثم انه طالب عناصره بدفع الضرائب، ثم أخيراً بوضع كل ما يملكون بين يديه، كل ما لديهم لا حاجة لهم به، لأن الأرض بأسرها ستكون لهم.
وقد مارس القرامطة فعلاً ضروباً من هذه الأفكار في(مدينتهم الفاضلة) إذ ابتنوا عاصمة لهم عام 277 H أسموها دار الهجرة، وتلك أشارة دينية واضحة المعنى، قرب الكوفة، مثلت استعراضا لقوتهم من خلال تجمع أعداد غفيرة منهم في مكان واحد وحصنوها وفرضوا فيها انضباطا عالياً، وكان لكل ذلك معناه المهيب المخيف بين أوساط الفلاحين البسطاء.(14)
ولكن سرعان ما دب التناقض بين الأفكار الاجتماعية الثورية والإصلاحية وبين نصوص دينية / مذهبية إسماعيلية أعلنوا التزامهم بها من خلال الإسماعيلية المتشددة. كاتب إسماعيلي معاصر، أن النظام القرمطي الإسماعيلي كان يهدف إلى إقامة نظام جمهوري شوروي قائم من مجلس خاضع للانتخاب الجماعي بدلاً عن النظام الملكي الوراثي وإلغاء الملكيات الفردية واحتكار الدولة للتجارة الخارجية. (15)، ولكن هذه الأفكار الناضجة نسبياً، تتناقض بصورة واضحة مع انتشار الكثير من الخرافات التي تدل على الجهل وتنتقص من قيمة الحركة سياسياً وفكرياً سواء تلك التي تقول بالقدرة على إتيان المعجزات أو التمتع بقدرات خارقة كالصعود إلى السماء، وهي أخبار كان الشيعة الإسماعيلية يتداولونها بكثرة. (16)
وبسبب من هذا التذبذب والتأرجح بين الأهداف الاجتماعية الثورية والتي سعى القرامطة حقاً من أجلها، وبذلك نالوا أهمية تاريخية بوصفها حركة اجتماعية، وبين العقائد الدينية للشيعة الإسماعيلية التي تبالغ في الغيبيات والتأويلات الباطنية على نحو يصعب القبول به، أحدث هذا التناقض شرخاً بين الفكر والممارسة، وهذه تدفع إلى النهاية المحتومة لكل حركة سياسية تعاني انفصالا بين النظرية والعمل، بين الفكر والممارسة، فتضطر تلك الحركة إن عاجلاً أو آجلاً إلى اتخاذ مواقف سياسية نظرية أو مواقف عملية انتهازية، تحط من مكانتها أو تدفع بالحركة إلى نهايتها المحتومة.
فمن جهة كان على القرامطة باعتبار أنهم قبلوا الالتحاق بالمذهب الإسماعيلي القبول بعقائدهم الدينية / المذهبية، فالإسماعيلية لا يكتفون بالقول بعصمة الأئمة كسائر المذاهب الشيعية، بل أنهم يبالغون في مكانة الإمام بما يفوق مكانة الأنبياء، ثم أنهم قالوا: " أن روح الله تحل في أجسادهم فتعصمهم من الزلل وترشدهم إلى صالح العمل، ومبدأ الحلول كان سائداً لدى الإسماعيلية " كما " قال الإسماعيلية بتأويل معاني القرآن التي قالوا أن لها معنى ظاهري ومعنى باطني، والمعنى الباطني لا يعلمه إلا الأئمة ورجال المذهب الكبار " (17) وبذلك حصروا مبدأ التأويل والاجتهاد لدى نفر قليل من أفراد المذهب، وعلى الأشخاص العاديين(سائر الناس) التنفيذ فحسب.
وبتقديرنا، أن أمراً مهماً غاب عن بال الكثير من المؤرخين، قد يمثل السبب الجوهري في اشتداد التناقضات بين زعامات القرامطة فيما بينهم وبين القرامطة ومركز القيادة الإسماعيلي في السلمية(سورية) أو في شمال أفريقيا ومصر لاحقاً، الخلاف حول تفسير قضايا ونصوص دينية. ومع أن حمدان الأشعث (قرمط) كان موافقاً على الخطوط العامة للمذهب الشيعي الإسماعيلي، بما في ذلك الاتجاهات المغالية والباطنية ولكن المحتوى الاجتماعي لحركة القرامطة كان أكبر من التوجهات الإسماعيلية، وعلى الأرجح فأن حمدان الأشعث قرمط، كان خياله يحتضن هدفاً طالما دار في مخيلة قادة ثورات الفلاحين والفقراء والعبيد، ألا وهو إقامة يتوبيا Utopie(مشروع خيالي غير قابل للتحقيق)، جمهورية كادحين ينعدم فيها الظلم، ولكن دون أن يتوفر لديهم الأسس النظرية والفلسفية لهذا الهدف السامي النبيل، والتاريخ يشير لنا أن هذه الثورات كانت تتعرض للسحق بلا هوادة، ليس فقط من القوة الغاشمة التي يستخدمها الحكام الطغاة فحسب، بل ولضعف الأعداد السياسي والعقائدي والتكوين النظري لهذه الحركات، ولربما لأخطاء تكتيكية فادحة رافقت هذه العملية المعقدة (الثورة) سواء في أعداد صفوفها أو في تحالفاتها، أو في أساليب أدارتها للصراع السياسي والعسكري مع خصومها.
ولا بد أن القرامطة قد اختلفوا مع القيادة الإسماعيلية حول دولة المحرومين، وقد لاحظنا ميلهم إلى استخدام سبل ديمقراطية، وأيضاً لدينا دلائل تشير إلى خلافات حول تقاسم الإيرادات المالية (18) ويعترف كاتب إسماعيلي، أن الأموال الطائلة والمجوهرات كانت ترد إلى مقر القيادة الإسماعيلية في السلمية، وإن قصور الأئمة الإسماعيلية كانت باذخة الترف وتضم الكثير من العبيد والخدم. (19)
على أن هاجساً ثالثاً دخل حقل ألغام التناقضات بين قرامطة العراق والإسماعيلية من جهة، وبين أقطاب قرامطة العراق أنفسهم بالإضافة إلى الخلافات في التفسيرات المذهبية والعقائدية، والمال كان العامل الجديد الذي تمثل في هاجس رغبة التوسع، وهذا الهاجس بالذات سيوقع الكثير من التناقضات الداخلية والخارجية، فالرغبة في أقامة دولة كبيرة قوية ذات مركز سياسي، سيعقبها الرغبة في تقليص الصلات مع المركز القيادي الموجه في السلمية، والتقاضي عما كان يعد محرماً في حكم المبادئ، وهذه قادت إلى صراعات داخلية بين القرامطة.(20)، أسفرت عن مصرع مؤسس الحركة فأستلم القيادة من بعده صديقه وصهره عبدان الذي كان يتمتع بقدرات ثقافية مهمة، ولكن ما لبث أن اغتيل عبدان هو الآخر في خضم مسلسل لا ينتهي من الصراعات على المركز القيادي للحركة.(21)
وباستلام آل مهرويه قيادة القرامطة في العراق، زكرويه ويحي وأهل بيتهم، سعوا إلى إعادة ترتيب الصلات الخارجية ومع مقر الدعوة الإسماعيلية في السلمية في المقام الأول، بيد أن هذه المساعي لم تسفر عن نتائج جيدة فقد أدرك قادة الدعوة الإسماعيلية في المركز القيادي، أن قرامطة العراق قد مضوا بعيداً في تحديهم وخروجهم عن الطاعة والالتزام، فلم يعد بالإمكان انتظامهم ضمن علاقة تستلزم المركزية، وهنا هاجم آل زكرويه مقر الدعوة في السلمية واستباحوا قصر الأئمة في الإسماعيلية فقتلوا الرجال والأطفال والنساء والعبيد والخدم ونهبوا محتوياته من الأموال والمجوهرات..!!
وأظهر القرامطة، وقد ظل أسم الحركة كذلك حتى بعد مقتل حمدان قرمط (22)، أظهروا الكثير من التوجهات المتنافرة والمتناقضة في معانيها، وتدل على عدم الاتساق، وهذا بديهي في ظل غياب النظرية الثورية التي لا بد أن تصاحب العمل الثوري، وإلا فأن الأمر مهدد في أي لحظة أو ظرف لأن تتحول العملية الثورية إلى إرهاب وإلى ضرب من ضروب العنف العشوائي غير المنظم وغير المبرر.
وبالفعل فقد بالغ القرامطة باستخدام العنف. فبالإضافة إلى سلبهم ونهبهم لدار الإمامة في السلمية وقتلهم آل البيت الإسماعيلي وهاجموا قوافل الحجاج وقتلوهم وبرروا ذلك، بإظهار عجز الدولة عن حماية طرق الحج، ثم أنهم دمروا آبار المياه على طريق الحج، وكانوا يهاجمون المدن(هيت والكوفة مثلاً) ويحاصرون أخرى(حمص ودمشق مثلاً، ويقتلون الناس وينهبونهم دون تميز، مما دفع الناس للقتال ضدهم في المدن كما حدث في مدينة الكوفة، وتحولهم من جماهير مؤيدة لهم تمثل حزام الأمان، ضد هجمات السلطة، إلى اشتداد التذمر في صفوف الجماهير وتحولهم إلى مواقف معادية. ويكتب أحد مؤرخي الإسماعيلية يقوله: أن عناصر القرامطة كانت تجوب بادية الشام والعراق مهاجمين للمدن والقرى يبثون الرعب والدمار فيها في " معارك رهيبة سفكت فيها دماء بريئة وقتل الناس وشردوا في العراء ".(23)
وبينما كان القرامطة على وفاق نسبي مع الأخشيدين خصوم الفاطميين في مصر قبل استيلائهم عليها، إذ كانوا قد اتفقوا معهم إلى دفع مبلغ نقدي مقابل ضمان مرور التجارة عبر بوادي شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام المتجه إلى مصر. (24)
وفي التنافس على بلاد الشام، دارت معارك دموية هائلة بين القرامطة ودولة الفاطمين، مما يدل على هزال الموقف النظري والوعي السياسي، وكانت نتائج الحروب والمعارك متفاوتة وقد أستطاع القرامطة تهديد الأمن في بلاد الشام بشكل جدي، بل واحتلوا بعضاً من المدن السورية لأوقات متفاوتة وكاد القرامطة أن يحتلوا القاهرة نفسها عام 361 H ، وأعاد القرامطة الكرة عام 363 H فهزموا مرة أخرى، ولم تكف مطلقاً الصراعات بين القرامطة والفاطميين.(25)
ويصف مؤرخ عربي معاصر حروب القرامطة مع الفاطنين بأنها دلالة على انتهازيتهم وتلاعبهم بالشعارات السياسية, وحيث أنهم لم يتمكنوا من اللقاء مع الفاطميين مع أنهم ينحدرون من جذور عقائدية مشتركة (الشيعة الإسماعيلية) وميلهم إلى الفوضى في العلاقات والتناقض في أفعالهم وشعاراتهم(26) في حين يقلل مؤرخ آخر من أهمية انتماء القرامطة المذهبي/ الديني قائلاً: " وسواء كانت الدعوة الإسماعيلية احتوت الثورة الاجتماعية في العراق، أو أن الثورة الاجتماعية قد استترت بالدعوة الشيعية الإسماعيلية لخدمة أغراضها، فالثابت أن اللقاء بين الدعوة والثورة قد تم وأسفر عن النجاح في إشعال فتيل الثورة " (27)
وبتقديرنا، فأن حمدان بن الأشعث، وهو قائد ثورة حقيقي، أراد أن يستفيد من تجربة ثورة الزنج الذين افتقدوا الشعار والخطاب السياسي لثورتهم، وأن يمنح حركته واجهة دينية ضرورية، وسط جماهير بسيطة كادحة محرومة، لا تمتلك وعيا اجتماعياً أو طبقياً، متعلقة بالدين عاطفياً، وبالطبع قد فات حمدان والإنسان الكادح البسيط، أن عملية الثورة وقوانينها أعقد بكثير من هذه التطورات البسيطة التي قد تنجح في تفجير ثورة، ولكنه سيفشل بالتأكيد في قيادتها إلى أهدافها بنجاح.
وقائد الثورة لم يكن يمتلك سوى الإخلاص والحماس لقضية الثورة ولجموع الكادحين الذين تولى قيادتهم، وليس أدل على ما يعزز هذا الرأي(سير الثورة نحو أهدافها)، هو حقيقة أن السلطة العباسية بصفة عامة (رغم بعض الصحوات الاستثنائية)، كانت في حالة تراجع مستمر سياسياً وعسكرياً، وتمثل الضعف بغياب الجيش العباسي القوي، وهيمنة الجنود والضباط البويهين على السلطة، وكانت ثورة الزنج قد أدت إلى ضعف عام وفوضى وتراجع الزراعة بسبب تعدد أنظمة الأرض وتحكم الإقطاع، الأمر الذي زاد في شقاء الفلاحين، فيما لم يكن فقراء المدن بأفضل حالاً. ولم تستطع الثورة أن تستوعب هذه التناقضات لصالحها فيما ارتكبت الحركة الأخطاء العديدة، لاسيما بعد وفاة أو اغتيال حمدان الأشعث(قرمط) وعبدان، إذ تنازع قرامطة العراق فيما بينهم وخاضوا غمار صراعات ومعارك داخلية (28) بالإضافة إلى تراجع في الأداء السياسي للحركة.
وكان حمدان بن الأشعث قد أرسل صديقه أبو سعيد الجنابي إلى البحرين لتأسيس قواعد الحركة هناك وأكتسب ذات الاسم(قرامطة البحرين) وطرحت شعارات متشابهة، ولبعد البحرين عن مقر الخلافة، فقد تمتع قرامطة البحرين بالأمان نسبياً، وقد استطاعوا مد نفوذهم إلى أرجاء عديدة من سواحل الخليج العربي. وبسبب ضعف المواجهات العسكرية والسياسية، نجح الجنابي من إقامة دولة قرمطية ديمقراطية تدعو إلى المساواة والمشاركة في الثورة، ولكن حتى في ظل الديمقراطية، فقد كان هناك في مجتمعهم عبيد. وفي الواقع فأنها كانت تجربة في مجتمع صغير وبحياة اقتصادية بسيطة جداً. (29)
ونجد تقيماً آخر لحركة القرامطة في مصدر مهم من مصادر الاستشراق ونعني بذلك الموسوعة المهمة التي صدرت عن جامعة لايبزج بألمانيا (تاريخ العرب / بأربعة أجزاء)، أن " حمدان (قرمط) أراد استغلال القوة السياسية للإسلام لتحسين الحالة المعاشية لجماهير الفلاحين الفقراء" وهو بذلك يذهب تقريباً إلى ما ذكرناه ثم يستطرد المصدر في مبادئ القرامطة " وكان مبدأ الحكم لدى القرامطة هو ضرب من مبادئ تعاليم الحقوق المدنية(المساواة ـ المشاعية) في شؤون الدولة.
وفي الواقع إنها كانت تضم مقدمات لاقتصاد بدائي صغير ومعزول وتهدف إلى أعادة حالة ما قبل القطاع. وفي هذه الدولة كانت المساعي باتجاه عدالة اجتماعية ومساواة في التملك لجميع المواطنين. وكانت مرتهنة بتصاعد الضرائب وتزايدها، وكذلك مع امتلاك العبيد واستعادة لعبودية جماعية، فقد كان يعمل في الزراعة ثلاثون ألف من عبيد الدولة. وتشير تقارير إسلامية أن القيادة في البلاد كانت بإدارة مجلس من ستة أشخاص(مجلس جمهوري) وقد وجدت نقود سكت وهي تحمل أسم هذه اللجنة " (30)
فثورة القرامطة كانت إذن تخوض نضالها الطبقي والسياسي دون دليل أيديولوجي، فهي ضرب من ثورات الفلاحين وكادحي الريف التي ما فتئت تتوالى عبر التاريخ، تستحق الاحترام لصدقها وعدالتها، رغم تخبطها وفشلها، فهي دليل على عدم استكانة الإنسان ورفضه الرضوخ للظلم والجور، وهي تجربة ينبغي النظر إليها دون مبالغة ودراستها على هذا الأساس. نعم، هي حركة وثورة شعبية ذات ملامح اشتراكية، ولكن الاشتراكية ليست فقط أغناء الفقراء وإفقار الأغنياء، فهذه نظرة لا تخلو من سذاجة. ولسنا نطالب القرامطة إقامة تجربة اشتراكية بمعاني عصرنا، ففي ذلك تجني على الثورة وجهل منا بحقائق وقوانين تطور التاريخ. وبنفس المعنى لا يمكننا أن نلوم حمدان بن الأشعث كثيراً لاعتماده الشيعة الإسماعيلية، لحاجته إلى الإسناد النظري والسياسي والدعائي ولمكانتهم العاطفية بين الجماهير. وبالطبع فقد فات قرمط أن الهبات العاطفية سريعة الاشتعال ولكنها سريعة الخمود أيضاً، وأن الاعتماد على الخرافات والجهل سلاح ذو حدين، حيث يمكن تحقيق مكاسب سريعة، ولكن حبل الجهل قصير مهما تأخر، وأن الاعتماد على عاطفة الجماهير دون وعيها رهان خاسر.
ومن تلك الفعاليات التي عادت عليهم بالضرر مهاجمة قرامطة القطيف ( وهم فرع من قرامطة العراق)، لمكة ونهبهم الحجر السود من الكعبة عام 316 H ، وتختلف المصادر حول إعادته بعد 22 عاماً، فتقول بعض المصادر أنه أعيد مقابل مال، ومصادر أخرى تقول أنه أعيد بدون مقابل. (31) كما وأن فعاليات عديدة لهم، كان فيها ميل شديد إلى الإرهاب والقتل والسلب والنهب، وكانت تلك من الثغرات التي عمل خصومهم من خلالها لعزلهم عن الجماهير.
ورغم أن هناك الكثير من الحلقات المهمة مفقودة في مصادر التاريخ التي تدل على مفردات العلاقة بين القرامطة والإسماعيلية، إلا أنه من المؤكد أن تلك العلاقة لم تكن على ما يرام، وكذلك تدل المعلومات على صراعات وخلافات داخلية بين أقطاب الحركة فليس هناك سوى النزر اليسير من المعلومات عن صلات أقطاب القرامطة فيما بينهم ومع قيادة الحركة الإسماعيلية ومع الفاطميين المعاصرة لهم في شمال أفريقيا ومصر، وكذلك مع ثورة الزنج في العراق التي كانت معاصرو لدعوتهم. وتشير تلك المصادر إلى الغموض الذي اكتنف موت(مقتل) حمدان مؤسس الحركة، واغتيال الرئيس الثاني، عبيدان صديق حمدان وصهره ورفيق نضاله، وفيض من الدسائس والفتن والمكائد والمؤامرات والاغتيالات.
وهناك معلومات عن ميل الحركة إلى المبالغة في جباية الأموال وفرض الضرائب ومنها على سبيل المثال ضريبة البلغة، وهي كناية عن حلوى صنعها حمدان وكان يبيع القطعة منها بسبعة دنانير، وضريبة الفطرة وقال أنها ( فطرة الله التي فطر الناس عليها " 30 ـ الروم) وأشار عليهم إلى الآية : " هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " 64 ـ النمل)(32)
ولكن حمدان، ولابد من ذكر الحقائق كاملة، كان ينفق الأموال، أو لنقل الجزء الأعظم منها، في تشيد عاصمة حصينة(دار الهجرة)لتكون قاعدة سياسية وعسكرية له، يتجمع فيها القرامطة ليمثلوا قوة اجتماعية وعسكرية. وقد شيدها فعلاً عام 277 H قرب الكوفة، وأقام فيها نظامه الاجتماعي الذي كان يدور في مخيلته حيث ينعدم فيها الظلم واستغلال الإنسان للإنسان وأطلق على هذا النظام في مدينته الفاضلة أو جمهوريته، أسم (نظام الألفة) وتجمع المصادر أن العلاقات بين أفراد هذا المجتمع الصغير كانت قائمة على الود في مجتمع آمن وضمن انضباط عال.
بيد أن مقتل حمدان الغامض حوالي عام 280 H ، وبعده مباشرة عبدان، ثم حلول آل مهرويه في قيادة القرامطة، وتفاقم التناقضات واحتدمت الداخلية منها بين قيادات القرامطة، والخارجية منها مع العباسيين والفاطميين مما زاد في تخبط الحركة وارتكابها للمزيد من الأخطاء، فكثر خصومها في الخارج، كما تضاءل وضعف، ثم أنعدم ذلك الحزام الجماهيري الذي يحيط بالحركة.
وخلال معارك صغيرة وكبيرة تضاءل نفوذهم بعدها في البوادي السورية والحجازية، ثم سددت إليها ضربات سريعة متلاحقة أنهت وجودهم في العراق(معقل الثورة) بحدود عام 300 H ، ثم حاول بعض أنصارهم وبقاياهم أعادة تشكيل لوجودهم، إلا أن هذه المحاولة لم يكتب لها النجاح فتبددت كل المساعي بحوالي عام 316H بانتفاضة فاشلة في مناطق وسط العراق، على أن وجودهم في أماكن أخرى أستمر حتى عام 390 H في البحرين. (33)
وقد تمكن قرامطة القطيف والبوادي السورية من الصمود أمام هجمات العباسيين والفاطميين على حد السواء، ولكن بالمقابل لم يتمكنوا من تحقيق منجزات سياسية مهمة (دولة ـ عاصمة ـ علاقات سياسية خارجية) فاستمرت حرب العصابات والهجمات واحتلال سريع لمدن الشام(حمص ـ حماة ـ دمشق) والتخلي السريع عنها هو طابع حرب كانت سجال بينهم وبين خصومهم العباسيين والفاطميين.
وقد تمكن القرامطة، في مراحل كانوا فيها أقوياء، من فرض نفوذهم العسكري في المنطقة، وتمكنوا من تشكيل تهديد حقيقي للفاطميين، حيث أحتل جيش قرمطي بقيادة الحسن الأعسم مدينة دمشق وانتزعوها من أيدي الفاطميين عام 357 H في تحالف سياسي مع العباسيين. وقد حاول القرامطة جعل دمشق عاصمة لهم، إلا أن هذه المساعي باءت بالفشل، ولكن القرامطة في أوج قوتهم تمكنوا من دخول مصر وحصار القاهرة، ووصلوا ضواحيها الغربية(عين شمس) عام 361 H ثم تقهقر الأعسم عن مصر عام 363 H، وأستمر نفوذهم بعدها بالانحسار وأنتهي نهائياً عام 470 H شمالي الإحساء.(34)
وقد تعلمنا من دروس التاريخ شيئاً مهماً، أن ليس هناك شيء يتلاشى ولا يترك آثاراً، وحركة القرامطة تجربة مهمة برغم أنهم لم يتركوا لنا وثائق مهمة، أو آثار كتابية، وأخبارهم متفرقة في مجموعة كبيرة من المصادر معظمها لا تتعاطف مع القرامطة والسبب في ذلك واضح وجلي، فلدى الكثير من الناس ما زال الخروج المسلح يعني التمرد ومن جهة أخرى فأن القرامطة الذين تراوحت مواقفهم بين الالتزام بمبادئ الدعوة الإسماعيلية التي ارتضوا التمترس خلف شعاراتها على أمل أن تقدم لهم الحركة الإسماعيلية الدعم والإسناد المادي والمذهبي والدعائي، وبذلك فقد تأرجحوا بين صرامة المذهب الشيعي الإسماعيلي وتطرفه، والمرونة التي يتطلبها العمل السياسي، وبين هذه وتلك تعلقت أهدافهم النبيلة وتبددت مكاسبهم التي حققوها وأخفقت آمالهم في الانتصار. فالإسماعيلية مذهب باطني يصعب التعامل معه بوضوح، فهي (الحركة الإسماعيلية) تضع تسعة مراتب في مفاتحة الفرد بالدعوة وفي مكانته في صفوف الحركة، وهناك 12 درجة من الدرجات التي يتعين مكانة الفرد في المذهب، وبحسب الدرجة التي يستحقها تكشف له أسرار الدعوة، وهناك مثلاً فرق شاسع بين إمام المذهب والمستجيب(35)وهناك الكثير من الأسماء السرية والوهمية، وكان لابد لكل ذلك أن يفجر التناقضات بين قادة الدعوة(والدولة لاحقاً) الإسماعيلية وقادة القرامطة وكذلك حول القضايا المالية بالدرجة الأولى وحول مركزية الدعوة والقيادة والنفوذ السياسي، كما سادت أجواء تصفيات دموية وحروب بين الأطراف المتنازعة.
وإذا شئنا أن نقدم جرداً بأهم سمات حركة القرامطة: ـ
آ / الغموض الذي ساد تأريخ الحركة وصلتها بالحركة الإسماعيلية.
ب/ التناقضات التي برزت في سياسته الاجتماعية(امتلاكهم العبيد).
ج/ طبيعة التحالفات السياسية كانت تنطوي على الكثير من التناقضات، فلم ينجحوا في أقامة تحالف مع ثورة الزنج، وتحالفوا مع العباسيين ضد الفاطميين وساعدوا البويهيين(خصومهم) ضد السامانيين.
د/ دخلوا في حروب طاحنة مع الحمدانيين ثم عادوا فهادنوهم.
هـ/ اتفقوا مع الأخشيديين في مصر وسوريا على حماية قوافلهم لقاء المال. وشنوا الحروب الدموية على الفاطميين.
ح/ بالغوا في استخدام العنف والإرهاب واستباحة المدن.
ك/ أدت ثورتهم إلى إقحام متزايد للجيش في الحياة السياسية للدولة العباسية.
***********
هوامش البحث
1. فوزي، د.فاروق عمر: التاريخ الإسلامي وفكر القرن العشرين، ص102، بغداد/1985
2 . عنان، محمد عبدالله : الحاكم بأمر الله، ص 42-40، القاهرة/1959
3 . عليان، محمد عبد الفتاح: قرامطة العراق، ص19، القاهرة/1970
4 تامر، عارف : القرامطة، ص،13-9 ، بيروت/ ـــــ
5 . عنان، محمد عبد الله : نفس المصدر، ص 46-43
6 . حوراني، ألبرت: الفكر العربي في عصر النهضة، ص14، بيروت/1977
7 . إسماعيل، د. محمود: الحركات السرية في الإسلام، ص110-109 بيروت/1973
8 . عليان: نفس المصدر، ص31
9 . عليان: نفس المصدر، ص22-21
10. تامر، عارف : نفس المصدر، ص 23
11 . عليان : نفس المصدر، ص39-34
12 . إسماعيل، د. محمود: نفس المصدر، ص112
13 . عليان : نفس المصدر، ص26
14 . عليان : نفس المصدر، ص66
15 . تامر، عارف : نفس المصدر، ص70-68
16 . عليان : نفس المصدر، ص 95-39
17 . عليان : نفس المصدر، ص54
18 . عليان : نفس المصدر، ص 64
19 . تامر، عارف : نفس المصدر، ص 42
20 . تامر، عارف : نفس المصدر، ص 113
21 . عليان : نفس المصدر، ص 73-67
22 . تامر، عارف : نفس المصدر، ص 103
23 . تامر، عارف : نفس المصدر، ص 103
24 . فوزي، د. فاروق عمر: نفس المصدر، ص 307
25 . عنان : نفس المصدر، ص 71
26 . فيصل، د.شكري : القرامطة، مقال في العربي الكويتية عدد1969/17
27 . إسماعيل، د.محمود : نفس المصدر، ص 123
. 28 عليان : نفس المصدر، ص 44
29 . كاهن، كلود : تاريخ العرب والشعوب الإسلامية، ص 256 ، بيروت/1972
S. 158 Geschechte der Araber,: 30. Rathmann, Prof. Dr. Lother
31 . عليان : نفس المصدر، ص 66
32 . عليان : نفس المصدر، ص 202
33 . تامر، عارف : نفس المصدر ص 107
. 34 تامر، عارف: نفس المصدر، ص 125
35 . تامر، عارف: نفس المصدر، ص 80
المصادر:
1. فوزي، د.فاروق عمر: التاريخ الإسلامي وفكر القرن العشرين، بغداد/1985
2 . عنان، محمد عبدالله : الحاكم بأمر الله،القاهرة/1959
3 . عليان، محمد عبد الفتاح: قرامطة العراق،القاهرة/1970
. 4تامر، عارف : القرامطة، بيروت/ ـــــ
5 . حوراني، ألبرت: الفكر العربي في عصر النهضة، بيروت/1977
6 . إسماعيل، د. محمود: الحركات السرية في الإسلام، بيروت/1973
7 . كاهن، كلود : تاريخ العرب والشعوب الإسلامية، بيروت/1972
1975 Berlin Geschechte der Araber,: 8. Rathmann, Prof. Dr. Lother
9 . فيصل، د.شكري : القرامطة، مقال في العربي الكويتية عدد1969/17
1368 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع