خالد القشطيني
الشاعر مغللاً بقيوده
احتاجت بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية إلى المرور عبر تربة العراق وإيران لتوصيل المساعدات إلى الاتحاد السوفياتي (كما كان عندئذ). غير أن حكومة رشيد عالي الكيلاني في العراق أبت أن تسمح لهم بذلك.
وجرها ذلك إلى نزاع مرير بين الطرفين انتهى بهجوم بريطانيا على العراق لتفرض عليه إرادتها. جرى ذلك في شهر مايو (أيار) عام 1941. تعالت أصوات الأدباء والشعراء العراقيين في شجب هذا العدوان. وكان منهم الشاعر الكبير معروف الرصافي الذي نشر قصيدة طويلة يسخر فيها من ساسة العراق الذين انضموا إلى الجانب البريطاني وهربوا بالطائرة إلى الأردن. وصفهم شر وصف حين قال:
لاذوا بأجنحة العدو فما هم
إلا الذباب قد استطارَ مطنطنا
ذاعت القصيدة بين النخبة العراقية فحاكاها الكثير منهم، كما فعل الدكتور مصطفى علي، راوية الشاعر على ما سنجد. انتهت الحرب بسقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني وهروبها. شعر بالخيبة والحرج الكثير من الأدباء العراقيين، وبصورة خاصة الشاعر الرصافي، صاحب تلك القصيدة النونية القاسية. بيد أن الحكومة الملكية تعاملت وإياه برقة واحترام وتركته وشأنه في ناحية الأعظمية من بغداد. ولكنه شعر بحراجة الموقف فالتزم الصمت. لاحظ ذلك العلامة طه الراوي وشق عليه أن يرى الشاعر الكبير حبيس الصمت. ولكنه لم يجرؤ على زيارة الشاعر الكبير أو مخاطبته مباشرة، فعَبَّر عن شعوره الخاص للدكتور مصطفى علي فخاطبه بذلك الوزن والقافية النونية قائلاً:
أمصطفى بن علي يا أخا ثقتي
إني عهدتُكَ للإخوانِ معوانا
أبلغ مليكَ القوافي كلَّ خالصةٍ
من التحايا تمجّ العطر ألوانا
ما بالَهُ حَرَسَ الرحمن مهجته
قد أوسع الشعر إعراضاً وهجراناً؟!
ما كان من مصطفى علي غير أن نقل هذه الأبيات إلى الشاعر الحبيس في بيته، فرد عليها بقصيدة طويلة بث فيها همومه بذات الوزن والقافية فجاء فيها:
أبلغ أبا هاشم عني مغلغلة
يعج فيها القريض الغض شكرانا
أحسنت ظنَّك إذ قد جئت تمدحني
بما بهِ زِدْت حسن الظن إحسانا
ظننتني إن هجرت الشعر من زمن
وهل أطيق لحب النفس هجرانا
ذاك الحبيب الذي أوسعته مقةً
مني وصيرته للمجد عنوانا
يمضي الرصافي في وصف معاناته الشاعرية، وقد أصبح رهين إقامة إجبارية اعتقلوا فيها لسانه بما يفرض عليه السكوت، فلا ينطق في ظل حكم جائر قامع للحريات والأفكار الوطنية.
719 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع