بسمات عند شجرة الكستناء

                                                  

                    بقلم/ حامد خيري الحيدر

 بسمات عند شجرة الكستناء

حكاية من خيال بلاد ما بين النهرين القديمة مهداة لذكرى ثورة الرابع عشر من تموز الخالدة
(لا تشرد أيها السومري، واصل عملك).. هكذا تلقى (أوركيما) صيحة مراقب العمل الذي يبغض حد العماء أولئك المنفيين من البلاد الأخرى، واصل بعدها متابعة عمله المُضني الذي أعتاد احتمال معاناته بتحميل البضائع في ميناء السفن، والذي جعل من ظهره مع مرور الأيام ينحني وأنامله تفقد القدرة على الشعور.. رغم ثقل تلك المهنة وما تحطه من كرامته وانسانيته، لكنه تحمّل قساوتها بجَلدٍ منذ سنوات بعيدة لم يعد يذكر عددها، حين قدم الى هذه البلاد تاركاً (سومر) طمعاً بسلام يتدفأ به، بعد أن مزقتها مخالب الظلم وشوهت جمالها نيران الحروب، لكنها كانت الوحيدة المتاحة له لكسب كفاف العيش ويجنبه مذلة فاقة اليد، كونها لا تتطلب تعلم الكثير من لغة أهل هذه الأرض التي أرتضى العيش فيها على مضضٍ، بعد أن ظل طيلة ما مر من حياته فيها يتملكه حلم وردي أثير بالعودة يوماً الى وطنه الغافي بين ذراعي دجلة والفرات.
لكن حتى مع تلك الصيحة وما حوته من معنى الإهانة، لم تنطفأ ابتسامة (أوركيما)، مع شعور الفخر الذي ينتشي به صدره في هذا الوقت من كل عام.. حيث تمر غداً نسائم اليوم الخالد المزروع في كيان جميع أبناء (سومر)، والذي لم تستطيع آلام السنين من محو صورته الزاهية المعتمرة في قلوبهم، أنه الرابع عشر من تموز، ذكرى تلك المأثرة العظيمة التي حققها شعب الفرات، حين وحدهم قائدهم الأمير (أوتوحيكًال) ليطردوا فلول (الكًوتيين) البرابرة من أرضهم ويطهروها من دنسهم، معيدين البسمة لتلك البقعة الجميلة الزاهية التي لا تعرف سوى الحب والخير.. لكن هذا العام كان لبطولة تموز طعم خاص وعبق جديد، أنها ذكراها المائة والخمسون.
فتح باب بيته الخشبي الصغير والفرحة تأبى مبارحة قلبه المأسور بحب وطنه، الواثق بحتمية انتصار السلام يوماً فيه.. جلس على سريره ثم مد يده الى الجانب الآخر منه مستذكراً زوجته وشريكة نضاله الراحلة، قبّل برفقٍ وسادتها الناعمة، ثم وضع وردة قرنفل حمراء عليها.. (أنه تموز يا (أيناسا) يعود الينا من جديد وأنت بعيدة عني).. عشر سنوات مضت على فراق رفيقة دربه، لتتركه وحيداً حزيناً في هذه البلاد الباردة المتفاخرة بتعذيب الغرباء ممن أبتلوا بظلم أوطانهم، ليضيف رحيلها الى قلبه المتخم بهموم شعبه عبر كل تلك السنين جرحاً جديداً أستحال وقف نزيفه، فلم يعد يحتمل المزيد من الآلام، ليقرر الانعزال عن الجميع، واهباً ما تبقى له من العمر ليعيش ذكريان هما كل ما تبقيا له تشعرانه  بوجوده وانسانيته، أولهما زوجته الحبيبة، والأخرى يوم الرابع عشر تموز.
كانت الغربة قد صقلت ببرودتها شخصه، لتحوله الى مجرد كائن حي نسي حرارة العواطف والمشاعر الانسانية التي جُبل بها في وطنه (سومر)، ليُجهز على ما تبقى من أحلامه وحنين ماضيه غياب نصفه الآخر المتمسك بالسعادة وبهجة الحياة، حتى بعد أن حرمتهما أقدار الحياة وظلمها وعدم عدالتها من عذوبة الطفولة، فجعل منها طفلته الجميلة المدللة التي طالما حلم بها وهي تلهو بين ذراعيه رافضاً أن يزاحمه بحبها أحد، واتخذت هي منه بالمقابل أبنها الوحيد، الذي سيكون سندها وحاميها ما أمتد بها العمر.. حسرة من القلب أطلقها (أوركيما) ثم ردد بصوت حزين (رحلت باكراً يا (أيناسا)، باكراً جداً ايتها الغالية).
في هذه العام قرر بجرأة لا يعرف مصدرها أو كيف تملكته، من كسر عزلته القاتلة التي حكم على نفسه بها، وأن يحتفي بهذا اليوم العظيم كما أعتاد أن يفعل دوماً مع زوجته، الى جوار جميع رفاقه وعموم المنفيين من أرض الوطن، عند شجرة الكستناء الضخمة في الحديقة الواسعة عند طارف المدينة، حيث يلتقي بأقرانه ممن أجبرتهم زوابع القهر من ترك أرضهم العزيزة، التي أرتوت بعرقهم وكدحهم ودماء أسلافهم، وأن يتركوها مكرهين بعد أن لوثت صورتها الجميلة فوضى الصراعات، والتهمت خيراتها غرائز التمسك بالعروش.
صادف أن تكون ذكرى تموز في اليوم الاخير من الاسبوع، حيث تُعطل الحياة في بلاد الغربة وتتوقف الأعمال ليتفرغ الناس للعبادة وارتياد مزارات الآلهة.. وما أن بزغت أنوار الصباح حتى أرتدى (أوركيما) جميل حلته وبالغ في تأنقه وتعطره، توجه بعدها الى جارته العجوز الطيبة بائعة الزهور ليبتاع منها باقة من ورد القرنفل الاحمر الذي تعشقه (أيناسا).. استغربت البائعة جمال طلته التي لم تره بها منذ أمد بعيد، اضافة الى شرائه باقة الورد، فاليوم ليس ذكرى زوجته ليزور قبرها، فمازحته رغم معرفتها بمدى وفائه، (أخيراً سيودع (أوركيما) حياة العزوبية ويخطب امرأة جديدة).. دفع لها ثمن الورود ربع شيقل من الفضة، ثم أجابها مع ابتسامة عريضة (صدقت يا صاحبة القلب الحنون، اليوم سأخطب أروع فتاة في هذه الدنيا، فتاة حار الشعراء بوصف جمالها تدعى (سومر)).
كانت شجرة الكستناء العملاقة لم يتغير شيء من شكلها منذ أن رآها أول مرة، تفرض هيبتها على جميع ناضريها، وهي تنتصب شامخة صامتة متحدية بإباء تقلبات الدهر وتتابع الأزمان، كأنها أم جلدة صابرة خبرت مفارقات الأيام فأبت الموت، لتظل صامدة تحكي لتعاقب الأجيال قصصاً تغور في عمق التاريخ، واهبةً حلو ثمارها للجميع، تاركة أغصانها تمتد بعبثية في كل أتجاه، لتظلل على كل عابر سبيل فقد دفأ الدار، وغريب ضيعه غدر الزمان وتائه حائر بزمانه تقطعت به السبل، حتى غدت مع مرور الأيام مثابة لتلاقي أبناء (سومر) ممن أبتلوا بمنفاهم، ليزدحم بهم المكان ويضيق حتى سمّى أهل البلاد هذه شجرة (شجرة السومريين).
عند الشجرة وقف (أوركيما) حاملاً وروده الفواحة بالأريج، والناطقة من دون كلام بتعابير المحبة والسلام، أخذ يتلفت يميناً ويساراً مُستفقداً رفقة الأمس كأنه ينتظر معشوقته الجميلة على أحر من الجمر، ثم جعله طول الانتظار أن يعيد النظر الى أغصان الشجرة وتشعباتها، حيث بدت كمتاهة لا توجد ألا في مخيلة الغرباء وحيرتهم بمستقبل أيامهم، متذكراً سنين بعيدة مضت حين قدم مُكرهاً الى هذه البلاد مع بضعة من رفاقه المنفيين المُبتلين بحب (سومر)، والصارخين بحريتها وكرامة أهلها وانعتاقها من ظلم أولئك الذين جعلوا من أبنائها عبيداً أذلاء لهم، آنذاك كان الرفقة قد أتخذوا من شجرة الكستناء ملاذاً ومستقراً لهم أيام عديدة حتى تدبروا أمرهم في أرض منفاهم.. عاطفة غريبة شدت الرفاق لهذه الشجرة منذ الوهلة الأولى، كونها ذكرتهم بشموخ نخيل بلادهم وغاباته المكتظة على جانبي الفرات حين تتعانق السعفات الطوال مع بعضها لتظلل على مراح تلك الأرض الطيبة.
مع أنتصاف الظهيرة أخذت خيوط اليأس تتسرب الى فكر (أوركيما).. (يا ترى هل سرقت دوامة الغربة اللعينة ذاكرة الرفاق فأنستهم ذكرى هذا اليوم؟ أم تراهم جميعاً قد اختطفتهم اشباح الموت؟).. رغم حرارة الشمس لكن ورود القرنفل ظلت يانعة، تأبى أن تلاقي هذه الذكرى ألا وهي بأبهى رونقها، تتفاخر بجمالها وديمومة حياتها العصية على الفناء.. (تموز مبارك، كل عام وأنت بألف خير)، كان احد رفاقه القدامى قد جاء على عجل حاملاً وروداً حمراء من الجوري، بدى كحاله هو قد أنشبت فيه مخالب الدهر وأخذت ثائرها منه.. ومع تبادلهما التحايا وكلمات المودة والشوق واستذكار الماضي الجميل، ها هو رفيق آخر يهل ثم ثالث ورابع (كل عام وأنتم بخير يا عشاق الفرات).. ماهي سوى دقائق حتى اكتظت الحديقة بأبناء (سومر)، وهم يتجمعون حول شجرة الكستناء التي استحقت أسمها من جديد (شجرة السومريين)... كان الجميع يحملون وروداً يانعة، رغم تنوعها واختلاف أشكالها لكن جميعها كانت حمراء اللون، نابضة بالحياة مثل قلوبهم الحالمة وآمالهم التي أبت ألا أن تكون في ريعان الشباب.
بدا الزمن لـ(أوركيما) كأنه يعود أدراجه، بخلاف قواعد الطبيعة وحسابات المنطق، وأن السنين أخذت تسترجع ماضيها الجميل.. جميع الرفاق هنا، رغم آلام السنين وبياض الشعر والظهور المحنية، لكن الهامات كما عرفها وعهدها وشاهدها فيما مضى مرفوعة أبية، والكبرياء السومرية بادية بوضوح على الجباه رغم الأجساد النحيلة المنهكة.. الجميع كانوا يبتسمون لأيام قادمة أجمل، متحدين بكبرياء غريب لا يليق ألا بشعب النهرين قساوة الأيام ومعاناة غربتهم القسرية المضنية.. صور وعلامات زاهية مرسومة على صدورهم المفعمة بالأمل وبمستقبل واعد جميل لابد أن يحيي يوماً وطنهم الصابر الجميل.
تبادل الرفاق الورود والأحاديث الأثيرة، واستذكار مآثر ذلك اليوم الخالد.. استذكروا الامير (أوتوحيكًال) وبطولات جنوده وهم يعلنون النصر في حرب تحررهم مع خسوف القمر بفأله السيء على (الكًوتيين).. آخرون أخذوا يهزئون من ملك الأعداء حين جُلب مقيداً ليضع قائدهم قدمه على رأسه.. والبعض كان يتفاخر بشجاعة النسوة وهن يقرأن الأناشيد والأغاني، كي يحفزن الرجال على الثورة وقتال غاصبي أرضهم واسترجاع مجدهم السليب.. ومنهم القى أشعاراً وخطباً كان يعدّها منذ أسابيع لهذا اليوم المجيد.. بطولات ونضال وصبر جاوز كل الحدود، كانت بحق أوسمة فخر زينت ضمائر هؤلاء الأوفياء، لم يبق منها سوى حكايات وذكريات دافئة يرووها لجميع الناس، يحكون قصة شعب ظل شامخ الهامة، يرسم بعرقه ودمائه لوحة الخلود.
مرت الساعات سريعاً دون أن يشعر بها أحد، وكأن الجميع كان متعطش لذلك اللقاء الذي خططت له ونفذته دون شعور القلوب الوفية الصادقة المفعمة بحب وطنهم.. (هنيئاً للجميع ذكرى (تموز).. كل عام (سومر) وشعبها بألف خير).. (مجداً لك يا (سومر)، خلوداً لمآثر شعبك العظيم)... ودّع الرفاق بعضهم بكلمات الأمل والامنيات الطيبة والابتسامات لاتزال رفيقة أفواههم، على أمل اللقاء في نفس المكان العام القادم، وكأنهم اختزلوا الزمان فعادوا  شباباً ملؤهم الحيوية والنشاط، رغم غدر الزمان وطعناته القاسية التي سلبت منهم تاريخهم العظيم ووطنهم الفسيح بنسائمه المحملة بالمحبة والطيب.. هكذا هم أبناء سومر اعتادوا غرس نبتة  الحياة أينما حلوا، واهبين غصن الأمل لأجيالهم القادمة الواعدة.
مع تفرق الرفاق وخلو المكان من رواده، عاد (أوركيما) الى وحدته من جديد، وفي قرارة نفسه لم يكن يرغب بالمبارحة، بعد أن صورت له الساعات الماضية كأنه يقف على أرض وطنه.. نظر بعيون الحب الى شجرة الكستناء، ثم ردد بصوت هادئ ملؤه الشجن (كل عام وأنت بخير يا (أيناسا)، كل عام وأنت بخير يا حبيبة العمر، أتمنى أن يكون لقاء (تموز) القادم تحت ظلال نخيل بلادنا).. ردد ذلك وهو يضع عند جذع الشجرة وردة قرنفل حمراء، ثم سار بخطى ثابتة عائداً الى بيته والابتسامة العريضة لازالت مرتسمة على وجهه.
 
***********************
 
الكًوتيون .... قبائل همجية بربرية..  كانت تعيش في منطقة جبال (زاكًروس).. تمكنت من أسقاط الامبراطورية الأكدية عام 2230ق.م، ثم سيطرت على بلاد ما بين النهرين لأكثر من مئة عام، عاثت فيها خرابا وفساداً، لتكون فترة سيطرتهم من الفترات المظلمة في التاريخ. أسماهم السومريون (أفاعي الجبال) كرهاً لهم، ولتخلفهم فكرياً وحضارياً عن شعب النهرين.. حتى قضى عليهم أبناء (سومر) عام 2120 ق.م بقيادة الأمير السومري (أوتو حيكًال)، في أول حرب تحررية عرفها التاريخ.
أوتوحيكًال .... أمير مدينة (الوركاء)، وحّد المدن السومرية ثم قاد أبنائها بجيش كبير لمحاربة (الكًوتيين)، حيث تمكن من القضاء عليهم وتحرير أرض سومر وأكد من دنسهم عام 2120ق.م في أول حرب تحررية عرفها التاريخ.. وقد ترك ذلك البطل نصاً تاريخياً هاماً بالسومرية يحكي فيه تفاصيل مأثرة انتصاره، حيث يذكر أنه حدث في يوم الرابع عشر من شهر تموز، وقد واكب ذلك اليوم حدوث خسوف للقمر مما أنبأ بفأل سيء على (الكًوتيين) وملكهم، الذي جيء به مكبلاً بعد النصر الى (أوتوحيكًال) الذي وضع قدمه على رأسه.. وقد سمى هذا البطل نفسه بـ(ملك سومر وأكد) بدلالة رمزية بليغة على توحيد شعبي جنوب بلاد ما بين النهرين من (سومريين) و(أكديين) في بودقة واحدة بعيدة عن التمييز.   
 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

4741 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع