د . جليل العطيّة - شيخ التراثيين العراقيين وعملاق الأدب السياسي الساخر

                                                        

                                  عباس العلوي

    

د . جليل العطيّة- شيخ التراثيين العراقيين وعملاق الأدب السياسي الساخر

العراق بلد الطاقات المذهلة / وممّا تتمّيز به الطاقة العراقية ليس اصالة ما ابدعت بل اضافة الى  ذلك اصالة الانتماء الى الوطن / وهل ننسى ذلك العشق الروحي الذي ابتلى به العلامة مصطفى جواد لبغداد ؟ / وهل يمكن ان ننسى هيام الشاعر مصطفى جمال الدين بمسقط  راسه (سوق الشيوخ ) ؟ وهل ننسى ذلك التعلق الوجداني لمحمد باقر الصدر بالنجف الاشرف ؟ او ابن الرافدين < قارىء الطين > العلامة الكبير طه باقر الذي سهر الليالي ليبرهن للعالم كله ان العراق  مهد الحضارات ؟ ...
العطية غامس  بكل روحه بالتراث العربي / يحبه / يشمّه / يلمسه / يتعامل معه كربيب مدلل / ولذلك سهر عليه / تغنى به / وعامله بلطف وحب /  نفض الغبار عن كثير من أوراقه الجميلة / وانتشل كثيرا من كنوزه من الضياع والإهمال والنسيان / فأدخل الفرحة على قلب الحرف العربي / وبعث السرور في صدور الإباء الاولين لهذا التراث وهم في عالم الملكوت / وساهم بربط حاضر الامة بماضيها العتيد / واكمل المهمة بما احياه بالأبداع والتجديد بريادته الادب الساخر / وكم نحن بحاجة اليه في مثل هذا الزمن القاحط بالقيم والمثل العليا !

                      

الدكتور جليل إبراهيم العطيّة < ولد في الكوت 13 / 11 / 1940 > خريج قسم الأعلام جامعة بغداد < 1972 > / استقر في باريس منذ عام < 1978 > / حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون < 1987 > بأطروحته الموسومة [ تطور المجتمع العراقي بين الحربين العالميتين 1918 ـــ 1939  ]
نبوغه بالكتابة / جاء مبكراً / في الخامسة عشر من عمره اصدر جريدة < كتبها باليد > / بعد العدد الرابع / استدعته سلطات العهد الملكي بدعوى اصدار جريدة دون إذن رسمي!
بدأ بنشر 13 قصة قصيرة في سن السادسة عشر وحتى الثالثة والعشرين / ثم توقف بسبب اعتذار مجلة الآداب البيروتية عن النشر !  
العطية صحفي متمرس ومفكر قدير قلما يجود الزمن بمثله / اديب وشاعر وباحث موسوعي كبير / محقق من العيار الثقيل / اخرج هذا الفن من اطاره التقليدي وجعله همزة الوصل الفاعلة بين التراثين العربي والغربي / وصفوه[ بالمُنقب ] وآخرون [ بالغوّاص ] بحكم النفائس التي اخرجها الى الوجود في نصف قرن من الزمن / يعتبر الحلقة الأخيرة من سلسلة التراثيين الكبار الذين اغنوا المكتبة الإسلامية والعربية في اكثر من 30  كتابا / تأثر في منهجية البحث والتحقيق  بمدرسة الأب انستاس الكرملي وتلميذه كوركيس عواد وهما من مفاخر العراق والعرب في القرن العشرين .
جهين : عملاق الأدب السياسي الساخر / موسوعة متنقلة حملت في خزانتها النكته السياسية الساخرة / وهموم الصحافة في العراق والمنافي / ومتاعب الناس في ظل الأنظمة الجائرة وله في ذلك صولات وجولات ومواقف جريئة كادت ان تودي به الى خشبة الأعدام !

ـــ يتحدث المفكر الراحل عزيز السيد جاسم عن مبضع < جهين > الجارح  بتركيز رائع :
[ إن مبضع جهين يترصدنا في كل لحظة ومكان / إنه موس حادّة تجرح بظرف / ومع هذا لانطيق لها فراقاً / إن الدنيا بخير مادام جهين يتكلم والخراف تحت رحمته ! ] .
ـــ ويضيف الأديب الكبير حميد سعيد على ذلك قائلاً :
[ إننا بحاجة الى جهين وأسلوبه / إنه يمارس عمليّة صحيّة / يمدّ يده في المخابىء ويخرج الجرذان ليضعها في موقعها المناسب : مزبلة التاريخ ] .
ـــ أما قاسم حول الأديب الفنان قال :
[ يكتب بروح مرحة عن احداث مرة وهو يذكرني ب < شارلي شابلن > في السينما ! ] .
ـــ وفي رسالة مهرّبة من بغداد زمن القمع والجور تقول :  
[ هل وضع ثمناً لرأسه ؟ هل يعرف كم يساوي قلمه ؟ هل أمّن على كلماته ؟ أسئلة تحضرني كلما قرأت له / إنه صاحب رسالة اجتماعيّة ] .
جهين : صاحب مدرسة عراقية فريدة في الأدب السياسي الساخر / تفوّقت على من سبقها ومن لحق بها / مؤطرة < بالسهل الممتنع >/ لايمكن لأحد تقليدها .
الكتابة الساخرة من العملات الذهبية النادرة الوجود في العصر الحديث / قد تجد الف طبيب اخصائي ومثله الف مهندس استشاري وفي المقابل لاتجد كاتباً سياسياً ساخراً واحداً !
لم يعطنا القرنان < الماضي والحاضر > سوى اسماء معدودة لاتزيد عن أصابع اليدين [ برنادشو الأيرلندي شيخ الساخرين / لوريو الألماني الذي اعتمد على الكوميديا القائمة على سوء التفاهم / وصامويل لانغهورن الأمريكي المعروف ب < مارك توين > / وموباسان الفرنسي / ومن العرب : محمود السعدني  / احمد رجب / جلال عامر / جعفر عباس / احمد بهجت المصري / ومن العراق نوري ثابت وخالد القشطيني ]  أما داوود الفرحان سقط في دائرة الأسفاف والكلام المبتذل .
ـــ يقول < الفريد إدلر > عالم النفس الشهير وأحد تلامذة فرويد :
السخرية : إنفعال مركب / خليط من انفعالين [ الغضب والأشمئزاز ] ونحن حين تثور فينا غريزة النفور نشمئز /  وقالوا ايضاً : [ ان السخرية سلاح يهز عرش الظالمين ]
ولتقريب هذه الصورة أكثر :
نوري السعيد باشا لايخاف من الحزب الشيوعي الذي كان في وقته اقوى تنظيم جماهيري معارض / بقدر خوفه من أغنية ساخرة لعزيز علي تذاع في البث الأذاعي المباشر!

الكاتب الساخر عصارة علوم معرفية ومواهب عديدة / منها : ظريف ساخر في الحوار / تواضع في السلوك / لباقة نادرة / سرعة البديهة / فراسة في علوم النفس والأجتماع بمختلف أنواعها  < الاجتماعية / التربوية / الدينية / الاقتصادية / الفنيّة > فضلاً عن استيعاب كبير للأدب والسياسة والتاريخ وغيرها / كل هذه الخصال التقت في صاحب العنوان بجدارة واستحقاق !

العطية عَلَمٌ من اعلام الثقافة العراقية سجّل بصماته المؤثرة في كل مرافقها / رجل متعدد الابعاد / خصب الارجاء / واسع الآفاق / عميق المدى / تفخر لغة الضاد بعطائه الثر تأليفا وتحقيقاً / يُدين بالفضل الى أخيه الأكبرعالم اللغة والتراث الدكتور خليل العطيّة < ت 1998 > / والأساتذة احمد محمد الشحاذ / محمد جواد خضر وآخرين ] الذين ادخلوه عالم الكتابة والبحوث ليصبح بمرور الأيام نجماً متألقاً / وستكون لنا جولة أخرى مع مؤلفاته إذا كان في العمر بقيّة .
عاصر نخبة كبيرة من عمالقة العراق في الادب والتاريخ وعلوم الأجتماع / كالدكتور مصطفى جواد والدكتور حسين امين  والدكتور عبد الله الفياض  والدكتور محمد مهدي البصير والدكتور إبراهيم الوائلي والدكتور عبد الرزاق محي الدين والدكتور صفاء خلوصي والدكتورعلي الهاشمي والدكتور علي جواد الطاهر والدكتور عناد غزوان والدكتور علي الوردي والأخوين عواد
< ميخائيل وكوركيس > وآخرين لاتسع هذه العجالة لذكرهم / حرص ان يتعلم قارئ كتاباته كل شيئ ليبرع في كل شيئ / شديد الملاحظة / قوي الذاكرة / استرساله في البحث يشبه النوته الموسيقية التي يعزفها  بتهوفن / يشد فيه الاسماع ويصرف اليه العقول / جمع بين جنبيه فصل الخطاب وجوامع الكَلم / تتراقص حروف اللغة العربية بين انامله وشفتيه لتدخل القلوب دون استئذان / نجم ساطع ازدانت به المحافل الأدبية والفكرية والإعلامية و مراكز البحوث في العراق والمهجر / حباه الله بكاريزما مقرونة بهيبة ووقار / اجبرت خصومه وحسّاده على احترامه / أثار اعجاب من التقاه بكرم أخلاقه وتواضعه الجم .
 بقدر ما هو جاد و جريئ  تراه ظريفاً ساخرا يرسم على محيّاك ابتسامة مشرقه / ثقته بالنفس عالية / طود أشم لا يعرف الأسفاف والتملق أوالتزلف  رغم المحن وطرائق الزمن / عندما تخيّره بين الوظيفة الأدارية  وما يخطه يراعه من روائع / يفضل الثانية على الأولى رغم عناء البحث العلمي ومتاعبه الذي لا قيمة له اليوم عند حراميّة الدولار الذين يحكمون العراق الديمقراطي !
ـــــــــــــــــــــ
قرأت الكثير عمّا كتب عن الدكتور العطيّة / لم اجد للأسف احدا من الأساتذة  يتحدث عنه بشكل علمي يتواءم مع طريقة العطية في كتاباته عن الكبار من الأدباء وبقية الأعلام / ما قرأته لا يزيد عن سرد سريع لحياته مشفوعاً بالمدح والثناء !
< أمير الكتابة الساخرة > عبقرية عراقية تميّزت عن غيرها في التعامل مع الحدث / وفي سبر غور نفوس الرجال بطريقة قويّة نافذة / يشفي غليل الصدور بدواء لم تستطع المختبرات الامريكية والألمانية من اكتشافه بعد ! / يمتلك  فراسة غير معهودة / تارة يذكرك ببرنادشو وموباسان / بدرجة تمكنه من جر الخراف الى المشرحة بأقصر الجُمَل !  
وفي بحوثه التراثية يذكرك  بالدكتور علي الوردي وكوركيس عواد / يستخدم الجمل القصيرة المركزة ـــ حروف قليلة ذات معاني ودلالات عميقة ـــ وبمعنى أوضح / مايكتبه في سطر لا يتمكن أن يأتي آخر بمثله إلا بنصف صفحة < فولسكاب > !
لم يوظف الكلمة فقط / إنما يوظف الحرف أيضاً [ كحرف الدال ] مثلاً أطروحة الدكتوراه والدم والدمار والداء وغيرها من الأشارات الدالة.
*****
التقيت الدكتور العطية لأول مرة منتصف الستينات من القرن الماضي على الجرائد فقط / يوم كنت اشتري جريدة [ صوت العرب / النصر / المساء / المنار وغيرها ] الصادرة مابين عامي
< 66 ـــ  1968 > خصيصاً لقراءة عموده الساخر الذائع الصيت [ جهين ]  الذي تميّز بالجرأة والشجاعة في كشف الغطاء عن الظواهر السلبية المؤلمة في المجتمع والسلطة معا / كان بحق ترجمانا لضمير العراقيين الشرفاء !  
شخصياً كان لي هوسٌ كبير في الكتابة الساخرة / شاءت الأقدار ان التقي بأثنين من الأساتذة العمالقة في هذا الفن النادر/ تعلمت منهما الشيء الكثير / الأولى : حينما كنت مقيما في دولة الأمارات < 1975 ـــ 1987 > التقيت بعملاق الأدب المصري الساخر الراحل محمود السعدني كان وقتها منتدبأ الى جريدة الاتحاد الإماراتية / وله فيها عمود يومي رائع / أصبح رحمه الله صديقاً فيما بعد / ساعدني كثيرا / غرس فيّ اللبنات الأساسية لهذا الفن الرفيع
وشاءت الأقدار أيضاً ان التقي [ قبل ما يقارب الثلاثين عاما ] بشكل مباشر مع عملاق الأدب السياسي العراقي < جهين > الذي كنت اقرأ له منتصف الستينات / يُقيم منذ زمن في فرنسا التي مازال يعتبرها فندقاً عابراً / كتبنا سوية في جرائد المعارضة < قبل السقوط >  / جمعتنا علاقة متينة / مكالمات هاتفية شبه يومية / رسائل خطية متبادلة / بحق [ ابن بابل وسومر وأكد ] استاذ من الطرز الرفيع / مدرسة شامخة في البحث والأدب الساخر / قمّة في التواضع والخلق / كريم النفس طيب الخصال من شجرة مباركة وارفة الظلال / لايرتوي [ شيخ التراثيين العراقيين ] الا من ماء دجلة والفرات / ولانسمة هواء دافئة الا في ربوع المتنبي وابي نؤاس .
حفظ الله [ أبا محمد ] ومنّ عليه بالصحة التامة وأبقاه كنزاً عامراً للعراق .

  

 عباس العلوي  
السويد في : 27 / 7 / 2017
   

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

896 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع