قاسم محمد داود
العراق بين التحضر والبداوة
لماذا لايزال المجتمع العراقي تحكمه الثقافة البدوية والريفية ؟ وهل لازال بحاجة الى ما يسمى (الفصل العشائري ) و(الكَوامة ) والديه وغيرها من العرف العشائري ؟ . ولماذا يتغلب العرف والعادات العشائرية على القوانين المدنية ونحن في القرن الواحد والعشرين ؟ .
بالرغم من ان لسكان بلاد الرافدين تاريخ يمتد آلاف السنين وعلى ارضه نشأت أولى الحضارات وكان لحضارته القديمة فضل كبير على سائر الحضارات الاوربية بل على المدنية الإنسانية بأسرها ،إذ إن الكتابة اكتشاف سومري صميم ،ولولا الكتابة لما كان هناك تاريخ او علوم ،ولما كانت حضارات او فنون ، لكنهم على عكس اغلب دول المنطقة لايزالون يتأرجحون بين البداوة والتمدن وحتى بغداد التي كانت لها تقاليدها المدنية والحضرية صارت اليوم تلطخ جدران بيوتها بعبارات مثل (مطلوب عشائرياً )وتنصب الخيام في شوارعها وازقتها لجلسات الفصل العشائري وتؤخذ الأموال دون وجه حق وكأننا في البادية وليس في مدينة كان يضرب المثل في تبغدد أي تحضر أهلها .
قبل ان نبحث عن إجابات لهذه الأسئلة لنعرف مفهومي البداوة والتحضر .فالبداوة يقصد بها ذلك النظام الاجتماعي الذي منشؤه الأساسي البيئة الصحراوية القائمة على الرعي والتنقل من مكان الى آخر حيثما يتوفر الماء والمرعى و يتصف هذا النظام بميزات التعلق بالعصبية القبلية والخشونة الناتجة عن العيش في البيئة الصحراوية وصفاتها المعروفة .
اما التحضر او الحياة الحضرية فهي نظام اجتماعي يختلف عن البداوة اختلافاً جذرياً من حيث ميزاته الكثيرة واولها ان الحياة الحضرية تتطلب العيش في المدن حيث الاستقرارعكس الحياة في الصحراء والتنقل من مكان الى آخر ، والانتماء الى دولة ولامكان للعصبية القبلية كما ان هذا النظام يتبنى عوامل الإنتاج الاقتصادي والثقافي طبقا لعمل الافراد في المجتمعات الحضرية في الصناعة والتجارة والوظائف الحكومية والخدمية فضلاً عن تشجيع العلوم و الفنون على اختلاف أنواعها،وتترك البيئة الحضرية اثرها على الافراد من حيث قلة الخشونة كما هي لدى من يعيش في الصحراء.
هناك الكثير من البحوث والدراسات التي اجراها الكثير من الباحثين وعلماء الاجتماع ، يمكن ان نجد فيها إجابات عن الاسئلة التي طرحناها ومنها كتابات الدكتور علي الوردي (1995-1913 ).
ان محور الثقافة البدوية او طابعها العام يمكن اجماله حسب الدكتور علي الوردي بكلمة واحدة هي (التغالب ) وهذه الثقافة تحتوي على ثلاث مركبات هي العصبية القبلية والغزو والمروءة والملاحظ ان طابع التغالب موجود في جميع هذه المركبات وان منبعها الأول هو حب الغلبة وللتفصيل في ذلك يمكن الرجوع الى كتاب الوردي (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي).يعتبر الدكتور علي الوردي ان البدوي ينشأ ويتربى على حب الغلبة وما العصبية والنصرة القبلية الا ناتج لها وهو مفهوم يعشعش في النفس البشرية ..نصرة الأخ والقريب وابن العشيرة ضد أي عدو ظالماً او مظلوماً ! (انصر اخاك ...) وكذلك الغزو ليس سوى تجسيد للغلبة التي تعشقها نفس الانسان البدائي للاستيلاء على أملاك الغير ،وحتى المروءة نابعة عنده من حب الظهور بمظهر الغالب من خلال الكرم والعطاء والنجدة التي لا يملكها الا الغالب ،وهذا ما جعله يرفض الخضوع الى القانون والدولة التي يعتبرها قيداً على حريته المطلقة واهانة له لذلك فأن قوة البداوة وانتشار ثقافتها تتناسب عكسياً مع قوة الدولة والمؤسسات الحكومية ،لذلك كلما ضعفت الدولة وانهارت المؤسسات الحكومية نشطت الثقافة البدوية وتقدمت نحو المدن فينتشر في مجتمعاتها ثقافة المغالبة والتعصب القبلي وما يصاحب ذلك تردي المدنية وطابعها المتحضر. اعتمد الدكتور الوردي مفهوم صراع الحضارة والبداوة في تحليله لطبيعة المجتمع العراقي وتاريخه خلال القرون الاخيرة ويمكن اعتماده كذلك على الوقت الراهن وقد بين ذلك في النص التالي : (لقد اجمع علماء الآثار ان العراق كان مهبط حضارة تعد من اقدم حضارات العالم وظلت الحضارة تراود العراق حيناً بعد حين ونجد العراق من الناحية الاخرى واقفاً على حافة منبع فياض من منابع البداوة هو منبع الجزيرة العربية فكان منذ بداية تاريخه حتى يومنا هذا واقعاً بين متناقضين من القيم الاجتماعية قيم البداوة الآتية من الصحراء المجاورة وقيم الحضارة المنبعثة من تراثه الحضاري القديم ).لذا صار المجتمع العراقي عرضة لمد البادية وجزرها على توالي العصور، الا ان أطول فترة سيطرت فيها البداوة على العراق هي الفترة التي بدأت منذ سقوط الدولة العباسية سنة 1258 م او قبل ذلك بقليل ،ثم استمرت مايقارب ستة قرون ،انهارت فيها سلطة الدولة ،واختل نظام الامن ، وتتابعت الفيضانات والاوبئة والمجاعات مما جعل الحضارة تذوي في العراق وتستفحل القيم البدوية محلها .
يقول الدكتور علي الوردي "إن مشكلة العراق انه حين ينحسر عنه المد البدوي لا يستطيع ان يتكيف للحضارة سريعاً حين تأتي اليه فهو يبقى متمسكاً بقيمه البدوية زمناً يقصر او يطول تبعاً للظروف التي تواجهه ومن طبيعة القيم الاجتماعية بوجه عام انها تبقى فعالة زمناً بعد ذهاب الظروف المساعدة لها فالناس إذا تعودوا على قيمة معينة صعب عليهم بعد ذلك أن يتركوها دفعة واحدة ."
يقول خلدون النقيب في كتابه (في البدء كان الصراع ) "عندما يتعرض المجتمع لازمة طاحنة ،او خطر داهم نعود الى هذه الانتماءات الوشائجية التي نجد فيها الأمان والطمأنينة ،او نستعملها كأدوات لتحقيق المصالح وكسب المنافع " ،ويعتقد النقيب أن المجاميع القبلية لها تأثير خطر على المجتمع لانها تتمتع بالولاءات القوية القادرة على توجيه الجموع ،لذا يتمكن ذوي النفوذ والسلطة عليها من توجيهها في مسارات بالضد من مصالح المجتمع ،أما محمد جابر الانصاري مؤلف كتاب (العرب والسياسة : أين الخلل؟)فيقول "لم تنجح الدولة العربية الحديثة ،بشكل عام ،في إيجاد جو من الطمأنينة لدى افرادها مبني على تحقيق العدالة الاجتماعية ،ورعاية المواطن ،وحفظ الحقوق والأمن ،وتحقيق سبل المشاركة الشعبية للناس ،كما انها لم تفلح على مدى أكثر من نصف قرن في تقديم نفسها بوصفها تجربة وحدوية ناضجة يعتمد عليها الافراد ويركنون إليها ".
خلاصة القول ،لقد اجمع العديد من الباحثين على ان العشائرية مرحلة من مراحل تطور المجتمع البشري في التاريخ تسبق تكوين الشعب والأمة والدولة ،تبعث فيها الحياة وتنشط في فترات ضعف الدولة والانحطاط الحضاري والانهيار الفكري لذلك فقوتها تتناسب عكسياً مع قوة الدولة .لذا فأحياء العشائرية عملية معوقة للتقدم الحضاري ،وبناء المجتمع المدني وتهدد السلم الأهلي ،ودورها مناقض للدولة العصرية ،وتؤدي الى ظهور شريحة طفيلية من المستفيدين تشكل عبئاً على المجتمع ،والعشائرية لا توجد في الدول المتقدمة بل في المجتمعات المتخلفة فقط ، فهي مظهر من مظاهر التخلف الحضاري .
3779 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع