د.ضرغام الدباغ
مجزرة الثقافة
حرق الكتب في ألمانيا
(الصورة: 10 / أيار ـ مايو / 1933 يسجل في تاريخ ألمانيا على أنه يوم قتل الثقافة)
من يعادي الثقافة، من يعادي الكتاب ...؟
مرات عديدة في التاريخ، أقيمت فيها مجزرة للكتاب، من أشهرها مكتبة بغداد التي رماها المغول في نهر دجلة، وقبلها كان حريق مكتبة الاسكندرية، وأخرى شهيرة حدثت يوم 10/ أيار ــ ماي / 1933، حين جرت تظاهرة حاشدة توجهت في ذروتها إلى ساحة الأوبرا وسط العاصمة برلين (مقابل الجامعة) وقامت بعملية مخطط لها بالطبع بإحراق ألاف الكتب وتمت تحت شعار " استعادة الروح الألمانية ".
حرق الكتب تعني معاداة للثقافة، ومعاداة للعقل، وإطلاق لقوى الوحشية والهمجية. والكتاب يعني العلم، ومعاداة العلم تعني الهروب للخرافة والجهل. وهذه كلها ليست مصادفات عابرة، ومن مظاهر صراع التحضر مع قوى التخلف، بل تعني بوضوح تام، أن هناك مرحلة قادمة سيسود فيها الجهلاء وأشباه الأميين. وحرق الكتب هي افتتاحية للأحداث المقبلة. وعندما تعادي جهة ما الكتاب، إنما هي تعادي الثقافة، وتفتح أبواب للظلام والمجهول القادم عبر الجهل والهمجية، فتكتمل شروط حلقة من التراجع، أي كانت شعاراتها. وحرق الكتب تعني مجزرة للثقافة، وتطورها التاريخي يشير إلى مجازر مقبلة للبشر، صانع الكتاب ومنتج الثقافة والحضارة، فالعداء متلاحم : الثقافة ــ الحضارة ــ الإنسان .
والمدهش حقاً أن الكاتب الألماني هاينريش هاينة كان قد تنبأ ذات يوم بحرق الكتب والذي تعرضت أعماله للحرق أيضا، كان قد كتب جملة معبرة في عام 1812 وهي:" أينما تحرق الكتب، فسينتهي الأمر بحرق البشر أيضا ".
وحرق الكتب عملية جرى التحضير لها، بعد وقت قصير من استلام الحزب النازي السلطة في أعقاب الانتخابات في آذار / 1933 وهذه التظاهرة جرت تحت شعار " استعادة الروح الألمانية " جرت بدقة وتنظيم في فقرة من برنامج يتضمن ملاحقة اليهود، والماركسيون، والكتاب الليبراليون الداعين إلى السلم، وقد نظمها اتحاد الطلاب الوطني الألماني التابع للحزب النازي، وكانت ذروة هذه التظاهرات يوم 10 / أيار / 1933 في ساحة الأوبرا ببرلين (مقابل جامعة برلين / همبولت) وفي 21 من أيار انتشرت هذه الظاهرة إلى جميع الجامعات الألمانية. وكان من بين الذين شاركوا بحرق الكتب: الطلاب والأستاذة، وأعضاء الحزب قذفوا بالكتب إلى النار، أما أمناء وموظفو المكتبات، فكانوا ينظرون بوجوم غير قادرين على الإبداء بحركة مضادة.
وكانت الحملة لحرق الكتب قد صدرت كنداء من إحدى الجامعات فورتسبورغ ومنشورات وزعت بهذا المعنى بعنوان " كتب غير ألمانية " في نيسان /1933، وكان اتحاد الطلاب الألمان منذ أن تحولت ألمانيا إلى جمهورية له نزعات متعصبة وشوفينية، وهذا الأمر كان في كافة الجامعات وإن بنسب متفاوتة. وأبتدء من العام 1931 (قبل وصول النازي للسلطة) كان اتحاد الطلبة الألماني (DST) تحت هيمنة الحزب النازي. وكان هذا الاتحاد يهيمن على الغالبية من الطلبة وأصواتهم.
وقد جرت التهيئة الفكرية والتنظيمية لتظاهرة حرق الكتب، وتعين أسماء المؤلفين، وعناوين الكتب، وكان من أبرز الكتاب الذين حرقت أعمالهم: الكاتب والأديب كورت توخولسكي، وكارل ماركس، فيلسوف واقتصادي، والأديب هاينريش مان، الأديب والكاتب كارل فون أوزيتسكي (نال جائزة نوبل للسلام 1936 منعته سلطات النازي من استلامها)، والكاتب والشاعر والمسرحي برتولد برشت والكاتب المسرحي النمساوي أرتور شنيتسلير، والكاتب يواخيم رينجلناتس والكاتب الروائي أريش ماريا ريمارك، والروائي توماس مان (حامل جائزة نوبل في الأدب عام 1929)، والأديب هاينرش هاينة والأدباء فرانس فيرفل وشتيفان تسفايغ، وإرنست جليسر واريش كستنر تلتها عملية إرهاب فكري، وتجريف للعقول الأدبية التي اضطرت للهجرة وحاولت التصدي للنازية من الخارج، بينما خضعت أعمال الكتاب الآخرين للرقابة الصارمة.
(الصورة : الطلبة يجمعون الكتب استعدادا لحرقها)
في تلك الأمسية شهدت مدينة برلين الألمانية واحدة من أكبر عمليات حرق الكتب خلال حقبة النازية. ففي مساء العاشر من أيار/ مايو 1933 تجمع حوالي 70 ألف شخص في ساحة الأوبرا مقابل جامعة برلين وقامت مجموعة من الطلبة بنقل أكثر من 20 ألف كتاب لتحرق أمام عيون الجميع. وألقى زعيم الطلاب النازي البالغ من العمر وقتها 23 عاما، خطابا مليئا بالكراهية قبل أن يبدأ بنفسه إلقاء أول مجموعة من الكتب في النيران المشتعلة وهو يقول:" ها أنا ألقي في النار كل ما هو غير ألماني. ما نفعله هو التصدي للروح غير الألمانية".
لم تكن واقعة حرق الكتب في برلين هي الوحيدة من نوعها ففي تلك الليلة نفسها قام الطلبة في جميع المدن الألمانية التي بها جامعات، بحرق أعمال الأدباء الذين لا تتوافق أعمالهم مع أيديولوجيات هؤلاء الطلبة. وقبل عملية الحرق بأسابيع قام الطلبة بتجميع أعمال الكتاب والصحفيين من المكتبات العامة ومكتبات الجامعات مبررين ذلك بأن هذه الكتب تحتوي على أفكار "غير ألمانية" مما يجعل من كُتابها أعداء للنازية. واختار الطلبة أعمالا لكتاب اشتراكيين ودعاة للسلام ويهود. ولم يستطع أي طرف وقف عمليات سحب الطلبة للكتب من المكتبات فموظفي المكتبات ومعظم أساتذة الجامعات تركوا الأمر يمر أمام أعينهم دون اعتراض حتى وإن كانوا ضد فكرة حرق الكتب.
(الصورة تجميع الكتب في الساحة وحرقها)
وكان الزعيم النازي أدولف هتلر قد تمكن من أن يحتفظ لنفسه بالسلطة المطلقة بعد وصول النازيين للحكم مطلع عام 1933 ليبدأ بعدها رحلة السيطرة على العقول. ووجدت رابطة الطلاب الحل لهذا الأمر في نيسان/أبريل 1933 إذ خلصت إلى أن النازيين سيطروا على الدولة لكنهم لم يفعلوا الأمر نفسه مع الجامعات، ليبدأ رفع شعار "حركة ضد الروح غير الألمانية" والتي وصلت ذروتها بحرق الكتب في العاشر من أيار/مايو. ولم تشارك القيادة النازية وقتها في هذه الفكرة التي تولى الطلبة التخطيط لها وتنفيذها، وإن شهد الوزير غوبلز (أحد قيادات الحزب النازي) مرحلتها الختامية.
وكانت وقائع عملية حرق الكتب في برلين تنقل عبر الراديو لتصل الفكرة إلى جميع الألمان في بيوتهم. فيما كان الطلبة الذين كان يرتدي معظمهم الزى الموحد لوحدات تابعة للحزب النازي، يطلقون العبارات النارية قبل إلقاء كل مجموعة من الكتب في النار مثل: "ألق أعمال هاينريش مان وإرنست جليسر واريش كستنر في النيران من أجل الدولة والعائلة والتقاليد والعادات"، أو "معا ضد السقوط الأخلاقي".
بدأت عملية حرق الكتب في أحد ميادين برلين (ساحة الأوبرا) والعديد من المدن الأخرى في نفس الوقت. وقد وشهد كاتب قصص الأطفال الألماني الشهير إريش كستنر شخصيا عملية حرق الكتب في برلين. وسجل الكاتب الذي وصل لشهرة عالمية من خلال قصص الأطفال، ذكرياته عن هذا اليوم وكتب:"كنت أقف أمام الجامعة بين طلبة يرتدون زي وحدة إس إيه ويرفعون الأعلام ورأيت النيران وهي تلتهم كتبنا".
عند منتصف الليل تقريبا وصل جوزيف غوبلز وزير الدعاية النازي والذي كان يقوم أيضا بتدريس علوم اللغة الألمانية، ليلقي بكلمة سمعها من حضروا واقعة حرق الكتب بالإضافة إلى مستمعي الراديو في المنازل. ومن بين العبارات التي قالها غوبلز في خطابه :" تنتهي الآن حقبة الفكر اليهودي الصارخ فها هي الثورة الألمانية تفتح الطريق من جديد".
ورغم عبارات الحماس إلا أن هتلر وغوبلز كانا يشعران بالقلق من هذه الحركة التي قام الطلبة بتنظيم كافة تفاصيلها دون قرار قيادي، والخشية في أن يخرج هؤلاء الشبان عن سيطرة الحركة النازية في وقت ما، وربما كان هذا هو السبب وراء محاولات هتلر لاحقا، بإبعاد أنصاره قدر الإمكان عن التصرفات المتطرفة.
أثارت عملية حرق الكتب في ذلك الوقت حالة من الاستياء والذهول رصدتها الصحافة العالمية إذ وصفت مجلة "نيوزويك" الأمريكية هذه العملية بأنها "هولكوست للكتب". فبعد أعوام قليلة من عملية حرق الكتب بدأت المحارق النازية والمعروفة بالهولوكوست.
كانت عملية حرق الكتب في تلك الليلة في برلين فاجعة للثقافة، وعاراً لمن أرتكبها، ولكن تلك الحادثة لم تكن نهاية حرق الكتب وإبادتها، فقد تكررت في القرن العشرين عندما دمر متظاهرون غوغاء مكتبة البروفسور شاهبور باختيار، عام 1979، وفي عام 2003 في بغداد يوم دمرت المكتبة الوطنية، والفاجعة الكبرى كانت بتدمير دار الوثائق العراقية، وتكرر تدمير المكتبات حين قصفت الطائرات مكتبة جامعة الموصل عام 2016.
مسلسل الصراع بين العلم والتخلف لن ينتهي قريباُ، وسيأخذ مظاهر مختلفة ولكن بجوهر واحد في نهاية المطاف، معاداة دفينة للتاريخ والمعرفة.
(حرق مكتبة جامعة الموصل)
4592 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع