إضراب عمال نفط كركوك أو مجزرة كاور باغي

                                         

                        بقلم غانم العـنّاز

إضراب عمال نفط كركوك أو مجزرة كاور باغي

لم يكن للعاملين في شركة نفط العراق في كركوك من نشاط نقابي يذكر خلال العقد الثاني من القرن الماضي. فقد كان العاملون في الوظائف الادارية اضافة الى معظم العاملين في الوظائف الوسطى كالكتابية والفنية والمهنية من الاجانب وذلك لعدم توفر المهارات المطلوبة بين العراقيين مما ادى الى اقتصار استخدام العراقيين على المهن شبه الفنية واليدوية بصورة رئيسية ممن ليس لهم دراية بالعمل النقابي. ومع انتشار المدارس في نهاية العقد الثاني وبداية العقد الثالث التحق الكثير من خريجي تلك المدارس بشركة نفط العراق ليحلوا محل بعض الاجانب في الدرجات الكتابية والفنية والمهنية فبدأت تظهر اوائل الحركة النقابية بين العاملين في الشركة.

قام بكر صدقي بانقلابه في 29 تشرين الاول 1936 فقامت مظاهرات في انحاء العراق في الثاني والثالث من كانون الاول 1936 طافت احداها في شارع الرشيد في بغداد مطالبة (بالخبز للفقراء والارض للفلاحين والموت للفاشيين).
وفي 17 نيسان 1937 القى بكر صدقي خطاباً انكر فيه ان يكون في العراق طبقة عمالية او رأس مالية متنفذة فقام على اثر ذلك في 24 نيسان عمال الموانئ في البصرة بمظاهرات واسعة احتجاجاً على ذلك.
قامت بعد ذلك في 5 أيار 1937 مظاهرات من قبل عمال السكاير والسكك الحديدية في بغداد وعمال شركة نفط العراق في كركوك ومحطات ضخ النفط وعمال معامل النسيج في النجف تطالب بتحسين احوالهم المعاشية.
أول نقابة لعمال النفط في العراق
وقد ساعد انتشار المدارس والكليات والاذاعة والصحف خلال الحرب العالمية الثانية على انتشار الوعي النقابي بين منتسبي شركة نفط العراق للمطالبة بتحسين اوضاعهم المعاشية فجرت محاولة لانشاء نقابة لهم في عام 1945. لقيت تلك المحاولة اعتراضاً شديداً من قبل الشركة فقامت بفصل عدد من قادة الحركة (المشاغبين) للتخلص منهم وقامت بعد ذلك في بداية حزيران 1946 بانشاء هيئة باسم (اللجنة الداخلية للعمل) تحت رعاية احد موظفيها الاجانب خصص 15 مقعداً من مقاعدها التي لم يعلن عن عددها للعمال. جرت بعد ذلك الانتخابات للمقاعد المخصصة للعمال ففاز بعض (المشاغبين) بخمسة منها بالرغم من مناورات الشركة لعدم التصويت لهم.
قام هؤلاء الخمسة بوصم (اللجنة الداخلية للعمل) بكونها أداة استعمارية طيعة بيد الشركة لكبح جماح الحركة النقابية العمالية المشروعة وحرمان العمال من تطلعاتهم لابسط حقوقهم بعد ان عانوا كثيراً من تدني الاجور وارتفاع التضخم وغلاء المعيشة وشحة المواد الاستهلاكية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية.

تم على اثر ذلك عقد اجتماع في 13 حزيران 1946 حضره حوالي 500 من عمال الشركة الذين قرروا المطالبة بما يلي:
1- الاعتراف بحقهم بتشكيل نقابة مستقلة خاصة بهم.
2 - رفع الحد الادنى للاجور اليومية من 80 الى 250 فلسا.
3 - وضع حد لقيام الشركة بالفصل الجماعي والتعسفي للعمال.
4 - انشاء صندوق ضمان للمرضى والمعاقين وكبار السن من العاملين في الشركة.

علمت الشركة بذلك الاجتماع والمطالب المفرطة فقررت تهدئة الاوضاع فقامت في الاول من تموز 1946 بزيادة غلاء المعيشة لمختلف الدرجات ما بين 50 و 100 فلس باليوم الا انها اصرت على عدم الموافقة على زيادة الحدود الدنيا للاجور وبقية المطالب الاخرى.
لم ترتقِ تلك الزيادة لتطلعات العاملين العراقيين في الشركة مما نتج عنه تشكيل (لجنة عليا للاضراب) اضافة الى عدد من اللجان الثانوية التي تمثل معظم المهن والدرجات الوسطى في الشركة للتنسيق والتشاورفيما بينها.


ألإضراب عن العمل
تطورت الامور بصورة سريعة جداً حيث اتخد قرار من قبل اللجنة العليا وبقية اللجان الثانوية في الثالث من تموز للقيام بالاضراب عن العمل بعد ان تم حصولهم على موافقة ميدانية مبدئية من قبل معظم العاملين للاشتراك به.
بوشر بالاضراب في الرابع من تموز 1946 حيث خرج ما يقارب خمسة آلاف من العاملين في الشركة بمسيرة في شوارع كركوك رافعين لافتات تحمل شعاراتهم ومطالبهم. انتهت المسيرة في بستان كاور باغي في اطراف المدينة حيث اقيم حفل القيت فيه خطب وكلمات تدعو الى الصمود حتى تتحقق مطالب المضربين. اصبحت كاور باغي بعد ذلك مركزاً للتجمعات والمظاهرات اليومية تُحمل فيها اللافتات وتُلقى خلالها الخطب الحماسية والكلمات التشجيعية وتُردد الشعارات النقابية ويُنادى بالمطالبة بالحقوق المشروعة.
كان الاضراب مفاجأة كبيرة بالنسبة للشركة وضعها في موقف حرج جداً امام الصحافة والرأي العام فقامت، من مبدأ الحفاظ على ماء الوجه، بدعوة المضربين بالتخلي عن اضرابهم والعودة الى اعمالهم قبل ان تستطيع النظر في مطالبهم.
كانت الحكومة في هذه الاثناء قلقة من استمرار الاضراب مما قد ينتج عنه عرقلة انتاج وتصدير النفط، المصدر الرئيسي لمواردها المالية. فقامت باصدار اوامرها الى متصرف (محافظ) كركوك باتخاذ الاجراءآت اللازمة لانهاء الاضراب واستخدام القوة، ان تطلب الامر. قام المتصرف برفع تقريره الذي بين فيه ان مسيرات المضربين واعتصاماتهم قد كانت سلمية ولم تتسبب في تعكير الامن العام في المدينة لذلك فهو ينصح بالتروي ولا يرى ضرورة لاستعمال القوة لتفريقهم. رأت السلطات في بغداد في تقرير المتصرف ما ينم عن تحديه للاوامر وتعاطفه مع مطالب المضربين فقامت بعزله وتعيين متصرف جديد.

ألقسوة المفرطة واطلاق النار على المضربين
تطورت الامور الى الاسوء بعد وصول المتصرف الجديد واستلامه مهام عمله حيث وصلت مفرزة من الشرطة الخيالة الى ساحة الاعتصام في كاور باغي في 12 تموز 1946. قامت الشرطة باصدار اوامرها للمتظاهرين بالتفرق واخلاء موقع الاعتصام وعند عدم استجابة المتظاهرين لتلك الاوامر قامت الشرطة بمهاجمتهم من ثلاث جهات متفرقة مستعملة في بداية الامر الهراوات مما نتج عنه سقوط عدد من المتظاهرين الجرحى تحت اقدام الخيول المضطربة. وعندما بدأت الجموع تتفرق في كافة الاتجاهات لم تكتفي الشرطة بذلك بل قامت باطلاق الرصاص عليهم بصورة عشوائية مما نتج عنه مجزرة راح ضحيتها عشرة قتلى وسبعة وعشرين جريحاً. لقد تبين لاحقاً من مجرى التحقيق ووتقارير المحاكم بان معظم القتلى كانت اصاباتهم من الخلف بعد ان قاموا بالتفرق والهرب.
ومع انتشار خبر المجزرة اجتاحت البلاد موجة من الاستنكار والتنديد بشركة نفط العراق لعدم تلبية حقوق العمال المشروعة وبالسلطات الحاكمة لاستعمالها تلك القسوة المفرطة تجاه المتظاهرين المسالمين العزل.


نتائج الاضراب
اما السلطات التي وضعت في موقف حرج فقد حاولت تبرير فعلتها بوضع اللوم على المشاغبين والمتصييدين في المياه العكرة.
واما شركة نفط العراق فقد وضعت في موقع حرج مشابه حاولت على اثره تهدئة الخواطر برفع الاجور الدنيا لمنتسبيها من 80 الى 140 فلساً ورفع مجموع الاجور والمخصصات اليومية الدنيا من 200 الى 310 فلساً.
اما المضربون فقد رجعوا الى اعمالهم يوم 16 تموز 1946 مهزومين لكنهم غير منكسرين كما اريد لهم. كما انهم شعروا بالمرارة العميقة وخيبة الامل الشديدة لقيام سلطاتهم الوطنية ليس فقط بالوقوف مع شركات النفط الاحتكارية الجشعة ضد مطالبهم المشروعة بل بالقيام باستعمال القسوة المفرطة ضدهم لتسيل الدماء الزكية فيسقط ذلك العدد الكبير من زملائهم بين قتيل وجريح.
ومع كل ذلك فلم تفت تلك الاحداث الدامية من عضد الحركة النقابية في الشركة بل زادتها اصراراً وانتشاراً بين منتسبي الشركة للمضي قدماً في المطالبة بتحسين احوالهم المعاشية.
فلم يمض غير اقل من سنتين على تلك الاحداث حتى قام العاملون في محطة ضخ النفط الرئيسة كي-3 بالقرب من مدينة حديثة على الفرات باضرابهم الشهير عن العمل في نيسان 1948 ومسيرتهم التاريخية المذهلة نحو بغداد لكسب تاييد الرأي العام لقضيتهم.
اضراب عمال نفط محطة ضخ كي-3 ومسيرتهم المدهشة الى بغداد
تعتبر محطة كي-3 لضخ وتصدير النفط العراقي الى البحر الابيض المتوسط والواقعة بالقرب من مدينة حديثة على نهر الفرات اكبر المحطات من حيث سعتها واهميتها وبالتالي عدد العاملين فيها.
فقد تابع عمال المحطة الاحداث المؤسفة لاضراب زملائهم عمال الشركة في كركوك في تموز 1946 التي استعملت فيها السلطات الحكومية القسوة المفرطة ليذهب ضحيتها عدد كبير من القتلى والجرحى لتنتهي بالفشل دون تحقيق كافة اهدافها. كما انهم اعتبروا قيام الشركة اثر تلك الاحداث بتهدئة الخواطر برفع الاجور غير كافيا لتحسين احوالهم المعاشية بصورة ملموسة في تلك المحطة والمحطات النائية الاخرى.
وعليه فقد قامت اللجنتان في المحطة، الاولى التي تمثل العمال والثانية التي تمثل الفنيين والكتبة وغيرهم، في بداية نيسان 1948 بالتداول للمطالبة بزيادة اجورهم وتحسين ظروفهم المعاشية. تلى ذلك عقد اجتماع لحشد كبير من العمال والمستخدمين في 22 نيسان خارج محطة كي-3 صوت خلاله على القيام بالاضراب.
بوشر بالاضراب في اليوم التالي حيث شكلت على وجه السرعة لجان فرعية لتنسيق الاعمال حيث تم توزيع اعضاء تلك اللجان على كافة المرافق النفطية والخدمية والسكنية في المحطة للتأكد من عدم حدوث اضرار او تخريب لها كما تم تعيين لجنة لحراسة مدخل المحطة للسيطرة على دخول وخروج الافراد والآليات والمواد وغيرها. لقد اخذت الشركة في ذلك على حين غرة حيث انها لم تعلم بالاضراب الا مساء ذلك اليوم لتقوم بعد ذلك بالتنديد به ووصفه بغير قانوني.
ومع استمرار الاضراب قامت الشركة بمحاولة تهدئة الخواطر بعرض بعض التنازلات البسيطة الا انها اصرت على عدم الموافقة على طلب المضربين برفع الاجور بنسبة 25% الى 40%.
اما السلطات الحكومية فقد كانت هذه المرة اكثر صبرا في معالجة الاوضاع حيث ان احداث كاور باغي الدامية لا زالت ماثلة في الاذهان. كما انها كانت في نفس الوقت تريد ان تنهي الاضراب ليستأنف ضخ وتصدير النفط باسرع وقت ممكن لحاجتها الماسة لموارد النفط المالية.
واخيرا نفد صبر السلطات فقامت في 5 ايار بارسال قوة قوية من الشرطة مزودة ببعض الآليات المدرعة الى المحطة. قامت القوة بنصب عدد من اسلحتها الرشاشة وتسيير مشاتها في عدد من المناطق النفطية والسكنية الحساسة ليتم لها بذلك السيطرة على المحطة بالكامل. لقد تم كل ذلك بحذر شديد من قبل قواة الشرطة والمضربين معا لتفادي وقوع اية صدامات بينهما. ثم قامت السلطات التي بدأ صبرها ينفد من جديد في 7 ايار بقطع الارزاق عن المضربين ليلي ذلك قطع الماء والقوة الكهربائية مما نتج عنه صعوبات كبيرة للمضربين وعوائلهم الساكنين في دور الشركة للاستمرار بالعيش داخل المحطة.
لقد اصبح المضربون بذلك في وضع حرج احلاهما مر فاما ان يستمروا وعوائلهم بتحمل المعيشة تحت تلك الظروف القاسية التي لا تطاق او انهاء الاضراب والاذعان لشروط الشركة. واخيرا تفتقت الاذهان عن فكرة جريئة للحفاظ على ماء الوجه بالقيام بمسيرة الى بغداد التي تقع على بعد 250 كلم لتقديم مطالبهم للسلطات العليا هناك.
المسيرة المدهشة الى بغداد
بدأ المضربون بمسيرتهم مع شروق الشمس في 12 ايار بطوابير منظمة تحمل لافتات مكتوب عليها (نحن عمال النفط قد قدمنا للمطالبة بحقوقنا المهضومة). ومع مضي الوقت وارتفاع درجة الحرارة في منتصف النهار بدى الاعياء الشديد على الكثير منهم ليتوقفوا اخيرا بعد قطع مسافة ثلاثين كيلومتر تقريبا. انتشرت اخبار المسيرة العجيبة بين اهالي المدن والقرى المحيطة بهم فتم التبرع لهم بعدد من السيارت والحافلات لنقلهم الى مدينة هيت القريبة منهم ليقضوا ليلتهم هناك في الجوامع وبعض الاماكن العامة لينعموا بقليل من النوم ويريحوا اجسادهم المتعبة.
إستؤنفت المسيرة صباح اليوم التالي سيرا على الاقدام بعد ان عملت السلطات على عدم توفير اية وسائط نقل لهم ليقوموا بقطع مسافة لا بأس بها بعد تعب وارهاق كبيرين. تفتقت الاذهان مرة اخرى عن فكرة القيام بالخلود الى الراحة خلال النهار تفاديا لحرارة الشمس الحارقة والقيام بدلا من ذلك بقطع مرحلتهم القادمة خلال الليل. لقد كان ذلك القرار ارتجاليا مخيبا للآمال حيث انهم وجودوا انفسهم يتخبطون في الظلام في منطقة غريبة عنهم ناهيك عن خوفهم الشديد من بعض الحيوانات الوحشية الموجودة في المنطقة اضافة الى العقارب والافاعي.
واخيرا وصلوا الى مدينة الرمادي مرهقين لكن غير منكسرين في طوابير منظمة حاملين لافتاتهم وهاتفين بشعاراتهم ليقابلوا من قبل اهالي المدينة بالترحيب وهتافات التأييد.
تركوا مدينة الرمادي باتجاه مدينة الفلوجة بسيارات وحافلات تم التبرع لهم بها من سكان المدينة منتشين وهاتفين في طريقهم بشعارات النصر وتحقيق الاهداف ليصلوا الى جسر الفلوجة على نهر الفرات ليجدوا انفسهم قد وقعوا في كمين محكم من قوات الشرطة. لقد كان ذلك مفاجأة كبيرة لهم اذهلتهم لم يستطيعوا معها الا الاستسلام لقواة الشرطة المنظمة ليتم اعتقال قادتهم وليفرق ما تبقى منهم ليجدوا طريقهم الى مدنهم.
وبهذا انتهى ذلك الاضراب بالفشل الذريع ولكن دون اراقة دماء وانتهت المسيرة الشاقة بخيبة الامل الكبيرة لتقوم شركة نفط العراق بعد ذلك بفصل عدد كبير من قادتهم وناشطيهم.
الدروس المستقاة
لقد علمت تلك الاحداث كل من شركة نفط العراق ونقابة عمال النفط والسلطات الحكومية دروسا مهمة في العلاقات العامة وضرورة حل المشاكل المتعلقة بالعمل والعمال عن طريق الصبر والاناة لإيجاد الحلول اللازمة لها.
فقد ادركت الشركة ضرورة استخدام بعض الخبراء بالعلاقات العامة والصناعية بدلا من التعنت والتعجرف من قبل موظفيها الاداريين لتقوم بتأسيس دائرة علاقات صناعية لمعالجة تلك الامور الحساسة مما نتج عنه عدم حوث اي اضراب عن العمل حتى تاريخ تأميم الشركة في عام 1972.
اما العمال فقد ادركوا بضرورة عدم التسرع بالقيام بالاضراب عن العمل ليكتسبوا مع مرور الزمن خبرة جيدة مكنتهم من الحصول على مطالبهم عن طريق المفاوضات الجدية.
اما السلطات الحكومية فقد تعلمت درسها من احداث كاور باغي ليتم لها معالجة اضراب عمال محطة كي-3 دون حدوث اية اصابات او اراقة دماء.
غانم العناز
المصدر : كتابى العراق وصناعة النفط والغاز في القرن العشرين الصادر بالغة الانكليزية عن دار نشر جامعة نوتنكهام البريطانية في ايار 2012 .

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

931 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع